أسعار الفراخ البيضاء اليوم الخميس 20-11-2025 في الأقصر    البث المباشر لانطلاقة الجولة الثامنة من دوري أدنوك.. مواجهة مبكرة تجمع خورفكان وشباب الأهلي    اليوم، رئيس كوريا الجنوبية يلتقي السيسي ويلقي كلمة بجامعة القاهرة    مستشفى 15 مايو التخصصي ينظم ورشة تدريبية فى جراحة الأوعية الدموية    اليوم.. محاكمة المتهمة بتشويه وجه عروس طليقها فى مصر القديمة    تحذير عاجل من الأرصاد| شبورة كثيفة.. تعليمات القيادة الآمنة    اليوم.. عرض فيلم "ليس للموت وجود" ضمن مهرجان القاهرة السينمائي    شاهد، أعمال تركيب القضبان والفلنكات بمشروع الخط الأول من شبكة القطار الكهربائي السريع    سيد إسماعيل ضيف الله: «شغف» تعيد قراءة العلاقة بين الشرق والغرب    ترامب يرغب في تعيين وزير الخزانة سكوت بيسنت رئيسا للاحتياطي الاتحادي رغم رفضه للمنصب    حركة القطارات| 45 دقيقة تأخيرًا بين قليوب والزقازيق والمنصورة.. الخميس 20 نوفمبر 2025    تحريات لكشف ملابسات سقوط سيدة من عقار فى الهرم    انتهاء الدعاية واستعدادات مكثفة بالمحافظات.. معركة نارية في المرحلة الثانية لانتخابات النواب    زكريا أبوحرام يكتب: هل يمكن التطوير بلجنة؟    دعاء الفجر| اللهم إن كان رزقي في السماء فأنزله    سفير فلسطين: الموقف الجزائري من القضية الفلسطينية ثابت ولا يتغير    بيان سعودي حول زيارة محمد بن سلمان إلى الولايات المتحدة    مستشار ترامب للشئون الأفريقية: أمريكا ملتزمة بإنهاء الصراع في السودان    أدعية الرزق وأفضل الطرق لطلب البركة والتوفيق من الله    كيفية تدريب الطفل على الاستيقاظ لصلاة الفجر بسهولة ودون معاناة    مكايدة في صلاح أم محبة لزميله، تعليق مثير من مبابي عن "ملك إفريقيا" بعد فوز أشرف حكيمي    فلسطين.. تعزيزات إسرائيلية إلى قباطية جنوب جنين بعد تسلل وحدة خاصة    مصادر تكشف الأسباب الحقيقية لاستقالة محمد سليم من حزب الجبهة الوطنية    طريقة عمل البصل البودر في المنزل بخطوات بسيطة    إصابة 15 شخصًا.. قرارات جديدة في حادث انقلاب أتوبيس بأكتوبر    محمد أبو الغار: عرض «آخر المعجزات» في مهرجان القاهرة معجزة بعد منعه العام الماضي    يحيى أبو الفتوح: منافسة بين المؤسسات للاستفادة من الذكاء الاصطناعي    طريقة عمل الكشك المصري في المنزل    أفضل طريقة لعمل العدس الساخن في فصل الشتاء    أسعار الدواجن في الأسواق المصرية.. اليوم الخميس 20 نوفمبر 2025    خبيرة اقتصاد: تركيب «وعاء الضغط» يُترجم الحلم النووي على أرض الواقع    مأساة في عزبة المصاص.. وفاة طفلة نتيجة دخان حريق داخل شقة    وردة «داليا».. همسة صامتة في يوم ميلادي    بنات الباشا.. مرثية سينمائية لنساء لا ينقذهن أحد    مروة شتلة تحذر: حرمان الأطفال لاتخاذ قرارات مبكرة يضر شخصيتهم    تأجيل محاكمة المطربة بوسي في اتهامها بالتهرب الضريبي ل3 ديسمبر    خالد أبو بكر: محطة الضبعة النووية إنجاز تاريخي لمصر.. فيديو    ضبط صانعة محتوى بتهمة نشر مقاطع فيديو خادشة للحياء ببولاق الدكرور    ارتفاع جديد في أسعار