الوطنية للانتخابات: بدء فرز الأصوات بنيوزيلندا.. والكويت الأعلى تصويتا حتى الآن    انتخابات النواب بالخارج.. إقبال كبير للمشاركة بانتخابات النواب باليوم الأخير في السعودية وسلطنة عمان |صور    إقبال المصريين على سفارة مصر بباريس في اليوم الثاني للتصويت بانتخابات مجلس النواب    إدراج 29 جامعة مصرية في تصنيف QS 2026.. والقاهرة تتصدر محليا    تراجع أسعار الحديد والأسمنت بأسواق مواد البناء اليوم السبت 22 نوفمبر    وزيرة «التخطيط» تبحث مع «بروباركو» الفرنسية خطط تمويل و تمكين القطاع الخاص    مركز بحوث الصحراء يستقبل وفدًا طلابيا لتعزيز التعلم التطبيقي في البيئات الصحراوية    إصابة 3 فلسطينيين برصاص الاحتلال في مناطق متفرقة من قطاع غزة    وزير الخارجية يشيد بما وصلت إليه العلاقات بين مصر وإسبانيا    فيديو.. قوات إسرائيلية تتوغل في ريف القنيطرة جنوبي سوريا وترفع علم دولة الاحتلال    ستارمر يعلن عن لقاء دولى خلال قمة العشرين لدفع جهود وقف إطلاق النار بأوكرانيا    موسكو: المسيرات الروسية تضرب نقطة انتشار اوكرانية مؤقتة    تشكيل برشلونة المتوقع أمام بلباو في الدوري الإسباني    تشكيل مانشستر سيتي المتوقع أمام نيوكاسل.. موقف مرموش    وزير الرياضة يدعم البطل الأولمبي أحمد الجندي في رحلة علاجه بألمانيا    جون بارنز يبرئ صلاح ويكشف سبب أزمة ليفربول    موعد مباراة الأهلي وشبيبة القبائل بدوري الأبطال.. والقنوات الناقلة    إسلام سمير: الفوارق بين الأندية "كبيرة".. وأحمد سامي ليس سببا في أزمات الاتحاد    ارتفاع جديد للحرارة على الإسكندرية ولا فرص للأمطار اليوم    الأدلة الجنائية تفحص آثار حريق بمعرض موتوسيكلات بالظاهر وتستدعي المالك    وزير التربية والتعليم يقرر وضع مدرسة "سيدز الدولية" تحت الإشراف المالي والإداري وإدارتها من قبل الوزارة    ضربة استباقية.. سقوط بؤر مخدرات وسلاح ومقتل عنصر شديد الخطورة فى قنا    بدء فعاليات إجراء قرعة حج الجمعيات الأهلية لاختيار الفائزين بالتأشيرات    لاتهامها بقضايا غير أخلاقية.. ضبط التيك توكر «دودو المهرة الملكة» في أكتوبر    إصابة 11 عاملا إثر انقلاب ميكروباص بالمنيا الجديدة    مخرجة لبنانية: مهرجان القاهرة منح فيلمي حياة مستقلة وفتح له أبواب العالم    بعد تصدره التريند.. موعد عرض برنامج «دولة التلاوة» والقنوات الناقلة    استخدمت لأداء المهام المنزلية، سر عرض تماثيل الخدم في المتحف المصري بالتحرير    دولة التلاوة.. أصوات من الجنة    الصحة تقدم تعليمات مهمة لحماية الطلاب من العدوى التنفسية داخل المدارس    دايت طبيعي لزيادة التركيز والمزاج الإيجابي، نظام غذائي يدعم العقل والنفس معًا    الرئاسة في أسبوع| السيسي يشارك بمراسم تركيب وعاء ضغط المفاعل للوحدة النووية الأولى بالضبعة.. ويصدر تكليفات حاسمة للحكومة والوطنية للانتخابات    سعر الدولار في البنوك المصرية اليوم السبت 22 نوفمبر 2025    شيكو بانزا يظهر فى مران الزمالك الأخير استعدادا ل زيسكو بعد وفاة شقيقه    زيارة مفاجئة لوكيل زراعة أسيوط للجمعيات الزراعية بمركز الفتح    سعر كرتونة البيض في بورصة الدواجن والأسواق اليوم السبت 22 نوفمبر 2025 فى المنيا    وزير التعليم العالي يعقد اجتماعًا مع مجموعة خبراء تطوير التعليم العالي    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم السبت 22-11-2025 في محافظة الأقصر    انتخابات مجلس النواب بالخارج، بدء التصويت بالسفارة