ها هى أنجيلا ميركل تعلن تخليها عن رئاسة الحزب المسيحى الديمقراطى، وعزمها عدم الترشح مجددا لمنصب المستشارية عندما تنتهى الدورة البرلمانية الحالية فى 2021. فى ديسمبر 2018، سينتخب المؤتمر العام للمسيحى الديمقراطى رئيسا جديدا من بين طيف من المرشحين أبرزهم وزير الصحة الحالى ينس شبان والسياسى العائد من الاعتزال فريدريش ميرتس والسيدة أناجريت كرامبكارنباور التى تشغل منصب السكرتير العام للحزب. وبينما يتمتع شبان بتأييد المجموعات اليمينية المحافظة بعد أن دأب على توجيه الانتقادات لسياسات اللجوء (استقبال اللاجئين السوريين فى صيف 2015) والسياسات البيئية (إيقاف جميع المفاعلات النووية لإنتاج الطاقة بحلول 2022) التى طبقتها المستشارة ميركل وكرر بعض المطالب الشعبوية مثل حظر الحجاب فى الفضاء العام، ينافس ميرتس على حصد تأييد ذات المجموعات بأجندة اقتصادية ليبرالية وتوجهات اجتماعية محافظة (كرفض زواج المثليين جنسيا على سبيل المثال) وبماضى صراعه مع ميركل الذى تسبب فى اعتزاله السياسة واستقالته من منصب رئيس الكتلة البرلمانية للمسيحى الديمقراطى فى 2009. أما السيدة كرامبكارنباور، وهى كانت تشغل منصب رئيس وزراء ولاية سارلاند فى جنوب غرب ألمانيا بين 2011 و2018، فتمثل المجموعات المدافعة عن اقتصاد السوق الاجتماعى وعن توجهات بيئية تقدمية وممارسات لجوء متسامحة وينظر إليها لذلك على أنها مرشحة «الاستمرارية» أى مرشحة تواصل سياسات ميركل بحصيلتها التى ترضى البعض داخل المسيحى الديمقراطى وفى المجتمع الألمانى وتثير حنق البعض الآخر. المستشارة الحديدية التى تحكم قاطرة الاتحاد الأوروبى منذ 2005 ونجحت فى تجاوز العديد من الأزمات العاصفة كالأزمة المالية فى 2008 بتداعياتها الكارثية على العديد من البلدان الأوروبية والخروج البريطانى من عضوية الاتحاد وصعود اليمين الشعبوى فى شرق ووسط وشمال وجنوب القارة العجوز، هذه السيدة لم تعلن خطة انسحابها المنظم من السياسة الألمانية إلا بعد أن توالت الإخفاقات الانتخابية للحزب المسيحى الديمقراطى خلال العامين الماضيين. فقد أضحت معدلات التأييد الشعبى للحزب، إن على مستوى الولايات (16 ولاية) أو على المستوى الفيدرالى، تتراوح حول 30 بالمائة من أصوات الناخبين بعد أن كانت حول 40 بالمائة قبل 2016. والتقط اليمين المتطرف مجسدا فى حزب البديل لألمانيا أغلبية ناخبى المسيحى الديمقراطى المحبطين بفعل استقبال اللاجئين وبسبب تطبيق سياسات اجتماعية غير محافظة (مجددا كزواج المثليين) ودفع بهم إلى التصويت لصالحه، وبأصواتهم صار اليمين المتطرف حاضرا فى جميع برلمانات الولايات ويملك حاليا 94 مقعدا (من إجمالى 709 مقاعد) فى البرلمان الفيدرالى (البوندستاج) . وتزايدت مصاعب ميركل مع التراجع الأكثر حدية لشعبية شريكها الحالى فى الحكم، الحزب الاشتراكى الديمقراطى. لم يعد الاشتراكيون الديمقراطيون أصحاب التاريخ السياسى الطويل بقادرين على حصد ما يتجاوز حاجز ال20 بالمائة من أصوات الناخبين على مستوى الولايات، بل تقهقروا فى بعض الولايات إلى نسب تدور حول 10 بالمائة تاركين حزب تقدمى كالخضر وأحزاب يمينية محافظة تتخطاهم وتحيلهم إلى وضعية الحزب الصغير (كما حدث أخيرا فى الانتخابات البرلمانية لولاية بافاريا فى الجنوب الشرقى). *** فسر توالى الإخفاقات الانتخابية للمسيحى الديمقراطى وللاشتراكيين الديمقراطيين على أنه دليل تراجع الرضاء الشعبى عن سياسات ميركل، ولم يكن فى ذلك التفسير ما يجافى المنطق أو الحقيقة. فقد رتبت كل من إنسانية ميركل فيما خص اللجوء وتقدميتها لجهة القضايا الاجتماعية