الذهب اليوم الخميس 20 نوفمبر 2025 داخل الأسواق المصرية    إعلام سوري: اشتباكات الرقة إثر هجوم لقوات سوريا الديمقراطية على مواقع الجيش    موسكو تبدي استعدادًا لاستئناف مفاوضات خفض الأسلحة النووي    بوتين: يجب أن نعتمد على التقنيات التكنولوجية الخاصة بنا في مجالات حوكمة الدولة    إطلاق برامج تدريبية متخصصة لقضاة المحكمة الكنسية اللوثرية بالتعاون مع المعهد القضائي الفلسطيني    فتح باب حجز تذاكر مباراة الأهلي وشبيبة القبائل بدورى أبطال أفريقيا    ضمن مبادرة"صَحِّح مفاهيمك".. أوقاف الفيوم تنظم قوافل دعوية حول حُسن الجوار    "مفتاح" لا يقدر بثمن، مفاجآت بشأن هدية ترامب لكريستيانو رونالدو (صور)    خالد الغندور: أفشة ينتظر تحديد مستقبله مع الأهلي    دوري أبطال أفريقيا.. بعثة ريفرز النيجيري تصل القاهرة لمواجهة بيراميدز| صور    تقرير: بسبب مدربه الجديد.. برشلونة يفكر في قطع إعارة فاتي    ديلي ميل: أرسنال يراقب "مايكل إيسيان" الجديد    لربات البيوت.. يجب ارتداء جوانتى أثناء غسل الصحون لتجنب الفطريات    عصام صاصا عن طليقته: مشوفتش منها غير كل خير    تصل إلى 100 ألف جنيه، عقوبة خرق الصمت الانتخابي في انتخابات مجلس النواب    أمريكا: المدعون الفيدراليون يتهمون رجلا بإشعال النار في امرأة بقطار    ماييلي: جائزة أفضل لاعب فخر لى ورسالة للشباب لمواصلة العمل الدؤوب    خالد الجندي: الكفر 3 أنواع.. وصاحب الجنتين وقع في الشرك رغم عناده    أهم أحكام الصلاة على الكرسي في المسجد    مواقيت الصلاه اليوم الأربعاء 19نوفمبر 2025 فى المنيا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أحاديث يناير: مراجعات جمال عبدالناصر يحاكم نظامه
نشر في الشروق الجديد يوم 16 - 01 - 2019

اجتماع 3 أغسطس 67 كان الأكثر تكاملا فى شرح مقدمات الهزيمة.. وما جرى من المشير وشمس بدران
جمال لأعضاء «اللجنة التنفيذية»: يا ريت نقول الحقيقة ولو لمدة ثلاث دقائق.. النظام الحالى استنفد مداه ولا بد من نظام جديد
النظام تدهور وتدرج فى السقوط إلى الحد أننا شعرنا بالخوف من أن نتكلم وخفنا أن نقول الحقيقة
حتى نتحرر من الخوف وبعد ذلك نحرر البلد كلها من الخوف.. لابد أن نسمح بوجود معارضة فى البلد
لا بد من أن يكون نظامنا مفتوحا.. ولا بد أن تكون هناك معارضة.. كما يجب أن نفتح الباب للجرايد أن تكتب بالمفتوح
لا أريد معارضة ممسوخة.. ونظام الحزب الواحد يؤدى غالبا لقيام ديكتاتورية مجموعة معينة من الأفراد
جرى قطع الطريق على مراجعات «جمال عبدالناصر» بعد رحيله من أن تأخذ مداها فى الانتقال من نظام «مقفول» إلى آخر مفتوح
يسهل الاستغراق فى نظريات المؤامرة لتفسير انكسار الثورات المصرية منذ الثورة العرابية حتى ثورة «يناير» دون ما نظر إلى أوجه القصور الفادحة التى سمحت للمؤامرات أن تنفذ إلى مقاصدها.
بحكم أن مصر بلدا محوريا فى إقليمه وعالمه يصعب إنكار المؤامرات والوثائق متاحة لمن يريد أن يقرأ، غير أن التآمر لا يتحقق أثره إلا إذا كانت الثغرات تفسح المجال أمامه وتمهد لانقضاضاته.
