أى تطلع للمستقبل يخسر رهاناته إذا لم يستند إلى أفكار ورؤى تحذر من المخاطر المحدقة، وتعمل على تجاوزها بقوة التوافق الطوعى لا الخوف والإكراه. الأفكار والرؤى مهمة المثقفين. وهذه مسألة بيئة عامة تدعم الحريات الدستورية فى الاعتقاد والفكر والرأى والبحث العلمى والإبداع الفنى والأدبى والصحافة والإعلام ولا تصادرها، تحتضن الكفاءات والمواهب الشابة ولا تطردها خارج الحلبة. «أنيميا الأفكار» تؤسس لفراغ موحش تنمو فيه جماعات العنف والإرهاب وتتغذى عليه الفتن الطائفية، ويمتنع أى إصلاح ممكن ويفقد المجتمع أية بوصلة تحدد مواطن القوة والضعف وسبل التصحيح والتصويب. بأية نظرة موضوعية فإنه لا يمكن إنكار حالة الانكفاء التى يبدو عليها الآن المثقفون المصريون، أو التقليل بالتجاهل من مستوى خطورتها. لا يوجد تعريف جامع مانع للمثقف. التعريفات تختلف بقدر زوايا النظر وخبرة التجارب والانحيازات، لكنها تكاد تجمع على أنه رؤية وموقف قبل أى شىء آخر. هناك فارق حاسم بين المتعلم والمثقف. الأول لديه معرفة بمجال تخصصه. والثانى تتسع نظرته إلى ما هو أبعد من شواغله المباشرة. ليس كل متعلم بالضرورة مثقفا. قد تنطبق صفة المثقف على مواطنين بسطاء يقرأون ويتابعون الشأن الحالى، يتفاعلون مع حركة الفكر بقدر ما يستطيعون، يتذوقون الفنون، ولديهم إحساس بالجمال بقدر ما تسمح ظروفهم. المثقف هو من يمتلك بالاطلاع والاجتهاد القدرة على استيعاب حقائق الموقف العام وبناء رؤى وتصورات ومواقف على قدر من التماسك. بتوصيف المفكر الإيطالى «أنطونيو جرامشى»، فإنه يرتبط بحركة مجتمعه وقواه العاملة لبناء كتلة تاريخية تزيح الطبقات المهيمنة هذا هو «المثقف العضوى». وبتوصيف الفيلسوف الفرنسى «جوليان بندا» فإن أدواره تصوغها فكرة الضمير قبل أى التزام آخر وهذا هو «المثقف النبى». ما بين «المثقف العضوى» و«المثقف النبى» تتبدى صور عديدة ومتناقضة. «بندا» نفسه هو من صك عبارة «خيانة المثقفين». «المثقف الخائن»، هو أحد تجليات أزمات المثقفين. كأى خيانة فإن أثقالها لا يصعب الإمساك بحقائقها. إذا ما تفشت خيانات الأفكار فإن الثقة تتبدد ويدخل المجتمع فى متاهات بلا نهاية. المشكلة الحقيقية فى «المثقف المهزوم»، وهو حالم وممزق ومنكفئ. ينطوى أدب «بهاء طاهر» على شخصيات روائية تجسد قدرا كبيرا من الهزيمة الداخلية. «نشعر أننا شبحان من عصر مات.. نعرف أن عبدالناصر لن يبعث من جديد، وأن عمال العالم لن يتحدوا». «لم نقل ذلك أبدا، بل كنا نقول نكسة باستمرار: كنت أقول لكى أقنع نفسى قبل أن أقنعه أن الشعب لن ينسى ما فعله من أجله عبدالناصر». «أقول له.. إن ثورته ستصحو على أيدى الناس مرة أخرى ذات يوم». «أقول أشياء كثيرة.. يستمع إلى وهو يهز رأسه فى عناد». هكذا صاغ الأزمة فى «الحب فى المنفى»، بصياغة درامية أخرى لصورة «المثقف المهزوم» ينتحر المأمور «محمود عزمى» فى نهاية رواية «واحة الغروب»، تحت وطأة شعوره بأنه خان كل شىء فى حياته. لم يخن الثورة العرابية لكنه تخاذل فى التحقيقات التى أجريت معه بعد هزيمتها، تنكر لها وسب زعيمها «أحمد عرابى»، للحفاظ على وظيفته ضابطا فى البوليس. فى شعوره بالخيانة نوع من النبل لا يستشعره آخرون يسبون معارك