جامعة الفيوم تحتفل على شرف الطلاب المثاليين سفراء النوايا الحسنة    إيبارشية بني سويف تعلن ترتيبات الصلوات وحضور قداس عيد القيامه المجيد    بتكلفة 3.5 مليون جينه .. افتتاح مسجدين في الواسطى وسمسطا    حماة الوطن: تأسيس اتحاد القبائل العربية وتدشين مدينة السيسي خطوتان للأمام    رئيس الطائفة الإنجيلية يصلي الجمعة العظيمة بالقاهرة الجديدة    أخبار التوك شو.. مفاجأة في أسعار الذهب والدولار.. ورضا عبد العال: لن أخالف ضميري من أجل الأهلي    محافظ بني سويف: توفير الدعم العاجل لأهالينا الذين يتعرضون لمواقف حرجة وطارئة    بريطانيا تفرض عقوبات على مجموعتين وأفراد بإسرائيل    القاهرة الإخبارية: إسرائيل تعتقل 44 صحفيًا في السجن الإداري.. فيديو    مصر تقف أمام المخططات الإسرائيلية الهادفة لتهجير سكان غزة إلى سيناء    بيان عاجل من المصدرين الأتراك بشأن الخسارة الناجمة عن تعليق التجارة مع إسرائيل    ليفربول يصدم محمد صلاح بهذا القرار.. "تفاصيل"    ثمن الخيانة في الوراق.. العشيق هرب من غرفة النوم إلى سرير المستشفى    أخبار الفن.. أحمد رزق يخضع لعملية جراحية عاجلة.. السرب يقترب من 4 ملايين جنيه فى يومين    بالأسماء.. تعرف على الكتب الأكثر إقبالا بجناح مركز أبو ظبى للغة العربية    اقدر.. مباردة مجتمعية تستقبل زوار معرض أبو ظبي    التضامن تكرم كارولين عزمي بعد تألقها في «حق عرب»    خطبة الجمعة اليوم.. الدكتور محمد إبراهيم حامد يؤكد: الأنبياء والصالحين تخلقوا بالأمانة لعظم شرفها ومكانتها.. وهذه مظاهرها في المجتمع المسلم    المفتي: مشاركتنا لشركاء الوطن في أعيادهم على سبيل السلام والمحبة وحسن الجوار    دليل السلامة الغذائية.. كيف تحدد جودة الفسيخ والرنجة؟    بعد تصدرها التريند.. التصريحات الكاملة ل نهى عابدين ببرنامج مساء دي إم سي    إطلاق صواريخ من لبنان باتجاه مواقع إسرائيلية    ضبط 2000 لتر سولار قبل بيعها بالسوق السوداء في الغربية    أبرزها "توفير مصل التسمم".. "الصحة" تعلن خطة تأمين احتفالات عيد القيامة وشم النسيم    طوارئ في الجيزة استعدادا لاستقبال عيد القيامة المجيد وشم النسيم    المنتدى الاقتصادي يُروج لبرنامج «نُوَفّي» وجهود مصر في التحول للطاقة المتجددة    تعاون «مصري- يوناني» النسخة الجديدة مبادرة «إحياء الجذور – نوستوس»    رئيس الوزراء يتابع جهود منظومة الشكاوى الحكومية المُوحدة خلال أبريل الماضي    مشيرة خطاب تشيد بقرار النائب العام بإنشاء مكتب لحماية المسنين    «التعليم» تحدد مواصفات امتحان اللغة العربية للثانوية العامة 2024.. تفاصيل    انخفاض أسعار الذهب الآن في سوق الصاغة والمحال    التعليم العالي: مشروع الجينوم يهدف إلى رسم خريطة جينية مرجعية للشعب المصري    الإسكان تطرح أراضى للتخصيص الفوري بالصعيد، تفاصيل    متسابقون من 13 دولة.. وزير الرياضة يطلق شارة بدء ماراثون دهب الرياضي للجري    وحدات سكنية وهمية.. ضبط سيدة استولت على أموال المواطنين ببني سويف    في الذكري السنوية.. قصة الاحتفال باليوم العالمي لحرية الصحافة    ب«تفعيل الطوارئ».. «الصحة» بالقليوبية: عيادات متنقلة بمحيط الكنائس خلال احتفالات عيد القيامة    إصابة 6 سيدات في حادث انقلاب "تروسيكل" بالطريق الزراعي ب بني سويف    دعاء الهداية للصلاة والثبات.. ردده الآن تهزم شيطانك