النقد من الداخل يكتسب شرعيته التاريخية من طلب التصحيح والتصويب حتى لا تتكرر الأخطاء نفسها مرة بعد أخرى.
وقد كانت تجربة «جمال عبدالناصر» ملهمة لقضية النقد والمراجعة.
بعد صدمة (5) يونيو (1967) جرت مراجعات واسعة لأسباب الهزيمة وأوجه الخلل فى بنية النظام السياسى قادها «عبدالناصر» بنفسه.
فى محاضر رسمية حاكم نظامه بأقسى ما يمكن تصوره من عبارات، لم يكن مستعدا أن يسامح نفسه على أنه لم يحسم الأوضاع المختلة فى القوات المسلحة قبل أن تقع الواقعة، أو أن يتسامح مع أسباب الهزيمة.
قال: «يا ريت نقول الحقيقة ولو لمدة ثلاث دقائق!» مستلهما قصيدة روسية شهيرة ذاعت فى ذلك الوقت أمام اجتماع اللجنة التنفيذية العليا للاتحاد الاشتراكى يوم (3) أغسطس (1967).
نص محضر ذلك الاجتماع هو الأكثر أهمية وخطورة فى مراجعات «عبدالناصر» بعد الهزيمة.
هناك مراجعات عديدة تضمنتها محاضر اجتماعات أخرى، اشتد فيه نقده لنظامه، غير أن هذا الاجتماع بالذات هو الأكثر تكاملا فى شرح مقدمات الهزيمة وأوجه الخلل الأساسية، وما جرى من المشير «عبدالحكيم عامر» ووزير الحربية «شمس بدران» لحظة الهزيمة وبعدها، وفى إجابة سؤال: «ما العمل؟».
«فى رأى أن النظام الحالى استنفد مداه ولا بد من نظام جديد».
«ما يُقال فى البلد هذه الأيام.. أن النظام بياكل نفسه، والمستقبل بهذا الشكل سيكون خطيرا جدا، لذلك أنا رأيى أن نعمل فورا على تغيير النظام الSystem اللى ماشيين عليه لأنه لازم فيه خطأ. المعروف أن نظام الحزب الواحد تحدث فيه دائما صراعات فى القمة على السلطة».
«تصوروا أننا أكبر هيئة سياسية فى البلد وعددنا سبعة أعضاء فقط ولم نتكلم. لم نقل الحقائق فى وقتها…. هذا يعنى أن النظام تدهور وتدرج فى السقوط إلى الحد أننا شعرنا بالخوف من أن نتكلم، وخفنا أن نقول الحقيقة. من جانبى أنا أعترف وبنقد صريح أننى أخطأت عندما تركت الإشراف على الجيش منذ عام 1962 بحيث لم أعد على علم بما يحدث فيه. وكان قصدى فى ذلك الوقت أن أطمئن عبدالحكيم منى شخصيا، ولكن اعتبر ذلك خطأ منى».
«حتى نتحرر من الخوف وبعد ذلك نحرر البلد كلها من الخوف... لا بد من أن نسمح بوجود معارضة فى البلد، طبعا لا أتصور لتكوين هذه المعارضة أن نقول إن زكريا محيى الدين يمثل اتجاها معينا وأمامه على صبرى يمثل اتجاها آخر. وبذلك يصبح هناك حكم ومعارضة. لو بنعمل كده يبقى بنعمل مسرحية المعارضة».
«المعارضة الحقيقية هى أننا نجيب الذين يعارضوننا فعلا فى الوقت الحاضر مثل عبداللطيف البغدادى وكمال الدين حسين».
«لا أريد معارضة ممسوخة».
كانت فكرته التى عرضها على ذلك الاجتماع إنشاء حزب معارض حقيقى له جريدة تعبر عنه فيما يعاد بناء الاتحاد الاشتراكى كحزب على أن تجرى انتخابات برلمانية جديدة قبل نهاية العام على أساس قائمتين لحزبين، من يكسب يتسلم السلطة والآخر يشكل المعارضة على أن يبتعد الجيش والشرطة عن العمل السياسى باعتبارهما جهازين محترفين.