أوطانهم التى دفعت ثمنها دما. فى عالم السينما جرت اقترابات مماثلة من شخصية «المثقف المهزوم»، الذى يشعر بالعجز عن تلبية ما يأمل فيه أهله وناسه الذين انتظروا عودته وخاب أملهم فيه كفيلم «يوسف شاهين»، «عودة الابن الضال». صورة «المثقف الانتهازى» تصدرت أعمالا أدبية وفنية عديدة، أهمها ما كتبه «نجيب محفوظ». «أأنت اشتراكى مخلص؟». «طبعا». «لم من فضلك؟». «للثورة أعمال لا يسع الأعمى إلا الإقرار بها». «والبصير؟». «إنى أعنى ما أقول». «إذن فأنت ثورى اشتراكى؟». «بلا أدنى شك». «مبارك، خبرنى الآن أين نقضى ليلتنا». هكذا تقمص «سرحان البحيرى» الانتهازى والمتورط فى فساد مالى وأخلاقى دور المناضل الاشتراكى فى روايته «ميرامار». فى رواية «اللص والكلاب» تبدت صيغة أخرى من نفس القماشة السياسية والإنسانية لخصتها شخصية «رءوف علوان»، الذى أقنع «سعيد مهران» بأفكاره التقدمية قبل أن ينقلب هو على هذه الأفكار، ويدفع اللص التائب إلى قتل أبرياء دون قصد. وكانت شخصية «محجوب عبدالدايم» فى «القاهرة الجديدة» ذروة السقوط الأخلاقى للمثقف الانتهازى، حيث كل شىء حتى الشرف الشخصى قابل للمقايضة وتلقى الأثمان. فى كل عصر هناك من يلعبون الدور نفسه، كأن «محجوب عبدالدايم» شخصية لا تموت. العلاقة مع السلطة إحدى الإشكاليات الكبرى فى النظر إلى دور المثقف. فى رأى «إدوارد سعيد» أن الاقتراب من السلطة ينفى صفة المثقف، الذى هو بالتعريف ناقد لها. رغم التعسف فى إطلاق الأحكام، فلكل حالة ظروفها، مثل العلاقة ما بين «شارل ديجول»، الرجل الذى قاد المقاومة الفرنسية ضد الاحتلال النازى و«أندريه مالرو»، وزير ثقافته صاحب رواية «الأمل» عن الحرب الأهلية الإسبانية التى ألهمت أجيالا. أسوأ أنواع المثقفين من يطلق عليهم فى الحديث اليومى المصرى: «الطبالون»، وهم ورثة «الطبلخانة» الذين كانوا يتصدرون مواكب أمراء المماليك بالطبول والدفوف. الناس تشم رائحة الكلام، توافق أو تختلف، لكن تحترمه إذا ما رأت فيه تعبيرا حقيقيا عن صاحبه وأفكاره. بين التعريفات المختلفة والتوصيفات المتناقضة للمثقفين، فإن ما له قيمة حقيقية يبقى ويؤثر ويلهم بقدر عمق الأفكار والتصورات وجدية الالتزام بها والحوار بموضوعية حولها. يصعب أن يجمع المثقفون على موقف واحد فى قضية واحدة، لكن عندما يحدث مثل هذا الإجماع يتغير التاريخ. حدث ذلك فى جميع الثورات المصرية والمنعطفات السياسية بلا استثناء واحد. كان التجلى الأخير اعتصام المثقفين فى مبنى وزارة الثقافة قبيل (30) يونيو. بدا المشهد جليلا، اجتماعات وحوارات طوال الوقت، غناء وعروض باليه فى الشارع كما لم يحدث من قبل. تصدر ذلك المشهد روائيان كبيران «بهاء طاهر» و«صنع االله إبراهيم»، وتدفق عليه فنانون ومبدعون من جميع الأجيال والاتجاهات الوطنية، طلبا للدولة المدنية الديمقراطية الحديثة. بعده حدث انكفاء دون التفات يذكر إلى خطورته على مناعة البلد وقدرته على الإبداع وتجديد قوته الناعمة وبناء تصورات تساعد على تأسيس مشروع ثقافى له طاقة الالتحاق بعصره. بالتعريف الثقافة قضية حرية تفكير وإبداع وبيئة عامة تشجع على النقد والحوار بندية.. ولا يوجد مدخل آخر لدرء خطر انكفاء المثقفين على المستقبل المصرى.