رأيت القاهرة من باريس «مدينة مسكينة».. وأعيش فى مصر لأجل خاطر زوجتى شعرت بخيبة الأمل حين أخطأتنى جائزة الدولة «بهجورة» لم تمنحنى سوى «عود القصب».. والسفر حقق لى أكثر مما أردت المرأة تعنى لى الجنس فقط.. والحب «أهم حاجة فى الحياة» وضعت قبلة على يد أستاذى «بيكار» قبل وفاته.. ولا أرى شيئًا بعد الموت غير الظلام ما زلت عند رأيى فى صلاح جاهين.. وأم كلثوم قالت لى: أنا حلوة ترسمنى وحشة ليه؟ فى براءة الأطفال وجرأتهم، يمضى الفنان التشكيلى ورسام الكاريكاتير المصرى العالمى جورج البهجورى، حاملا أقلامه الملونة، ليواصل رحلة تقترب من عقود سبعة فى رحاب الفن، كان آخر فاعلياتها، هو افتتاح معرضه «شمس وقمر» بقاعة «بيكاسو» فى حى الزمالك الشهير، قبل أيام. فى الطريق إلى لقاء البهجورى، دارت فى البال أسئلة عدة عن ذلك الصعيدى المولود عام 1932 فى قرية «بهجورة» فى إحدى ضواحى مركز نجع حمادى فى قنا، قبل أن ينتقل رفقة والده الذى عمل مدرسا للإنجليزية بالمنوفية، ليحط رحاله فى عاصمة البلاد عند سن الشباب، طالبا بكلية الفنون الجميلة بالقاهرة. ماذا أخذ جورج عبد المسيح بشاى شنودة من بهجورة غير نسبة اسمه إليها، وماذا حمل معه من المنوفية ومن بعدها القاهرة، قبل أن يقفز بعيدا إلى باريس المعروفة بعاصمة النور، باحثا عن أشياء لم يجدها فى القاهرة التى رآها من بعيد «مدينة مسكينة» كما يقول فى حواره مع «الشروق». عن رحلته الممتدة، بما فيها من أسى وانتصار، وعن معرضه الأخير، وإجابات الأسئلة التى شغلته طيلة حياته المديدة، وعن قصته مع جوائز الدولة التى يقول إنه شعر بخيبة الأمل حين أخطأته طيلة السنوات الماضية، دار الحوار التالى: سبعون عاما تقريبا تفصل بين أول معرض فنى نظمته، وأنت طالب بالفرقة الأولى فى كلية الفنون الجميلة بالقاهرة، ومعرضك الأخير «شمس وقمر».. كيف تنظر إلى هذه التجربة الممتدة؟ أراها تجربة جميلة جدا، وأنا سعيد جدا أننى دخلت هذا العالم وأحببته. عالم الفن التشكيلى عن طريق الكاريكاتير. نفسى راضية تماما. هل ما زالت لديك بعض الأحلام التى لم تحققها بعد؟ لا أبدا.. حققت كل أحلامى بدخولى فن الرسم. من بين لوحات معرضك الأخير، لوحة رسمت نفسك فيها فى حجم صغير مجاورا بابلو بيكاسو بحجم أكبر، بشكل ملحوظ، وأنتما تتبادلان التحية.. بم تصف هذه العلاقة بينكما؟ شعرت بعلاقة غريبة جدا، مع بيكاسو، منذ كنت طالبا فى الفرقة الثانية بكلية الفنون الجميلة. وجدت أننى أقلد لوحاته وأرسم مثلما يرسم، فقرأت تاريخ حياته فى كتاب واثنين وثلاثة، وفهمت أنه قريب منى. بعد بيكاسو، من الذين أثروا أيضا فى جورج البهجورى؟ بيكاسو كان له الأثر الأكبر فى مسيرتى، وتأثرت أيضا بمودليانى وفان جوخ ورينوار، كما تأثرت بفنانين مصريين مثل محمود سعيد وحسن سليمان وراغب عياد. كيف كان شكل هذا التأثير.. هل اقتصر على الجانب الفنى أم كان للجانب الإنسانى نصيب أيضا؟ كان لى تواصل إنسانى أكبر مع حسين بيكار، فقد كنت أتعلم كأستاذ لى فى كلية الفنون الجميلة، وكانت أخلاقه عظيمة كذلك، وقد كان يعاملنى كأخ، وكنت سعيدا جدا بذلك. ما أبرز مواقفك مع بيكار؟ كنت فى بيته وهو على فراش الموت، وكدت أبكى وأنا غير قادر على مواجهة ذلك الموقف. وقال لى: «تعالى ياض أبوسك علشان أنا ماشى»، فذهلت، ولم أجد مكانا لتقبيله فيه، فقد كان وجهه مليئا بالتجاعيد، فسحبت يده وقبلتها. كان بيكار حالة غريبة. هكذا هى الحياة فعندما يتعب المرء يمشى، ولا ارى شيئا بعد الموت سوى الظلام كان من أساتذتى أيضا عز الدين حمودة، وكامل مصطفى، والأخير كان أستاذا فى التكنيك وسحر الألوان. إلى أى مدى أثرت البيئة فى بهجورة فى سنوات طفولتك الأولى على مشوارك الفنى؟ بهجورة لم تمنحنى غير عود القصب، فهى مشهورة بقصب السكر، وهو ما جعلنى قريبا أكثر إليها. لكنك قلت فى حوار سابق إنك كنت تختبئ من الكبار أحيانا لترسمهم بشكل ساخر ردا على استبعاد الصغار من مجالسهم؟ نعم.. وكانت هذه بداية مشوارى الفنى. وماذا تحفظ ذاكرتك من مشاهد الانتقال من قنا إلى المنوفية؟ عمل والدى مدرسا للإنجليزية، وكان يدرس لى مع الطلبة زملائى بالفصل، وكنت أراه مع أمى وزوجة أبى، فقد كان مشاغبا ولذيذا، وكان يعاملنا كمدرس بشكل مهذب ورقيق، وأخرج العصا لنا مرة واحدة فقط، وأقنعناه فيما بعد أنه لا داعى لها. كان يوفر لنا دوما البيئة الجميلة. قمت بنقلة كبيرة لمسرح حياتك وفنك حين انتقلت من القاهرة إلى باريس فى سبعينيات القرن الماضى.. صف لنا ما جرى؟ جئت القاهرة للدراسة كما تعرف، ثم قررت السفر إلى باريس، لأنه كانت تنقصنى أشياء كثيرة جدا أريد معرفتها. مثل ماذا؟ أشياء عن المرأة وحرية الرأى، ورد الفعل لدى الناس. كانت تشغلنى مسائل كثيرة فاضطررت للذهاب إلى باريس. وهل وجدت تلك الأشياء فى باريس؟ وجدت أكثر مما أردت.. الناس تتحدث مع بعضها، وتسود المحبة بينهم، واللغة سهلة.. تجلت معى باريس. كيف كنت تنظر إلى القاهرة وأنت فى باريس؟ كنت أراها مسكينة.. بلد صغيرا، لكننى عندما عدت للعمل كرسام فى روزاليوسف، بعدما نضج الإحساس عندى، استطعت أن أتعامل معها شعوريا كما لو كانت مثل فرنسا. كيف جاء قرار العودة من باريس؟ ما زلت متعلقا بباريس حتى اليوم، وبيتى هناك، وأذهب إليها سنويا فترة من الوقت، لكننى أعيش فى مصر بتحريض من زوجتى لأنها تريد العيش فى الوطن. على ذكر الوطن، إلى أى مدى تحققت أحلامك الخاصة بالوطن كفنان؟ مصر ليست حرة تماما، ونتمنى لها حرية كاملة، ولو أصبحت حرة تماما، ستصبح الحياة سعيدة أكثر. ما هى شروط الحرية الكاملة من وجهة نظرك؟ أن يكون هناك صراع نحو حرية الرأى، وهذا سيأتى من تلقاء نفسه. على امتداد مشوارك الفنى، هناك أسماء نجدها كعلامات مثل رسوماتك لشخصية جمال عبدالناصر وأم كلثوم.. حدثنا عن بعض تلك الصور فى رحلتك الفنية. أم كلثوم شخصية عالمية. تفرح حين تفرح البلد، وتحزن حين تكون البلد حزينة مثلما حدث فى حالة النكسة عام 1967، إلى درجة أنك حين تسمع أم كلثوم تكاد تجعلك تبكى. وماذا عن الكاريكاتير الذى رسمته لعبدالناصر وأثار مشكلة فى روزاليوسف؟ كانت مشكلة صغيرة. رسمت غلافا لروزاليوسف بعد أسبوعين أو ثلاثة من عملى فى المجلة، وكان الغلاف عبارة عن عبدالناصر فى صورة عملاق يلمع قبة البرلمان لإقامة ديمقراطية جديدة، يجاوره صلاح سالم فى حجم صبى صغير يعاون عبدالناصر، وهو يمسك السلم والجردل. غضب صلاح سالم، واتصل بروزاليوسف وأراد لى الرفت من العمل، لكن إحسان عبدالقدوس، رئيس تحرير المجلة وقتها، دافع عنى، وقال له: ده رأيه كدة.. فرد صلاح سالم: يعنى رأيه إنى صغير وحقير كدة؟ ثم فوجئت باتصال من صلاح سالم، وكان رئيسا لمجلس إدارة جريدة الجمهورية، يقول لى: ما تيجى معانا الجمهورية، وبالفعل ذهبت والتقيت رئيس تحريرها حينذاك كامل الشناوى، لكننى قلت لهم إننى لا أستطيع الاستغناء عن روزاليوسف. وما حقيقة غضب أم كلثوم بسبب صورة رسمتها لها؟ كل صورى تقريبا كانت تثير غضبها، وكانت تقول لى: أنا حلوة ترسمنى وحشة ليه؟ أنا مش عجوزة وتخينة كدة. قلت فى تصريح سابق إنك تبرز فى رسم الوجوه ما بداخل الشخصيات، وأن الابتسامات غير صادقة.. ألا توجد هناك ابتسامات صادقة فى الحياة من وجهة نظرك؟ رسمت الناس وهم يضحكون ولا أرسمهم وهم حزانى، لكن السخرية حاضرة. هناك نوع من السخرية فى كل لوحاتى. هل تمثل السخرية موقفا لجورج البهجورى من العالم؟ نعم. نظرتى للعالم ساخرة كلها، كما أن السخرية تفسر العالم بالنسبة لى، فهو ينطوى على مسائل ساخرة فى تفاصيل حياة البشر. ولن تجد فى أعمالى لمحة نفاق أو مجاملة، لذلك أرسم ما هو أقرب إلى الواقع ولكن بصورة ساخرة. هل رسمت يوما ما ندمت عليه فيما بعد؟ لا، لم أندم على شىء. وهل ما زلت ترغب فى رسوم بعينها لم تنجزها بعد؟ لى رسومات فى البال أرغب فى رسمها حين يأتى وقتها. وماذا عن الرسم على الرسم من خلال تقليد رسم معين لبيكاسو أو غيره؟ كثير من الفنانين أخذوا من أعمال فنانين قبلهم ونقلوها بطريقة مختلفة عن طريقتى، وأنا نقلت عن بيكاسو ومودليانى وراغب عياد. قلت فى كتابك «الرسوم الممنوعة» إن الفنان صلاح جاهين نقل عن فنانين أوربيين، وهذا الكلام أغضب الكثيرين كما تابعنا.. ما زلت عند هذا الكلام؟. ما زالت طبعا عند هذا الكلام. وكيف استقبلت ردود الفعل الغاضبة؟ تحملتها، لأنهم اقتنعوا بما قلت بعد ذلك. وكيف كنت تواجه النقد فى العموم؟ كنت تلقائيا وطفلا ساخرا، ومن حقى التمسك بهذا الطفل الساخر. ما زلت ترى نفسك ذلك الطفل الساخر وأنت مقبل على التسعين؟ نعم، ما زالت متمسكا بهذا الطفل الساخر. وكيف كان هذا الطفل يواجه متاعب الحياة ومصاعبها؟ متاعب الحياة مسألة مفروغ منها، فالحياة متعبة بشكل عام، لكن لا علاقة بذلك بأدائئ فى الفن. كيف تنظر لجدل العلاقة بين الفن والأخلاق الذى يثار بين الحين والآخر؟ هذا لا يسرى على الرسم الساخر وفن الكاريكاتير، فهو لا ينطبق إلا على الكتاب والرسامين العاديين. قلت أخيرا إن فنانى الكاريكاتير الشباب بلا موهبة.. ما مدى صحة ذلك التصريح؟ لم يظهر رسام كاريكاتير واحد له شخصية كبيرة خلال السنوات الأخيرة. لكن هناك أكثر من رسام ينشرون أعمالهم يوميا فى الصحف؟ هم رسامون عاديون، من الممكن أن يكونوا أقوياء فى الأفكار، لكن رسمهم ضعيف، وخطوطهم ضعيفة. شكوت فى مرارة، من قبل، غياب تقدير الدولة لك.. ألم تحصل على أى تقدير رسمى بعد؟ حصلت على جائزة واحدة باسم جائزة «البراعة فى البورتريه» من وزارة الثقافة منذ عشر سنوات. كم كانت قيمتها؟ 50 جنيها. هل تقدمت لهذه الجائزة وقتها أم بادرت الوزارة بالاتصال بك؟ لا، الوزارة هى التى اتصلت، ومنحونى شهادة بالجائزة. هل تذكر ما كان مكتوبا فى تلك الشهادة؟ كان مكتوبا فيها أننى رسام موهوب على مستوى عال جدا. إلى أى مدى تشعر بأنك تستحق الأفضل؟ كنت مرشحا لجائزة الدولة التقديرية لعام 2017، ورفضونى ولا أعرف السبب. بم شعرت حين أخطأتك الجائزة؟ شعرت بأسى وخيبة أمل، وما زلت أعتقد أننى لابد أن أحصل على الجائزة السنة القادمة. يحضر الأشخاص العاديون، بكثرة، فى لوحات معرضك البالغ عددها 45 لوحة.. فكيف تنظر إلى هؤلاء العاديين من أمثال ماسحى الأحذية وبائعى البطاطا فى الشوارع وغيرهم؟ هؤلاء هم أبطال معرضى، وهم أبطال لوحاتى، وأراهم أبطالا فى الحياة اليومية كذلك. هل تذكر أول لوحة فنية رسمتها وبعتها؟ نعم، كانت عبارة عن إعلان لشركة أدوية فى قنا، عن أضرار الإسراف فى شرب المياه، وقد كنت طفلا وقتها، وقدمت لهم الرسم، واستخدموه، لكن لم يمنحونى أموالا. ماذا كانت تفاصيل تلك اللوحة؟ رسمت فيها شخصا بطنه منفوخ، ويشرب الماء من البلاص (إناء فخارى يستخدمه أهل الصعيد فى نقل وحفظ المياه والسوائل الأخرى مثل العسل والألبان وغيرها). ما أكبر سعر بعت به إحدى لوحاتك؟ ربع مليون جنيه، وكانت رسمة لماسح أحذية، وبعتها فى القاهرة تقريبا سنة 2000. وما أقل سعر بعت به لوحاتك؟ يكون السعر زهيدا جدا أو حتى ببلاش. وما الذى تمثله المرأة لجورج البهجورى؟ الجنس. الجنس وفقط؟ (بعد صمت) نعم، وفقط. وما الحب من وجهة نظرك؟ الحب أهم حاجة فى الحياة.