«.. لو نفذنا هذا الاقتراح سنشفى من كل الأمراض الموجودة بيننا فى الوقت الحاضر، وسيتحرر كل واحد فينا من الخوف الذى سرى بيننا من أكبر هيئة إلى أصغر هيئة».
«أنا ضد نظام الحزب الواحد لأن الحزب الواحد يؤدى غالبا إلى قيام ديكتاتورية مجموعة معينة من الأفراد».
«.. إن لم نغير نظامنا الحالى سنمشى فى طريق مجهول ولن نعلم من يتسلم البلد بعدنا».
«لم يبق فى عمر معظمنا أكثر من عشر سنوات، خاصة بالنسبة لى مع المرض اللى عندى والجهد الذى أتعرض إليه. لذلك أنا شايف ضرورة تغيير نظامنا بحيث لا يسمح النظام الجديد لشخص أو لشلة غير واعية أو جاهلة سياسيا أن تحكم البلد. البلد الذى أعطانا ثقته المطلقة بلا حدود».
وفق محضر الجلسة التالية يوم (4) أغسطس طرح «عبدالناصر» سؤاله الملح:
«إلى أين المسير بهذا النظام القديم؟».
«لا بد من أن يكون نظامنا مفتوحا، ولا بد أن تكون هناك معارضة، كما يجب أن نفتح الباب للجرايد أن تكتب بالمفتوح لأننى أعتقد أن الطهارة الثورية بعد خمسة عشر عاما (من الثورة) أصيبت كثيرا، وحتى الوحدة الفكرية بيننا أصبحت غير موجودة».
«الاستمرار فيما كنا عليه قبل 67 مستحيل، وإذا تبين لنا أن منافسينا الجدد أفضل منا وأصلب منا فلنعلن بكل شجاعة أدبية «إننا ماشيين» ليحل مكاننا الآخرون حرصا منا على خدمة الناس وعلى مصلحة البلد».
«اختيارنا للنظام المفتوح يحتاج لكثير من التغيير، وإلا سيبقى مجرد ألفاظ وستنظر إليه الناس بعدم الثقة ويقولون إننا رفعنا هذا الشعار من أجل أن تتفتح الزهور فقط على طريقة المثل الصينى ليسهل تمييزها وقطفها».
«إنى أقسمت على نفسى يوم 9 يونيو ألا أعالج الموضوعات السياسية عن طريق المساومات أو عن طريق الموازنات، كما أقسمت أيضا أن أقاتل فى سبيل مبدأى، وأن أقول رأيى بكل صراحة».
بدا «عبدالناصر» كمن يثور على نظامه.
ولم تكن أول مرة.
فى مطلع الستينيات ثار على نظامه بتحولات اجتماعية غيرت فى البنية الطبقية، وأحدثت حراكا غير مسبوق.
كأى تجربة إنسانية كانت هناك أخطاء بعضها أقرب إلى الخطايا، غير أن المسار العام حكمه مشروع واضح فى معالمه وتوجهاته.
كانت تلك ثورة اجتماعية.
فى أعقاب الهزيمة ذهبت انتقاداته لنظامه إلى ما يقارب الثورة عليه.
دعا إلى مجتمع سياسى مفتوح و«دولة المؤسسات والقانون» والقضاء على مراكز القوى داخل النظام، ودخل باجتماعات مسجلة للجنة المركزية للاتحاد الاشتراكى إلى ما يشبه المحاكمة لنظامه كله.
المثير فى تلك المحاضر المسجلة أن أغلبية الأعضاء لم يكونوا فى صف الرئيس، عارضوا فكرته بداعى أن هناك خطورة من تعديل النظام قبل إزالة آثار العدوان، أو أنه يؤدى إلى تفسيخ البلد فى هذا الظرف بواسطة المعارضة، لأن «شعبنا بخير ويثق فى هذا الرجل» كما قال «أنور السادات» فى أحد الاجتماعات المسجلة بانفعال كبير، مشيرا إلى «جمال عبدالناصر».
