على مدى 7 عقود لم يمل شارل أزنافور من الغناء وتمثيل قصص الحب والحنين، وتقديمها في موسيقى الجاز التي ظل متمسكًا بها رغم تراجع الإقبال عليها مؤخرًا، حتى أصبح المغني الفرنسي الأشهر خارج بلاده وداخلها. غيب الموت اليوم «فرانك سيناترا فرنسا» عن عمر ناهز 94 عامًا، وطالما تمنى «أزنافور» أن يحتفل بعيد ميلاده المئة على المسرح، بالرغم من عطاءه الفني الذي لم ينضب حتى وفاته، لكن الحظ لم يحالفه حتى الوصول للحظة التي تمناها. آخر عمالقة الأغنية الفرنسية، اضطر إلى إلغاء حفلات له هذا الصيف، إثر إصابته بكسر في الذراع أصيب به بعد سقوطه، وتوفي في منزله في منطقة ألبيل في جنوبفرنسا. ولد «أزنافور» في باريس عام 1924 لوالدين أرمنيين، هما مايكل أزنافوريان، ونار باجداساريان، اللذان عملا في مطعم لكسب الرزق، وكان والداه محترفان في مسارح أرمينيا قبل أن يجبرهما العنف العرقي على الفرار إلى فرنسا. أدرك مبكرًا حبه للغناء، بعد اعتلائه خشبة المسرح لأول مرة وهو في عمر ال3 أعوام، واهتم والداه بموهبته، فحضر دروسًا للدراما لكنه ترك المدرسة لمتابعة حياته الفنية، وناضل خلال أعوامه الأولى، وبدأَ الغناء والأداء في النوادي الليلية في سن المراهقة، وفي هذه الأثناء التقى مع الملحن الكندي بييار روش الذي تعاون معه، وبدأ الثنائي كتابةَ الأغاني وتأليف الموسيقى ولاقيا بعضًا من النجاح في أواخر الأربعينيات.
إديث بياف وابتسم الحظ لأزنافور، عندما سمعته المغنية إديث بياف وهو يغني، ورتبت لتأخذه معها في جولاتها الغنائية في فرنسا والولايات المتحدة، بعدما دعته للغناء في مسرح خاص كانت تغني فيه عام 1950. في بداية الأمر اعتاد أن يفتتح لها الحفلات، ثم بدأَ بكتابة الأغاني لها، وتوطّدت علاقتهما وأصبحا صديقين واستلم إدارة أعمالها، وساعدته «بياف» وقدمته للعديد من مديري صناعة الموسيقى في فرنسا.
لكنه في ذلك الوقت لم يحقق أي شهرة كبرى كمغن؛ بل كان يؤلف الأغاني للآخرين، مثل بياف وجولييت جريكو، إلا أنه اعتلى مسرح الأولمبيا بعدما حققت أغنية «سور ما في» نجاحًا كبيرًا في عام 1954.
في العام 1960، صوّر فيلمًا سينمائيًا مع فرنسوا تروفو بعنوان «تيريه سور لو بيانيست»، ثم أصدر أغنية «جو مونفواييه ديجا»، والتي صارت واحدة من أشهر ما غنى. وفي العام 1963، حقق نجاحًا كبيرًا في «كارنيجي هول» في نيويورك، وصار نجمًا عالميًا، وشرع في جولة عالمية، وزار أرمينيا للمرة الأولى. بعد عامين، أنجز أوبريت "موسيو كرنافال"، وكانت «لا بوهيم» واحدة من أغانيه، بمشاركة الكاتب جاك بلانت، وتعد الأغنية من كلاسيكيات الأغنية الفرنسية الأكثر شهرة على الإطلاق، وتحكي كلماتها قصة رسام يتذكر بحنين شبابه البوهيمي على مرتفعات حي مونمارتر الباريسي الراقي.
وفي هذه الأثناء، غنى أيضًا أيقونة الجاز الشهيرة «ياستيرداي» والتي غنتها الكثير من الفرق والمغنين الكبار فيما بعد، وانتشرت أغانيه بشكل واسع، حتى أن كبار الفنانين في ذلك الزمن استعادوا عددًا منها، كما فعل راي تشارلز، وفريد أستير، وبينج كروسبي.