ولن تتركها أبداً    الأهلي يهنئ الاتحاد بكأس السلة ويؤكد: "علاقتنا أكبر من أي بطولة"    سموتريتش: "حماس" تبحث عن اتفاق دفاعي مع أمريكا    وزير الصحة: تقديم 10.6 آلاف جلسة دعم نفسي ل927 مصابا فلسطينيا منذ بداية أحداث غزة    «الإفتاء» تحذر من التحدث في أمور الطب بغير علم: إفساد في الأرض    توريد 107 آلاف و849 طن قمح لصوامع وشون كفر الشيخ    علام يكشف الخطوة المقبلة في أزمة الشحات والشيبي.. موقف شرط فيتوريا الجزائي وهل يترشح للانتخابات مجددا؟    نقيب المهندسين: الاحتلال الإسرائيلي يستهدف طمس الهوية والذاكرة الفلسطينية في    صحف إيطاليا تبرز قتل ذئاب روما على يد ليفركوزن    الفلسطينيون في الضفة الغربية يتعرضون لحملة مداهمات شرسة وهجوم المستوطنين    البنتاجون: نراقب الروس الموجودين في قاعدة يتواجد فيها الجيش الأمريكي في النيجر    "مضوني وسرقوا العربية".. تفاصيل اختطاف شاب في القاهرة    إصابة 6 أشخاص في مشاجرة بسوهاج    برشلونة يستهدف التعاقد مع الجوهرة الإفريقية    توقعات الأبراج اليوم الجمعة 3 مايو 2024.. مصادر دخل جديدة ل«الأسد» و«العقرب» ينتظر استرداد أمواله    عبد المنصف: "نجاح خالد بيبو جزء منه بسبب مباراة ال6-1"    رئيس اتحاد الكرة: عامر حسين «معذور»    الغدة الدرقية بين النشاط والخمول، ندوة تثقيفية في مكتبة مصر الجديدة غدا    كيفية إتمام الطواف لمن شك في عدد المرات.. اعرف التصرف الشرعي    الناس لا تجتمع على أحد.. أول تعليق من حسام موافي بعد واقعة تقبيل يد محمد أبو العينين    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



«الشروق» تنشر حلقات من كتاب «خلف خطوط العدو» ل«اللواء أسامة المندوه».. «1»
نشر في الشروق الجديد يوم 30 - 09 - 2017

-سباق محموم بين رجال الاستطلاع على العبور إلى سيناء خلال حرب الاستنزاف
-نفذت أول مهمة «خلف الخطوط» سنة 1968 وقبلت رمل سيناء بمجرد وصولى إليها
-إصرار مصر على تسخين الجبهة عقب حرب 1967 كان تجسيدا حيا لرفض الهزيمة
-أنتمى إلى الدفعة «50 حربية» التى اشتركت فى الدفاع عن القاهرة قبل التخرج فى حرب يونيو
«إن حرب أكتوبر لم تحدث كل أخبارها حتى الآن».. هذه مقولة صحيحة لأبعد الحدود؛ فبالرغم من أننا نحتفل بالذكرى ال44 لهذه الحرب المجيدة إلا أن الكثير من البطولات التى حققتها وحدات وتشكيلات وأفراد قواتنا المسلحة الباسلة لم يتم الكشف عنها بعد.
الخبر السار أنه فى ذكرى انتصارات أكتوبر هذا العام تنشر «دار الشروق» كتاب «خلف خطوط العدو»، لمؤلفه اللواء أسامة المندوه، الذى يحكى قصة بطولة من أروع البطولات المصرية خلال هذه الحرب المجيدة. ويروى هذا الكتاب المهم قصة بطولة ل«مجموعة استطلاع» مصرية بقيادة المندوه، وهو برتبة «نقيب» دفعتها القيادة المصرية منذ بداية الحرب للتمركز خلف خطوط العدو وفى قلب تجمعاته، وبالقرب من طرق اقترابه الرئيسية، ومركز قيادته الرئيسى فى «أم مرجم» و«مطار المليز» الحربى، فى وسط سيناء، على بعد نحو 100 كيلو شرق قناة السويس.
ويسرد الكتاب الذى حرره ووثقه الكاتب الصحفى خالد أبوبكر، مدير تحرير جريدة الشروق بأسلوب جذاب ومشوق كيف نجحت «مجموعة الاستطلاع» المصرية فى أن تعد على العدو حركاته وسكناته وآلياته فى عمق سيناء، وتسهم فى الكشف المبكر عن نواياه لمدة ستة أشهر بدأت بعد آخر ضوء يوم 6 أكتوبر 1973.