فكرة الانتقال إلى نظام حزبى تعددى طرحها على اجتماعات تنفيذية «مجلس الوزراء» فى أغسطس من نفس السنة، وتنظيمية «جلسات اللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكى العربى» (3) أكتوبر (1968) (19) أكتوبر (1968) لكن لم يتح له الوقت الكافى لبناء نظام جديد يحفظ قيم الثورة الرئيسية فى التحرر الوطنى والعدل الاجتماعى، ويرد اعتبار الحريات العامة والحق فى التعبير.
فى خطوة راديكالية أجريت انتخابات اللجنة التنفيذية العليا، أعلى سلطة سياسية، بنزاهة، بعد أن رفض «عبدالناصر» تعيين أعضائها، رغم الإلحاح عليه.
المراجعات جرت فى توقيت واحد مع إعادة بناء القوات المسلحة والدخول التدريجى فى مواجهات عسكرية مباشرة.
كان «عبدالناصر» مستعدا أكثر من غيره لتقبل كل نقد لأسباب الهزيمة وتفهم دواعى أصحابها مهما بدت العبارات قاسية كما فعل الشاعر «نزار قبانى» فى «هوامش على دفتر النكسة»، التى كتبها بحد سكين غضبه.
«أنعى لكم، يا أصدقائى، اللغةَ القديمة
والكتبَ القديمة
أنعى لكم..
كلامَنا المثقوبَ، كالأحذيةِ القديمة..
ومفرداتِ العهرِ، والهجاءِ، والشتيمة
أنعى لكم.. أنعى لكم
نهايةَ الفكرِ الذى قادَ إلى الهزيمة».
«يا سيدى..
يا سيدى السلطانْ
لقد خسرتَ الحربَ مرتينْ
لأنَ نصفَ شعبنا.. ليسَ لهُ لسانْ
ما قيمةُ الشعبِ الذى ليسَ لهُ لسانْ؟».
تعرضت أعمال «نزار قبانى» للمصادرة فى مصر.
جرت حملة صحفية عليه بدواعى الغيرة فى النفوس، تصدرها الشاعر «صالح جودت».
بنصيحة من الناقد الأدبى «رجاء النقاش»، كتب «نزار» خطابا إلى «عبدالناصر»، الذى لم يكن قد قرأ الديوان الغاضب.
عندما أطل على نصه أشر عليه بالنشر فى مصر دون حذف حرف واحد.
بعد سنوات قليلة من هذه القصة المثيرة اختلفت المواقع.
هاجم «صالح جودت» «عبدالناصر» بعد رحيله بضراوة فيما أنشد فيه «نزار قبانى» قصيدة رثائية فاقت شهرتها «هوامش على دفتر النكسة»:
«قتلناكَ..
يا حبنا وهوانا..
وكنت الصديق، وكنت الصدوق،
وكنت أبانا..
وحين غسلنا يدينا..
اكتشفنا..
بأن قتلنا منانا..
وأن دماءك فوق الوسادةِ..
كانت دمانا..».
«فليتكَ فى أرضنا ما ظهرْت..
وليتك كنت نبى سوانا..».
الفارق الزمنى بين القصيدتين ثلاث سنوات.
والفارق الموضوعى هو نفسه الفارق بين نظام أخفق فى حفظ سلامة حدوده ومشروع ألهم العرب ذات يوم أنهم قوة يعتد بها فى عالمهم، وأنهم يستطيعون أن يصنعوا مستقبلهم بأنفسهم.
المأساوى فى القصة كلها أن ظلال الهزيمة ما زالت ماثلة، كأنها لم تغادر المسرح أبدا.
عبرت مصر قناة السويس بقوة السلاح فى أكتوبر (1973)، وكان يفترض أن تعبر أى مشاعر لحقت الهزيمة، لكنها تكرست.
النتائج ناقضت التضحيات والسياسة خذلت السلاح.
كان الوجه الآخر لتبديد ثمار النصر فى أكتوبر هو تكريس الهزيمة فى يونيو.
بدا الأمر مقصودا حتى وصلنا إلى حافة اليأس.
ما هو متوافر حتى الآن شهادات لقادة عسكريين يروون وقائع كانوا طرفا فيها، يدافعون عن أنفسهم، أو يتهمون آخرين بالمسئولية.