وواصل «أزنافور» رحلته في السينما، وصوّر أفلامًا منها "لو تامبور" في العام 1979 من إخراج فولكر شلوندورف، و"لي فانتوم دو شابولييه" لكلود شابرول في العام 1982. وحصلت أغنيته "هي" She على المرتبة الأولى لأعلى مبيعات في المملكة المتحدة في السبعينات.
اختير «أزنافور» من قبل مجلة (تايم) الأمريكية في الثمانينات، كأهم مغني في القرن العشرين متقدمًا على ألفيس بريسلي وفرانك سيناترا. كما حصلَ على جائزة "Golden Lion Honorary Award" في مهرجان البندقية السينمائي عن النسخة الإيطالية لأغنية "Mourir d'aimer" في عام 1971. وعينَ سفيرًا للنوايا الحسنة ومندوبًا دائمًا لأرمينيا لدى اليونيسكو، كما أُدرج اسمه في قاعة مشاهير كتبة الأغاني في عام 1996، وكرمته "MIDEM" بجائزة "Life time Achievement" عام 2009 . «أزنافور» لم ينس موطنه الأصلي، وغنى للجاليات الأرمنية في الكثير من بلدان العالم، في العام 1988 ذهب إلى أرمينيا لتقديم يد العون بعدما ضربها زلزال مدمر، وأسس لجنة «أزنافور من أجل أرمينيا»، وكتب أغنية «من أجلك أرمينيا».
«أزنافور» الذي غنى بأكثر من ست لغات عالمية وهي (الفرنسية، والروسية، والإنجليزية، والأرمنية، والإيطالية، والأسبانية)، وغنى في لبنان أكثر من عشر مرات، وأحيا فيه عددًا من المهرجانات والحفلات الفنية، آخرها كان العام الماضي؛ لإحياء سهرة فنية ضمن مهرجانات مدينة فقرا كفر ذبيان الصيفية.
الغناء مع فيروز عبر أسطورة الأغنية الفرنسية، خلال زيارته لبيروت العام الماضي، عن رغبته في الغناء مع المغنية اللبنانية فيروز، حتى لو اضطره الأمر إلى تعلم العربية. وفي رسالة حث فيها على الانفتاح على العالم وتجاوز الانتماءات القومية والدينية، قال «أزنافور» إنه لا يستطيع أن يكتفي بكونه أرمنيًا، مضيفًا "لن أستطيع أن أغني بالأرمنية فقط وأن أتناول الطعام الأرمني وأنام كأرمني وأستيقظ أرمنيًا؛ بل على العكس يجب الانفتاح على العالم وعلى الديانات". «أنا لست عجوزًا» «أزنافور» قدم أكثر من 100 ألبوم، ووزعت أغانيه في 94 دولة، وباع الفنان الفرنسي أكثر من 100 مليون شريط حول العالم وشارك في 60 فيلمًا. تزوّج لأول مرة من ميشيلين روجل، في عام 1946، لكن هذا الزواج لم يدم طويلًا وانتهى بالطّلاق، وارتبطَ رسميًا للمرة الثانية بإيفيلين بلسي عام 1956، وانتهت كالزواج الأول بالطلاق. في نهايةِ المطاف، وجد الحب والاستقرار الذي كان يتوق إليهما، عندما تزوّج من أولسا ثورسيل السويدية عام 1967، وهو أب لستة أطفال من الزيجات الثلاثة. وقبل أن ينطلق في جولة جديدة، وهو في سن ال 93، شملت عروضًا في أوروبا، أكد في مقابلة صحفية: «أنا لست عجوزًا، أنا كبير في السن». وعندما وجه الصحافيون أسئلة له عن سر بقائه مغنيًا على المسرح على الرغم من بلوغه سن الثالثة والتسعين، فأجاب ضاحكًا "ماذا أفعل غير ذلك؟ أحاول البقاء صامدًا". وأضاف «أزنافور» "قالت لي زوجتي مرة: أنت تتقدم في العمر وعليك أن تتوقف عن الغناء، فأجبتها: إن فعلت ذلك أموت".