المصرية في طهران    غرفة عمليات الهيئة الوطنية تتابع فتح لجان انتخابات النواب فى الخارج    وزارة الصحة توجه رسالة هامة عن تلقى التطعيمات.. تفاصيل    منظمة الصحة العالمية: أكثر من 16.5 ألف مريض بغزة في انتظار الإجلاء الطبي    دراسة جديدة.. عصير البرتقال يؤثر على نشاط الجينات    سعر الجنيه الإسترلينى اليوم السبت فى البنوك 22-11-2025    اليوم.. محاكمة 6 متهمين بقضية "خلية مصر الجديدة"    فرنسا لمواطنيها: جهزوا الطعام والماء لحرب محتملة مع روسيا    «يوميات ونيس».. العمل الذي صنع ذاكرة جيل ورسّخ قيم الأسرة في الدراما المصرية    المرأة العاملة| اختيارها يحمي الأسرة أم يرهقها؟.. استشاري أسري يوضح    فلسطين.. جيش الاحتلال يقتحم حي الضاحية في نابلس شمال الضفة الغربية    تطورات مثيرة في قضية سرقة عصام صاصا للحن أغنية شيرين    أبرزها وظائف بالمترو براتب 8000 جنيه.. «العمل» توفر 100 فرصة للشباب    محمد موسى يهاجم الجولاني: سيطرتك بلا دور.. والسيادة السورية تنهار    استشارية: خروج المرأة للعمل لا يعفي الرجل من مسؤولية الإنفاق أبدًا    عضو "الشؤون الإسلامية" يوضح حكم التعامل مع الدجالين والمشعوذين    محمد التاجي: اعتذار محمد سلام اللحظي خلق «شماتة» ويتعارض مع تقاليد المهنة    مصطفى حجاج يكشف حقيقة الخلاف بينه وبين هاني محروس    اتحاد الكرة يعلن حكام مباريات الأحد في الدوري الممتاز    شوقي علام حول التعاملات البنكية: الفتوى الصحيحة تبدأ بفهم الواقع قبل الحكم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



سؤال «الشرعية» الغائب .. ما بين السياسة والاقتصاد
نشر في الشروق الجديد يوم 02 - 07 - 2017

كما أن من طبائع الأمور أنه ليس بإمكانك، عند مفترق طرق أن تتجه بإحدى قدميك إلى اليمين وبقدمك الأخرى إلى اليسار. فكذلك لا يحتاج الأمر إلى أكثر من الاطلاع على أبسط الكتب الدراسية لندرك أن هذا هو حال الاقتصاد والسياسة؛ وجهان لعملة واحدة. فهل حقا لدينا عملة واحدة؟ أحسب أن هذا هو «سؤال الشرعية» الذي نغفل عنه.
ما يبدو صارخا من تناقض بين ما هو «سياسة» وما هو «اقتصاد»، يحمل في طياته علامة استفهام كبرى حول «الشرعية» اللازمة لاستقرار النظام
عشية الثلاثين من يونيو، التي يحاول البعض أن يجعلها عنوانا «لشرعية النظام القائم»، وبعد ساعات فقط من مانشتات للصحف «الرسمية» تحمل تصريحات «رسمية» تنفي زيادة أسعار الوقود، جاءت التعليمات «الليلية كالعادة» بزيادة تلك الأسعار (للمرة الثانية خلال ثمانية أشهر). لا مفاجأة هناك. فمنذ أن جرى الاتفاق مع صندوق النقد الدولي قبل حوالي العام، وتلك إجراءات وقرارات معروفة مسبقا. (للتذكير فقط، فمصر التي تقترض اليوم 12 مليارا رفضت في 2011 قرضا بثلاثة مليارات من الصندوق ذاته «بدعوى الحفاظ على استقلالية القرار الوطني وعلى سيادة مصر»).
لا أجادل في مدى «الحتمية الاقتصادية»، أو خطورة قرارات الاقتراض تلك، فللموضوع متخصصوه. ولكن إذا كان من نافلة القول أنه ليس بإمكانك، عند مفترق طرق أن تتجه بإحدى قدميك إلى أحد طريقين، في حين تتجه بقدمك الأخرى إلى الطريق الآخر.. وإذا كان مما لا يحتاج إلى دليل أن السياسة والاقتصاد وجهان لعملة واحدة، يصبح ما يبدو من تناقض «غير مسبوق» بين وجهي العملة في الحالة المصرية، لا يدعو فقط إلى التندر، أو إلى الحذر من عواقب ما تبدو نذره في الأفق، بل لعله يحمل في طياته علامة استفهام كبرى حول «الشرعية» اللازمة لاستقرار أي نظام.