كما يستعرض الجهود المضنية التى بذلتها القوات الإسرائيلية للقبض على أبطال المجموعة، مستعينة فى ذلك بكل ما تملك من تكنولوجيا، غير أنها فشلت وعاد النقيب أسامة المندوه برجاله سالمين إلى القاهرة ليستقبلهم المشير أحمد إسماعيل وزير الحربية والقائد العام للقوات المسلحة آنذاك فى مكتبه ويقلدهم أرفع الأوسمة.
من أهم مميزات كتاب «خلف خطوط العدو» أنه يكشف بجلاء دقة التخطيط المصرى فى حرب أكتوبر المجيدة، ويلقى الأضواء على جسارة رجال القوات المسلحة فى تنفيذ المهام التى أوكلت إليهم خلال أعمال القتال، ويبرز أيضا ذلك التلاحم الرائع بين رجالنا خلف الخطوط والمواطنين المصريين من قبائل سيناء، الذين كانوا خير معين لهم على تنفيذ تلك المهام الجسام، حتى تحقق النصر.
واللواء أسامة المندوه، ضابط استطلاع مصرى، ولد فى محافظة الدقهلية سنة 1948، تخرج فى الكلية الحربية فى ديسمبر 1967. أحد أبطال حرب أكتوبر 1973، حيث شارك فيها برتبة «نقيب». حصل على وسام النجمة العسكرية؛ تقديرا للأعمال البطولية التى قام بها خلال هذه الحرب المجيدة. كما حصل على ميدالية الخدمة الطويلة، ووسام الاستحقاق من الطبقة الأولى سنة 2012.
واعتبارا من اليوم تنشر «الشروق» حلقات من كتاب «خلف خطوط العدو»، ونشدد على أن ما يرد فى هذه الحلقات وإن جاء على لسان اللواء أسامة المندوه بصيغة المتكلم إلا أنه فى الحقيقة اختزال شديد جدا للنص الأصلى بتفاصيله الكثيرة والمشوقة فى آن واحد.
دخلت الكلية الحربية سنة 1965، ضمن الدفعة «51 حربية» (دفعة الشهيد أحمد توفيق يس). كان عمرى وقتها لا يتجاوز 17 سنة. كان الفريق أول محمد فوزى، مديرا للكلية خلال هذه الفترة، وتلاه الفريق أول محمد أحمد صادق، وكلاهما شغل منصب وزير الحربية والقائد العام للقوات المسلحة، ولذلك كانت الجرعات العلمية فى أعلى معدلاتها.
مرت السنة الأولى، وإذا بى من العشرة الأوائل فى دفعتى التى يصل عدد الطلبة فيها إلى نحو 600 طالب يتنافسون على المراكز الأولى، لما لها من مميزات، حيث إن الأوائل يتولون قيادة باقى زملائهم فى إطار حرص الكلية على إعداد الطلاب لتولى مهام القيادة، عبر تدريس علم وفن القيادة، وممارسته ممارسة عملية.
قبل انتهاء الفصل الدراسى الثالث، وإذا بالأجواء السياسية بين مصر وإسرائيل تتوتر، وشبح الحرب يلوح فى الأفق فى مايو 1967م، وعلى عجل تم تخريج الدفعة «50 حربية» التى تسبق دفعتى مباشرة؛ ليتم توزيع ضباطها لتغطية بعض أوجه النقص فى وحدات القوات المسلحة. تولت دفعتى قيادة الكلية، وما هى إلا أيام، وانتهى الأمر باستدراج القوات المصرية إلى معركة فى سيناء.
فى الساعة 8.45 صباح 5 يونيو شنت إسرائيل باستغلال القدرات الفنية الأمريكية المتمثلة فى سفينة التجسس ليبرتى Liberty لمدة ثلاث ساعات غارات جوية على مصر فى سيناء والدلتا والقاهرة ووادى النيل فى ثلاث موجات: الأولى 174 طائرة، والثانية 161، والثالثة 157 بإجمالى 492 غارة دمرت فيها 25 مطارا حربيا، وما لا يقل عن 85% من طائرات مصر وهى جاثمة على الأرض، وتوالت الأحداث، وأصدرت القيادة المصرية أوامرها بالانسحاب إلى الشط الغربى لقناة السويس، وانتهت الحرب بهزيمة عسكرية للقوات العربية واحتلال إسرائيل لقطاع غزة والضفة الغربية وسيناء وهضبة الجولان السورية.