والبيئية شعور الأعضاء المحافظين داخل حزبها وعموم الناخبين المحافظين الذين دوما ما اعتبروا المسيحى الديمقراطى ممثلهم الوحيد فى الحياة السياسية، رتبت شعورهم بالاغتراب ودفعت قطاعا مؤثرا بينهم إما إلى الرحيل إلى اليمين المتطرف أو إلى العزوف عن المشاركة (وفى بعض الحالات القليلة ووفقا لدراسات السلوك الانتخابى، رحل بعض المحافظين من تأييد المسيحى الديمقراطى إلى تأييد الليبراليين المدافعين عن اقتصاد السوق ممثلين فى الحزب الديمقراطى الحر) . بين 2016 و2018، رحل ما يقرب من 10 بالمائة من الناخبين المحافظين بعيدا عن المسيحى الديمقراطى، وفرضوا على الحزب أزمة داخلية خانقة، ووضعوا المستشارة ميركل فى وضعية وهن مستمر وأفقدوها الكثير من فاعليتها السياسية. ولم يأت ذلك التفسير للإخفاقات الانتخابية المتوالية من داخل المسيحى الديمقراطى فقط أو من بين أوساط اليمين المتطرف المعتاش على تراجع شعبية ميركل، بل روج له داخل الاشتراكى الديمقراطى شريكها الحالى فى الحكم. بنفعية حزبية بائسة، اتجه الاشتراكى الديمقراطى إلى وصم ميركل بالوهن وبفقدان الشعبية وتحميلها أيضا مسئولية التراجع الكاسح للاشتراكيين الديمقراطيين الذين لم تعد لهم هوية سياسية واضحة وارتحلت نسب مفزعة من ناخبيهم إلى حزب الخضر (وفى الولاياتالشرقية يحدث الارتحال إما لحزب اليسار أو لحزب البديل لألمانيا) وتتصدر واجهتهم السيدة أندريا نالس التى لا تملك كاريزما شخصية ولم تتمكن إلى اليوم من صياغة رؤية واضحة المعالم لدور حزب المستشارين التاريخيين فيلى برانت وهليموت شميت فى الحياة السياسية المعاصرة لألمانيا. بين 2016 و2018، اعتاش اليمين المتطرف على تراجع شعبية أنجيلا ميركل وإخفاقات حزبها مثلما استفاد الخضر من تراجع الاشتراكيين الديمقراطيين. من يطالع المشهد الحزبى الراهن فى ألمانيا، سيدرك أن خروج المسيحى الديمقراطى من أزمته يتطلب استعادة من هجروه من ناخبين ولن يتأتى ذلك إلا بتغيير بعض السياسات التقدمية التى طبقتها ميركل وكان الأمل أن تحصد دعما شعبيا مستقرا. للأسف، لا تختلف ألمانيا الغنية عن غيرها من البلدان الأوروبية لجهة صعود الأحزاب اليمينية المتطرفة والحضور المؤثر (ليس طاغيا بعد) للمشاعر الشعبوية الرافضة للأجانب وللاجئين والراغبة فى العودة إلى ممارسات اجتماعية وبيئية رجعية. *** من يطالع المشهد الحزبى الراهن، سيدرك أيضا أن المسيحى الديمقراطى لن يتمكن طويلا من البقاء فى الائتلاف الحاكم مع الاشتراكيين الديمقراطيين. كلاهما يواجه ريحا عاتية. يستطيع المسيحى الديمقراطى الائتلاف مع الخضر والديمقراطى الليبرالى لتشكيل حكومة جديدة، على الأرجح من غير ميركل والتى قد تجبر على الاستقالة من منصب المستشارية قبل انتهاء الدورة البرلمانية الحالية فى 2021 خاصة إن جاء حزبها بينس شبان أو فريدريش ميرتس كرئيس جديد. ويحتاج الاشتراكيون الديمقراطيون إلى الابتعاد عن مقاعد الحكم وإعادة اكتشاف هويتهم كحزب اليسار الممثل للطبقات العمالية ولمحدودى الدخل وكحزب النزعة الإنسانية الرافضة لليمين المتطرف والشعبوى بمقولاته العنصرية والتمييزية ضد الأجانب واللاجئين وكحزب الدفاع عن أوروبا الموحدة وهويتها الديمقراطية فى مواجهة يمين متطرف يهدد بقاء الاتحاد الأوروبى. تلك هى خلفيات إعلان المستشارة المحترمة أنجيلا ميركل انسحابها المنظم من السياسة، وتلك هى تحديات الديمقراطية الألمانية التى يهدد استقرارها اليمين المتطرف وتستدعى من أحزاب اليمين واليسار الملتزمة بالقيم الديمقراطية إعادة اكتشاف أدوارها إن فى خانات الحكم أو بين صفوف المعارضة.