كما كان مثيرا أن يتواكب الإعلان عن الاستدانة (قروض تصل إلى 20 مليارا من الدولارات) الصيف الماضي مع حديث إعلامي عن «إنجازات اقتصادية» غير مسبوقة، كان من المثير أيضا أن تتواكب حملة تلفزيونية عن الإنجازات (بمناسبة 30 يونيو) مع الإعلان «غير المفاجئ» عن زيادة أسعار الوقود لتصبح الأعلى تقريبا في العالم كله مقارنة بمتوسط دخل الفرد (راجع الأرقام الواردة في تقرير Bloomberg إبريل 2017). وبغض النظر عن المفارقات، وما أكثرها في واقعنا «غير المسبوق»، يبقى المسكوت عنه، أو بالأحرى، ما لم يلتفت إليه أحد (كما أشرت فيما كتبته في تلك الصفحة عشية الاتفاق مع صندوق النقد الذي كانت زيادات هذا الأسبوع ضمن مترتباته) هو مدى تأثير مثل هذه الإجراءات، أيا ما كانت ضرورة الإذعان لها على «العقد الاجتماعي» الذي كان حاكما (ولو نظريا) للنظام السياسي في مصر لأكثر من ستين عاما. والذي أعطى واقعيا هذا النظام «شرعيته» السياسية. كنظام ينتظر منه الناس أن يلتزم بتوفير حاجاتهم من مأكل وملبس ودواء وغير ذلك من السلع والخدمات فضلا عن الوظائف «التي هي حق لكل مواطن» مقابل احتكار (واقعي) للجماعة الحاكمة للسلطة والقرار.
***
للنيوليبرالية اقتصاديًا شروطها السياسية، كما أن للدولة الشمولية سياسيًا متطلباتها الاقتصادية، فحذارِ من اللعب على الحبال
أرجو أن يأذن لي القارئ الكريم، بأن أشير إلى ما سبق أن أشرت إليه حينها مما يعرفه دارسو العلوم السياسية من أن «الدولة الريعية»، وفي منطقتنا المثال النموذجي لها لم تكن واقعيا مجبرة على تطبيق مبادئ الحوكمة اللازمة لرشادة اقتصاد السوق. والقائمة على سيادة القانون، والحريات السياسية، والشفافية، والمحاسبة، والفصل الحقيقي بين السلطات. واللازمة لخلق بيئة مواتية للنمو الاقتصادي، والاستقرار السياسي والمجتمعي. وذلك ببساطة لأن كفاية الموارد الطبيعية تمكن الدولة من تقديم جميع الخدمات لمواطنيها دون الحاجة إلى فرض ضرائب. وبالتالي يتنازل المواطنون طواعية أو (بحكم ما جرت عليه العادة والتقاليد «القبلية») عن المشاركة الحقيقية في الموارد، واتخاذ القرارات، ورسم السياسات. وبغض النظر عن مدى «صحة وحيوية» هذا النموذج، وقابليته للعيش المستدام في عالم شاب زالت فيه حدود «المعرفة» والطموح، فغني عن القول أننا في مصر أبعد ما يكون موارد وخدمات عن هذا النموذج وعن الاستناد إلى أنماط «الشرعية» القائم عليها؛ «الرفاه مقابل الحرية».
يومها أشرت أيضا إلى ما يعرفه دارسو التاريخ والنظم السياسية عن «الدولة الاشتراكية» في النصف الثاني من القرن العشرين، وكيف قدمت نموذجا ل«الشرعية» يقوم على الالتزام (أكرر: الالتزام) بتوفير كل حاجات المواطنين من سلع وخدمات ووظائف حكومية. مقابل «احتكار» واقعي من الجماعة الحاكمة (الحزب، كما تقول النظرية / أو الزعيم، كما كان في الواقع) للسلطة والقرار.