بعد تخرج الدفعة «50 حربية» انتقلت دفعتنا إلى الفصل الدراسى الأخير، وهو فصل التخصص، حيث تتناول الدراسة فيه السلاح الذى سيخدم فيه الطالب بعد تخرجه من الكلية، وقد تخصصت فى سلاح المدرعات. خلال دراستنا فى القسم النهائى كانت الأنباء عن سير القتال تتوالى، ويوما بعد يوم اكتشفنا أن القوات الإسرائيلية ضربت المطارات المصرية، وأصابت سلاح الجو المصرى بخسائر كبيرة، وأن قوات العدو تتقدم فى سيناء، وأن قواتنا صدرت لها أوامر بالانسحاب والتمسك بالضفة الغربية لقناة السويس.
بعد عدة أيام من وقوع كارثة 5 يونيو صدرت الأوامر لطلبة القسم النهائى للاستعداد لمغادرة الكلية الحربية والانضمام إلى فرقة مشاة جديدة يتم تشكيلها من بعض القوات، وسيتم استكمالها بطلبة القسم النهائى فى الكلية للدفاع عن القاهرة، خصوصا مع حالة الانهيار التى كانت عليها القوات التى شاركت فى عمليات يونيو، سواء على صعيد التنظيم أو على صعيد انخفاض الروح المعنوية.
اجتاحتنا مشاعر من الحماس الشديد أثناء دفعنا للاشتراك فى المعركة حتى لو كان ذلك من الخطوط الخلفية. لم نكن نصدق أننا سنشارك فى القتال بهذه السرعة قبل تخرجنا وقبل إتمام تأهيلنا فى التخصصات العلمية التى وزعنا عليها فى القسم النهائى. كان كل ما يسيطر على تفكيرنا فى هذه الأثناء هو أن نوقف تقدم العدو بأى ثمن إذا ما فكر فى الاندفاع غربا فى اتجاه القاهرة.
مضت الأيام إلى أن استشعرت القيادة أن القوات المصرية غرب القناة سواء فى النسق الأول المواجه لخط قناة السويس، أو فى الأنساق التالية قادرة على صد أى محاولات للعدو لعبور قناة السويس، فصدرت الأوامر بعودتنا للكلية الحربية لاستكمال دراستنا.
حرب الاستنزاف
بعد تخرجنا برتبة «ملازم» تم توزيعنا على تشكيلات ووحدات القوات المسلحة الموجودة على جبهة قناة السويس. ولأننى تخصصت فى سلاح المدرعات، فقد تم توزيعى يوم 6/12/1967 على قوة الفرقة الرابعة المدرعة، وبالتحديد فى كتيبة استطلاع هذه الفرقة. استقبلنى قائد هذه الكتيبة بترحاب شديد. قال لى بعد التعارف: «دفعتكم باكورة جيل جديد لم يكن موجودا فى صفوف القوات المسلحة فى النكسة، ومصر تعلق عليه آمال عريضة لاستعادة الكرامة مع بقية الرجال».
منذ اليوم الأول لالتحاقى بالفرقة الرابعة المدرعة بدأت مهمة استعادة الكرامة من خلال التدريب الشاق والتحلى بالروح المعنوية العالية والإرادة الصلبة، وهو ما كنت شديد الحرص على نقله لجنودى، الذين كانوا يبذلون العرق والدم فى التدريب استعدادا لمعركة الشرف واستعادة الأرض السليبة. لم تسلم الوحدات العسكرية أو المنشآت الاقتصادية أو التجمعات السكانية من غارات الطيران الإسرائيلى.. من الزيتية جنوبا إلى بحر البقر شمالا.
قررت مصر فى سبتمبر 1968م، التحول إلى إستراتيجية جديدة والانتقال بالجبهة من مرحلة «الصمود» إلى مرحلة جديدة من المواجهة العسكرية، أطلق عليها مرحلة «الدفاع النشط». وهى إستراتيجية لصراع طويل الأمد تهدف إلى إجبار إسرائيل على تبديد طاقتها، واستهلاك مواردها، وخلق اقتناع مؤكد لديها أن ثمن الإصرار على العدوان هو ثمن فادح لا تحتمله، وإشعارها بمدى الخطأ الفاحش، الذى وقعت فيه عندما رسمت لنفسها دورا أكبر من حقيقته.
وكان إصرار مصر على تسخين الجبهة عقب توقف القتال مباشرة تجسيدا حيا لرفض الهزيمة، وتعبيرا عمليا عن عقد العزم على إزالة آثار العدوان، ولما لم تكن قواتها المسلحة قد استعدت بعد لخوض حرب جديدة، فلم يكن أمامها إلا أن تمارس حرب الاستنزاف. وخلال هذه المرحلة من المواجهة كان الرئيس جمال عبدالناصر كثيرا ما يزور القوات على الجبهة لرفع الروح المعنوية.