حسب المثل الشائع فإن «الهزيمة يتيمة والنصر له ألف أب».
الشهادات المتوافرة رغم أهمية بعضها لا تؤسس لرواية مصرية موثقة وكاملة.
وثائق يونيو مودعة فى خزائنها، والخزائن عليها أقفال ومتاريس.
ليس من مصلحة مصر حجب ما تقصته لجنة برئاسة اللواء «حسن البدرى»، المؤرخ المعتمد للجيش المصرى بعد يونيو مباشرة عن أسباب الهزيمة.
تتوافر آلاف الوثائق عن يونيو وأسرارها غربية وإسرائيلية دون أن تكون هناك رواية مصرية واحدة لها صفة الرسمية.
الدول تنشر وثائقها السياسية والعسكرية بعد عدد معين من السنين لتضع الحقيقة أمام مواطنيها أيا كانت مرارتها حتى لا تتكرر أى أخطاء جرت فى الماضى.
الأمر نفسه نفتقده فى حربى «الاستنزاف» و«أكتوبر».
هناك شهادات ودراسات نُشرت لكن الوثائق قضية أخرى.
للوثائق كلمة أخيرة تجيب عن كل الأسئلة: كيف هزمنا ولماذا؟ وكيف قاومنا وصمدنا حتى عبرنا الهزيمة فى أكتوبر؟ ثم كيف أجهضت نتائجها السياسية؟
قيمة تقرير اللواء «حسن البدرى» أنه قد صيغت على أساسه خطط إعادة بناء القوات المسلحة من تحت الصفر تقريبا على أسس استقصائية دقيقة لأوضاع الخلل فيها قبل الهزيمة.
هناك فارق بين مراجعة التاريخ بالوثائق المثبتة لإدراك حقائقه وتصحيح الذاكرة العامة وبين تعميق الشعور بالهزيمة كقدر إغريقى لا يمكن الفكاك منه، أو نفى أسبابه.
بلغة الوثائق يتأسس الاتفاق والاختلاف على قاعدة معلومات صلبة.
بعد «يونيو» جرت مراجعتان على قدر كبير من الأهمية.
الأولى، إعادة تصحيح دور القوات المسلحة، ومنع دخولها فى غير طبيعة مهامها.
أعيد بناؤها وفق مواصفات الجيوش الحديثة، التى تُعلى من شأن الكفاءة والاحتراف وتمنع الانشغال بالسياسة.
وأُسندت مسئوليتها إلى نخبة من العسكريين الأكفاء فى القيادة العامة، كما فى جميع الأسلحة.
تصدر المشهد العسكرى المصرى أفضل ما فى البلد من كفاءات متاحة.
كانت الوطنية المصرية مستعدة أن تقدم كل ما لديها من طاقات عطاء ودم بإيمان حقيقى أن البلد تحارب معركة وجودها ومستقبلها.
لم تكن مصادفة بعد أيام من الهزيمة أن تفرض قوات محدودة فى «رأس العش» كلمتها على الإسرائيليين وتوقع بهم خسائر فادحة فى لحظة انتشاء عسكرى.
جرت بطولات تقارب الأساطير فى ظروف شبه مستحيلة.
«عضم إخوانا نلمه.. نسنوا.. ونعمل منه مدافع».
بكلمات بسيطة فى بنائها الشعرى وصادقة بزخمها الوطنى نشأت ظاهرة فرقة «أولاد الأرض» وبدا قائدها الكابتن «غزالى» ملهما لقدرة المقاومة على اجتراح المعجزات.
«يا بيوت السويس يا بيوت مدينتي
أستشهد تحتك وتعيشى أنتِ».
تلك الكلمات ل«عبدالرحمن الأبنودى» أنشدها صوت «محمد حمام» العميق الشجى مع فرقة «أولاد الأرض»، كما لو أنها رسالة أن البلد متأهبة للقتال أيا كانت التضحيات.
أفضل أغنيات أكتوبر لحنت وغنيت قبل أن تدوى المدافع فوق الجسور كأنها نبوءة مبكرة بالنصر الممكن، كما أغنية: «راجعين بقوة السلاح» فى فيلم «أغنية على الممر».
