كلما نظرت إلى العلاقات بين تركيا وسوريا، لم أستطع أن أضع نفسى من مقارنتها بعلاقات مصر والسودان، وانتابنى بسبب ذلك شعور قوى بالحسد والحسرة. ذلك أن ما بين مصر والسودان أقوى بكثير مما بين سوريا وتركيا، فالتلاحم بين الشعبين فى الحالة الأولى أمتن منه فى الثانية، فالتداخل الاجتماعى والعلاقات الثقافية واللغة الواحدة والنيل المشترك بين مصر والسودان مد بينهما جسورا عريضة على مدار التاريخ حتى كانت وحدة البلدين شعارا وحلما تعلق به الشعبان حينا من الدهر وذلك كله ليس متوافرا بنفس الدرجة فى العلاقات السورية والتركية. إذ رغم وحدة الدين إلا أن اللغة تظل حاجزا يحول دون تمام التواصل بين الشعبين، علما بأن ثمة قطاعات على الحدود المشتركة شملت سوريين يجيدون التركية وأتراكا يجيدون العربية، ورغم أن الذاكرة التاريخية فى الحالتين لم تخل من منغصات، فإن التوترات لم تصل إلى حد التهديد بإعلان الحرب. كما حدث مع تركيا التى لجأت إلى ذلك فى سنة 1998، بعدما أزعجتها أنشطة حزب العمال الكردستانى التى انطلقت من سوريا. فى ذات الوقت، فلا وجه للمقارنة بين ملفى لواء الإسكندرون الذى ضم إلى تركيا وظل محل نزاع مع سوريا وبين منطقة حلايب الحدودية التى لا تزال تتعرض للشد والجذب بين مصر والسودان فى بعض الأحيان. ما حرك لدىّ هذه المقارنة هو التقدم المدهش فى علاقات تركيا مع سوريا، الذى فى ظله تم تذويب كل الخلافات بين البلدين، إلى الحد الذى قلب مؤشر العلاقات بمعدل 180 درجة بحيث ألغيت فى عيد الفطر الأخير تأشيرات الدخول بين البلدين، وأصبح الانتقال يتم بالبطاقات الشخصية، وهو ما لا يحدث الآن بين أغلب الدول العربية. وتلك خطوة عميقة الأثر وبعيدة المدى أثارت ارتياحا وحفاوة بالغين على الجانبين، إضافة إلى أنها أحدثت طفرة فى مسار علاقاتها الاقتصادية. وقبل الإلغاء كان قد تم الاتفاق على تشكيل مجلس للتعاون الإستراتيجى ضم تسعة وزراء من كل جانب، يرعى تعزيز التعاون فى مختلف المجالات. كان شعورى بالحسد والحسرة ثمرة طبيعية للمقارنة التى سبقت الإشارة إليها. ذلك أن الإنجاز الكبير الذى تم على صعيد العلاقات السورية التركية (لا تسأل عن فشل مشروع الوحدة وتراجع العلاقات المصرية السورية)، هذا الإنجاز لا يكاد يقارن بالبطء والحذر الشديدين فى مسار العلاقات المصرية السودانية. وأزعم فى هذا الصدد أن الظروف التى يمر بها السودان، المهدد بالانفصال فى الجنوب وبالتمزق فى الشرق والغرب، تمثل عنصرا قويا يفترض أن يستنفر جهات القرار فى مصر، ليس فقط لأن دولة جارة وشقيقة مهددة بالانفراط، ولكن أيضا لأن ذلك يضر بالمصالح العليا بمصر. إن مصر الغائبة عن السودان تفرط فى أمنها القومى، من حيث إنها توفر ظرفا مواتيا للتمزيق، ومن ثم تسلم مياه النيل التى تمثل شريان الحياة فيها إلى المجهول وتضيق من فرص النهوض والتقدم فى البلدين، كما أنها تفتح أبواب السودان على مصاريعها لأطراف أخرى تستثمر خيراته لصالحها. أما مصر الحاضرة فهى تحول دون ذلك كله، بما يمكنها من أن تتحول مع السودان إلى كتلة قوية وناهضة، تشيع النماء والرخاء فى البلدين، وقادرة على أن تقود القارة الأفريقية بما تمثله من ثقل وثروة. وأستغرب للغاية أن يغيب ذلك كله عن الإستراتيجية المصرية، حتى أزعم أن ملف السودان أصبح لغزا فيها عصيا على الفهم. ذكرت من قبل أن وزير خارجية تركيا الذى كان كبيرا لمستشارى رئيس الوزراء زار سوريا 36 مرة خلال السنوات الخمس الأخيرة، فى حين أن وزير خارجية مصر زار السودان مرتين فقط خلال الفترة ذاتها، وما نراه الآن هو حصاد ما زرعه كل طرف، إذ من حق الأتراك والسوريين أن يبتهجوا. أما نحن فإن نصيبنا يظل يتراوح بين الحزن والحسد.