دوريات خلف خطوط العدو
نجاح القيادة المصرية فى تحصين الأراضى المصرية بما عرف ب«حائط الصواريخ» حد من نشاط العدو الجوى بشكل فعال على أراضينا، وهو ما ساهم فى رفع الروح المعنوية، ليس فقط لأفراد القوات المسلحة ولكن للشعب المصرى كله، إلى جانب أعمال أخرى فى نطاق عملى وتخصصى وهو «الاستطلاع خلف خطوط العدو»، الذى يهدف إلى جمع المعلومات عن قوات العدو ومواقعها وقدراتها من خلال الملاحظة المباشرة، وهو ما كان يتم من خلال عبور «دوريات الاستطلاع» إلى الشاطئ الشرقى لقناة السويس، والدخول إلى أعماق بعيدة فى سيناء.
أستطيع أن أقول إن دوريات الاستطلاع خلف خطوط العدو، مع الإغارات والكمائن التى كانت تنفذها قوات الصاعقة فى سيناء كانت من الخطوات المهمة لإعادة ثقة المقاتل المصرى فى نفسه وقدراته بعد هزيمة سنة 1967م؛ ولذلك كانت كتائب الاستطلاع على كل المستويات تعبر إلى سيناء بشكل منتظم، ولن أبالغ إذا قلت إن ذلك كان يتم كل ليلة تقريبا على امتداد جبهة قناة السويس.
كان التحضير لدفع دورية استطلاع إلى سيناء أمر يتم بمنتهى الدقة، بداية من تحديد مهمة الدورية بوضوح تام، سواء كانت هذه المهمة تستهدف المكوث لفترة طويلة لجمع معلومات عن تسليح وتدريب القوات الإسرائيلية ومناطق تمركزها، وكذلك الأعمال الهندسية التى يشرع جيش الاحتلال فى تدشينها على أرضنا السليبة، أو التواجد شرق القناة لفترات قصيرة بهدف استطلاع نقطة قوية من تلك التى كانت موجودة بطول خط بارليف على الشط الشرقى لقناة السويس، ورصد حركة الدخول والخروج منها وتوقيتاتها، أو مراقبة طريق لفترة ليل فى إطار التمهيد لعملية عسكرية لقواتنا ستتم بعد ذلك مستهدفة دوريات العدو التى تمر على هذا الطريق.
بعد تحديد مهمة الدورية يأتى اختيار مكان العبور بمنتهى الدقة والحذر، وانتخاب الأماكن التى يقل فيها نشاط العدو كى تتمكن الدورية من الاندفاع شرقا دون الاصطدام به، ويتم رصد ذلك من خلال أعمال المراقبة بالنظر لمكان العبور لفترة ليست بالقليلة.
لقد عبرت إلى سيناء خلال حرب الاستنزاف أربع مرات، لكن المرة الأولى كان إحساسى فيها مختلفا عن كل المرات التالية، حدث ذلك سنة 1968م. كنت برتبة ملازم، وأعمل قائدا ل«مجموعة استطلاع خلف الخطوط». بينما كنت على صفحة المياه بقناة السويس متجها إلى سيناء خفق قلبى. كنا مازلنا متأثرين بالدعاية القوية التى بثها الجيش الإسرائيلى عن نفسه باعتباره «الجيش الذى لا يقهر»، لكن هذا الخفقان لم يفقدنى تركيزى قط، فباعتبارى قائدا للمجموعة لا يجب على الإطلاق أن يشعر رجالى إلا برباطة جأشى وقوة أعصابى. بمجرد أن وطأت أقدامنا تراب الشط الشرقى للقناة حتى قمت وبقية أفراد المجموعة بتقبيل رمال سيناء. كانت فرحتنا عارمة بملامسة تراب هذه الأرض الطيبة، وكأننا نوضح لها مدى المكانة التى تحتلها فى قلوبنا، وكأننا نجدد العهد معها بأننا سوف نستعيدها إلى حضن الوطن مهما طال الزمن ومهما كلفنا من تضحيات، والحمد لله قد أوفينا بالعهد.
كانت الأوامر قد صدرت لى بقيادة مجموعة استطلاع للعبور إلى سيناء، وبعد تحديد المهمة والتصديق عليها، بدأنا فى التحضير للتنفيذ، عبر زيارة الشط الغربى للقناة نهارا، بغرض تحديد نقطة العبور، من خلال مراقبة المنطقة المستهدف العبور منها لمرة ومرتين وثلاثة وأحيانا أكثر من ذلك إلى أن نحفظ اجراءات العدو على الضفة الشرقية للقناة فى اتجاهها.