بهذه الروح تمكنت القوات المصرية من خوض حربى «الاستنزاف» و«أكتوبر»، وكان الجندى المصرى العادى بطلهما بلا منازع.
شاع وقتها شعار «يد تبنى ويد تحمل السلاح».
البناء والحرب معا، القتال والتصحيح فى الوقت نفسه.
مثلت الهزيمة تراجعا فادحا فى المشروع القومى العربى، لكنها لم تكن نهاية المطاف.
كانت السنوات التى أعقبت الهزيمة أفضل سنوات العسكرية المصرية، وأفضل سنوات «جمال عبدالناصر»، بالنظر إلى حجم العطاء الذى بُذل.
لماذا يُراد حتى الآن تكريس الهزيمة فى الوجدان العام، رغم النصر العسكرى فى «أكتوبر»؟
فى الحرب العالمية الثانية سحقت القوات الفرنسية.
احتلت عاصمتها باريس، ودخلها الزعيم النازى «أودلف هتلر» مزهوا لالتقاط الصور التذكارية عند برج إيفل.
بعد تحريرها وضعت لوحات تذكارية عند الأماكن والأبنية التى سقط بجوارها شهداء المقاومة الفرنسية.
لم يجئ تحرير فرنسا بفضل قوات الجنرال «شارل ديجول» وحدها، فقد قادت العمل العسكرى القوات الأمريكية.
لم يكن فى مصر متعاونون علنيون مع قوات الاحتلال كما حدث فى فرنسا، ولا قادت معاركها بالنيابة قوات أجنبية.
مصر التى انتصرت بغض النظر عن أية مساجلات فى حجم النصر كان يتعين عليها أن تطوى صفحة الهزيمة، غير أن ذلك لم يحدث عن سبق إصرار، كأننا لم نحارب ولم ننتصر، وكأن إسرائيل قوة لا تقهر والهزيمة قدر.
بين تحولات السياسة والانقلابات الاستراتيجية نشأت صناعة الهزيمة فى الوجدان العام، ف«أكتوبر آخر الحروب»، و«لن نحارب بالنيابة عن الفلسطينيين والعرب لآخر جندى مصرى»، كما تردد على نطاق واسع فى الخطابين الإعلامى والسياسى.
جرى تسطيح قضية الصراع العربي الإسرائيلى، وقضية الأمن القومى المصرى الذى دافعت عنه قواتنا قبل أى شىء آخر.
أُهدرت التضحيات الهائلة التى بُذلت فى ميادين القتال، ونشأت طبقة جديدة وصفت فى البداية ب«القطط السمان»، لتساند السلام مع إسرائيل.
استشعر جيل كامل وهب حياته لقضية تحرير بلاده بقوة السلاح الخديعة، فقد حارب من أجل حلم ليستيقظ على كابوس.
كانت تلك الهزيمة الحقيقية، التى أرادوا إخفاءها وراء تكريس «عقدة يونيو» فى الوجدان العام جيلا بعد آخر.
جرى قطع الطريق على مراجعات «جمال عبدالناصر» بعد رحيله من أن تأخذ مداها فى الانتقال من نظام «مقفول» إلى آخر مفتوح، ومسخ فكرة التعددية السياسية على نحو أفضى إلى إجهاض جوهر التجديد الديمقراطى فى بنية نظام «يوليو».
وكانت تلك هزيمة أخرى أخفيت وراء قنابل دخان طلبت إنهاء أية إنجازات تحررية واجتماعية لثورة «يوليو».
رغم ذلك تظل مراجعات «عبدالناصر» بعد هزيمة «يونيو» ذات قيمة أخلاقية وسياسية لا تُضارع فى طلب التصحيح والتصويب ورد اعتبار الثورات.
اللجنة التنفيذية في أحد الاجتماعات : من اليمين إلى اليسار: ضياء الدين داود، محمود فوزي ، حسين الشافعي، جمال عبد الناصر، أنور السادات، علي صبري ولبيب شقير
نكسة يوليو
اجتماع مجلس قيادة الثورة
شمس بدران


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.