بعد استطلاع نقطة العبور يتم تحديد يوم التنفيذ، الذى لا يعلمه إلا المخطط، وبعد انتهائنا من التدريب على خطة العبور واستيعاب المهمة، ننتظر اليوم الذى ستصدر فيه الأوامر بعبورنا قناة السويس فى اتجاه سيناء. فى ذلك اليوم يتم استدعاء المجموعة لقيادة الفرقة، لصرف المعدات اللازمة للعبور، والمتمثلة فى القارب المطاطى وبعض الأشياء الأخرى، التى لم تكن تصرف إلا بتصديق من اللواء عبدالمنعم واصل، قائد الجيش الثالث الميدانى وقتذاك، وذلك لفرض أعلى درجات السيطرة على عمليات العبور للشرق.
بعد صرف المعدات والقارب نتحرك مع الغروب فى اتجاه القناة. كان العبور يتم أحيانا فى ليال قمرية وأحيان أخرى فى ليالى مظلمة أو نصف قمرية، حسب ما يرى المخطط وفق اعتبارات علمية. عند نقطة العبور نجد فى انتظار المجموعة قائد نقطة العبور، وهو ضابط مهمته السيطرة على دفع المجموعات للشرق، وبجواره رئيس استطلاع الفرقة الرابعة، الرائد خيرى الشماع، ومهمتهما التأكد من أن من سيركب القارب للعبور هم المصرح لهم بذلك، والمكتوبة أسماؤهم فى أمر القتال الذى صدق عليه قائد الجيش.
تبدأ اجراءت العبور بنزول فرد إلى قناة السويس، ليسبح فى اتجاه الشط الشرقى ومعه حبل سيقوم بتثبيته على هذا الشط. يتم شد هذا الحبل من الضفة الغربية للقناة بحيث يكون طافيا على سطح المياه، بعدها يتم إنزال القارب المطاطى وعليه أفراد المجموعة، الذين سيشدون الحبل، وهو ما من شأنه تسريع اندفاع القارب إلى الشط الشرقى دون إحداث أى صوت يلفت انتباه العدو، مقارنة باستخدام «المجاديف» التى تم استخدامها يوم 6 أكتوبر 1973م.
بعد وصول المجموعة للشط الشرقى يعود الفرد الذى عبر بالحبل إلى الغرب بالقارب والحبل معا، ثم تبدأ المجموعة فى تسلق الساتر الترابى بحذر شديد، وهى عملية ليست سهلة، لكن بمقارنتها بالعبور وقت الحرب فهى سهلة جدا؛ لأن الفرد فى دوريات الاستطلاع لا يحمل إلا سلاحه الشخصى، وعدد أفراد المجموعة قليل جدا، وبالتالى لن يكون هناك زحام فى تسلق الساتر كما كان بعد ظهر يوم 6 أكتوبر.
بمجرد نجاح المجموعة فى العبور وتسلق الساتر الترابى يصبح تركيزها كله منصبا على تحقيق مهمتها بنجاح تام. ومع تكرار عمليات العبور زادت ثقتنا فى أنفسنا وترسخ فى يقيننا ووجداننا أننا قادرون على دحر العدو وتحرير أرضنا من دنسه. لم تنس القيادة المصرية استغلال ذلك فى رفع الروح المعنوية للقوات، حيث تم استحداث نوط سمى «نوط العبور»، يقوم القادة بمنحه للأفراد (ضباطا، وضباط صف، وجنودا) الذين نفذوا عمليات عبور إلى سيناء، وتم تطوير هذا الأمر بعد ذلك بكتابة عدد مرات العبور على صدر الفرد فى المكان المخصص لتعليق الأنواط والنياشين والفرق الدراسية التى حصل عليها.
كان العبور إلى سيناء حلم كل فرد من أفراد القوات المسلحة، ولاسيما للضباط الذين عاصروا حرب سنة 1967م، وفى هذا السياق لا أنسى تلك المرة التى كنت فيها على رأس مجموعة عند إحدى نقاط العبور استعدادا لتنفيذ مهمة خلف خطوط العدو فى سيناء. كالعادة كان معنا قائد النقطة، والرائد خيرى الشماع، رئيس استطلاع الفرقة الرابعة المدرعة، بجانب اللواء عبدالرحمن فهمى، رئيس أركان هذه الفرقة، الذى قال: سأعبر مع المجموعة كى أشاهد كيفية إتمام العبور، ثم سأعود مع القارب مرة أخرى. أريد أن ألمس بيدى أرض سيناء.
رددت عليه قائلا: «هذه مخاطرة كبيرة جدا يا أفندم. ماذا لو حدث لسيادتك مكروه لا قدر الله؟». وهنا تدخل الرائد الشماع موجها خطابه إلى اللواء فهمى: «يا فندم مينفعش.. وهذا الأمر فيه مخاطرة عالية جدا، لا تناسب العائد منها». فعدل الرجل عن فكرته، لكنه كان تواقا لمعانقة الأرض التى شعر أنها سلبت منا دون أن تتاح لنا فرصة حقيقية للدفاع عنها فى سنة 1967م.
الخداع بصيد الغزال
عندما انتهت حرب الاستنزاف فى أغسطس 1970م، كانت مصر قد حققت فوائد كثيرة ودروسا مستفادة ثمينة، وأصبحت الكفاءة القتالية للقوات الإسرائيلية كتابا مقروءا أمام قواتنا. ولعل من أبرزها أن إسرائيل اقتنعت بفشلها فى إسكات شبكة الدفاع الجوى المصرية (حائط الصواريخ)، ولم يعد متاحا لسلاح الجو الإسرائيلى العمل فى الأجواء المصرية بكفاءة أو تأثير كما كان من قبل، ومن هنا عاد الجيش الإسرائيلى إلى مستوى كفاءته الحقيقية فى القتال. وفى نفس الوقت أصبحت قواتنا قادرة على العمل بحرية تحت حماية الدفاع الجوى بالتعاون مع القوات الجوية، عندما يصدر قرار القيادة المصرية بالحرب الشاملة لتحرير سيناء.
بعد انتهاء حرب الاستنزاف كانت الأيام تمر ثقيلة علينا على جبهة قناة السويس؛ لأننا وصلنا مرحلة انتظار قرار الحرب وأوامر القتال لتنفيذ ما عاهدنا الله والشعب المصرى على تحقيقه، وهو تنفيذ أى مهمة فى أى وقت وتحت مختلف الظروف حتى تحقيق النصر أو الشهادة فى سبيل الله والوطن.
فى يوليو 1973 تم نقلى من الفرقة الرابعة المدرعة إلى كتيبة استطلاع بالقاهرة. بعد وصولى إليها جلست مع قائدها ورئيس عملياتها، وأخبرتهما أننى أتولى قيادة سرية منذ سبتمبر 1970م وحتى يوليو 1973م، وأننى كنت متفوقا، وحصلت على أفضل قائد سرية استطلاع فى الجيش الثالث الميدانى، وتم منحى شهادات الامتياز والتقدير فى التدريب. أخبرنى قائد الكتيبة بأن قادة السرايا الموجودين جميعهم أقدم منى؛ ولذلك رأى القائد ومعه رئيس العمليات أن أتواجد بمكتبه حتى يجدا حلا لهذا الموقف. فى تلك الأثناء كانت هناك «مجموعة قيادة» ستسافر إلى مرسى مطروح لإعداد معسكر تدريبى لبعض عناصر الكتيبة بشكل اعتيادى، ولم أكن أعلم وقتها أن هذه هى إحدى إجراءات التمويه و«الخداع التكتيكى» على مستوى الكتيبة استعدادا لحرب السادس من أكتوبر.
وهنا طرح على رئيس العمليات فكرة الذهاب معهم إلى مرسى مطروح للإعداد والاشتراك فى تدريب عناصر الكتيبة، وقبل أن أجيب ذهب إلى المكتب المقابل وأخذ موافقة قائد الكتيبة على سفرى. كانت هذه هى أول مرة أسافر فيها إلى مرسى مطروح. سافرنا بالقطار، وقبل ذلك تم شحن المركبات على القطار الحربى إلى هذه المدينة الساحلية.
وصلنا مرسى مطروح ولم تصل السيارات والمركبات، ومن خلال التعاون مع القوات البحرية تم تدبير بعض المركبات لتنفيذ مهام استطلاع المنطقة، واختيار أماكن التدريب وكذلك موضوعات التدريب التى تخدم المهام التى سيتم تنفيذها مستقبلا فى العمليات العسكرية فى إطار معركة استعادة الكرامة.
وهنا أشدد على أنها «معركة استعادة الكرامة»؛ لأننا لو استعدنا سيناء بدون معارك كانت كرامة الجندى وفرد القوات المسلحة والشعب كله ستضيع حتى يومنا هذا، لكن استعادة الأرض من خلال المعارك وتحقيق الانتصار كان كفيلا باستعادة مصر بكامل أفرادها للكرامة والكبرياء الذى يليق بأمة عظيمة مثل الأمة المصرية الضاربة فى جذور التاريخ.
قضينا ليلتنا الأولى فى «فندق البوسيت» (Beau site Hotel)، الموجود إلى الآن بمرسى مطروح، والذى كان فى أغسطس 1973م أشهر فنادق هذه المدينة، من خلال الإدارة الناجحة، لعائلة «مبتسيو» وشقيقه «تونى» وزوجته وابنتيه. كانت هذه المدينة فى ذلك الوقت «بلا خدمات»، المياه تأتيها بالقطار فى عربات وفناطيس. وسيلة المواصلات الرئيسية فيها هى «الكاريتة» أو «الحنطور»، شواطئها بكر، نسبة التلوث فيها صفر، هواؤها نقى وصحى، لكنك تشاهد الفصول الأربعة فى اليوم الواحد، حيث فى الصباح يكون الطقس ربيعيا، وفى الظهر صيفيا، وقبل الغروب خريفيا، وبالليل شتويا!.
من خلال أعمال الاستطلاع واختيار مناطق التدريب تم التعرف على المنطقة بشكل جيد. استمرت هذه العملية أربعة أيام، كنا نقضى فيها النهار فى العمل، وفى الليل نجلس فى فندق «البوسيت». أصبحنا معروفين بين رواد هذا الفندق، سواء للأجانب أو المصريين، خاصة وأن القطار لم يصل بالمركبات؛ وبالتالى الجنود لم يصلوا حتى الآن من القاهرة.
مرت أيام التدريب كلها شاقة وعنيفة. أذكر أننا كنا نتناول الغداء أياما كثيرة فى الساعة الخامسة مساء على مقدمة العربات. ما أحلى بذل العرق فى التدريب الذى يوفر الدم فى المعركة!. كان أفراد الكتيبة يصلون إلينا فى مرسى مطروح على دفعات.. تغادر دفعة ونستقبل الدفعة الثانية بعد 24 ساعة؛ فقررنا إعداد مفاجأة للدفعة القادمة بإعداد عشاء أسطورى.. على «غزال»!.
أعددت رحلة لصيد الغزال تضم بعض أصدقائنا من سكان مرسى مطروح، الذين تم التعرف عليهم خلال تواجدنا فى المدينة، بجانب من لديهم الخبرة فى الطرق وأماكن تواجد الغزال. لم تكن هناك تعليمات تحرم أو تجرم صيد الغزال فى ذلك الوقت. بدأنا رحلة الصيد والخروج من مرسى مطروح فى الثالثة فجرا حتى نكون فى المنطقة الذى يتواجد بها الغزال مع شروق الشمس، وقت خروجه بحثا عن المرعى. كنا نتعقب آثار أقدامه إلى أن نصل للأماكن التى يرعى فيها.
كانت رحلة ممتعة وشاقة فى آن واحد، وتحتاج لترتيبات وضوابط محكمة، لكنها أثمرت فى نهاية المطاف عددا وفيرا وصل إلى 15 غزالة تم توزيعها على المشاركين. بعد أن وضعنا فى الاعتبار ما نحتاجه لعشاء الضباط والجنود القادمين من القاهرة. وأرسلنا بعضا من هذا الصيد إلى مطعم وملهى «سيروكو» وهو مطعم على ربوة عالية فى مرسى مطروح، يعتاد القاطنون والمصطافون قضاء الليل فيه.
كانت حفلة استقبال رائعة للجميع تلك التى نظمناها لزملائنا وجنودنا القادمين من القاهرة، وبداية مشجعة قبل الاندفاع فى اليوم التالى لبدء العمل الشاق، إلى أن يتم توديعهم إلى القاهرة. كان الكثير من ضباط وجنود كتيبة الاستطلاع التى نقلت إليها لا يعرفوننى، لكنهم يسمعون عنى؛ نظرا لانتقالى حديثا إلى الكتيبة، ومغادرتى فور انضمامى إليها إلى مرسى مطروح.
لقد ساهمنا فى خطة «الخداع الاستراتيجى» أو «المفاجأة الاستراتيجية» السابقة على حرب أكتوبر 1973م دون أن نعلم؛ حيث لا يمكن لجيش يستعد للحرب أن يذهب رجال من وحدات الاستطلاع فيه إلى رحلات لصيد الغزال، أو السهر فى الملاهى والمطاعم، والسباحة فى مياه بعيدة جدا عن الجبهة، ومشاهدتهم كل ليلة فى الفنادق والمطاعم، خاصة فندق مثل «البوسيت» الذى يتواجد به أجانب من جنسيات مختلفة.
خلال الأسبوع الأول من أكتوبر 1973م كنا قد أتممنا تدريب جميع الدفعات، وعاد جميع الضباط والجنود إلى القاهرة عدا من تم تكليفه بمهام فى مناطق أخرى، ولم يبق فى المعسكر سواى وبعض الجنود والإداريين ومركبة واحدة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.