والسؤال: أين نحن (واقعيا) من هذا أو ذاك؟ أو كيف سنصير (واقعيا) بعد الالتزام «الضروري» بمتطلبات القرض «الضروري»؟
لن أناقش هنا إن كنت مضطرا للإذعان لشروط صندوق النقد «النيوليبرالية» تلك من تحرير سعر الصرف، ورفع الدعم «وأن يدفع المواطن الثمن الكامل لما يحصل عليه من خدمات» كما يقول الخطاب الرسمي المعلن. ولكن يعرف القاصي والداني، أن الدول التي تعتمد مثل تلك السياسات (ولن أقارن هنا التفاوت الحاد في مستوى المعيشة) تقوم شرعيتها السياسية، على عقد اجتماعي يوفر للمواطن مشاركة حقيقية وفعالة في القرارات، مادام هو مطالب في النهاية بتحمل تبعاتها المادية. دون أن يكون محظورا عليه مثلا الحديث في أمر المفاعل النووي المزمع إنشاؤه بقرض يصل إلى 25 مليارا من الدولارات (450 مليارا من الجنيهات المصرية)، ودون أن يكون محظورا عليه الاعتراض على إهدار الموارد المحدودة على ما سمي «بمشروعات كبرى» لم يثبت حتى اللحظة جدواها الاقتصادية (تفريعة القناة مثالا).
في الدول التي يدفع فيها المواطن ثمن ما يحصل عليه من خدمات (مع الإشارة إلى أن هذا أصلا ليس صحيحا على إطلاقه)، يكون للمواطن حق الإضراب، والتظاهر، والحق في تكوين النقابات المستقلة. في مناخ سياسي منفتح لا تفرغ فيه هراوة الأمن «أو ألاعيبه» النصوص الدستورية من مضمونها.
في مثل تلك الدول، تقوم «الشرعية» السياسية على إطلاق الحريات العامة، وحرية التعبير الحقيقية، والحوكمة والشفافية، ومناخ يوفر مشاركة حقيقية لمنظمات المجتمع المدني والجماعات السياسية.
أين نحن «واقعيا» من ذلك كله؟ أحسب أننا جميعا نعرف الإجابة.
خلاصة القول إذن أنه قد يمكن لذوي الأمر في «الدولة الريعية» اعتماد شرعية «الرفاه مقابل الصمت»، كما يمكن في «الدولة الشمولية» اعتماد شرعية أن تتكفل الدولة أو الحزب بجميع احتياجات المواطنين «مجانا» مقابل «تفويض» النخبة الحاكمة في إدارة شئون البلاد. وفي الحالتين، قد تسمح مساحة «الرضا المجتمعي» باستقرار المعادلة. أما حين يكون هناك من يطلب من مواطنيه التقشف، دون أن يكون «دافعو الضرائب» شركاء «حقيقيين» في إدارة أمور بلدهم، فذلك مما لم تثبت تجارب التاريخ أنه أدى إلى استقرار من أي نوع. ناهيك عن أي معالجة للمشكلات الاقتصادية باعتماد روشتات الاقتصاد «الحر» في غياب «حرية» السياسة ومعاييرها المعروفة.
***
مظاهرات الخبز - يناير 1977
السؤال هو: كيف تؤثر مثل تلك القرارات على «العقد الاجتماعي» الذي كان حاكما للنظام السياسي في مصر لأكثر من ستين عامًا
لا تكمن مشكلة «الاقتصاد» لدينا فقط في عدم تجانس سياساته مع ما اعتمده النظام من «سياسة»، بل لعل بعض جوانب المشكلة تكمن أصلا فيما هو «سياسة»، وما يظنه البعض يصلح كأساس «لشرعية» هذا النظام.
أذكر حين كنت أشارك في جلسات المشروع الذي تم إجهاضه «لرؤية مصر 2030» أن وقف «أحدهم» ليعترض على إضاعة الوقت في صياغة أهداف وخطط تفصيلية للوصول إلى ما نتصوره لازما لمستقبل نرجوه لهذا البلد. يومها قال بأعلى صوته (ربما ليسمعه ذوي الشأن): «نحن لا نحتاج لكل هذا النقاش، وكل هذه التفاصيل، فلدينا زعيم ملهم، وعلينا فقط أن نُخلص في السير وراءه». انتهى الاقتباس.
دعونا نعترف أن «رؤية» صاحبنا التي علا صوته بها يومها ليست الوحيدة، فمثله كثيرون، من علية القوم وبسطائهم. من الذين يروجون لشرعية «السلطة المطلقة»، أو على الأقل يغضون الطرف عنها، ثم يشكون من الأزمة الاقتصادية متغافلين عن حقائق باتت محسومة في عالم العلاقة بين السياسة والاقتصاد. فحيث «السلطة المطلقة»، تغيب ثقافة الشفافية والمحاسبة ليحل محلها ما ألفناه في مجتمعاتنا من ثقافة حجب «وحصانة سيادية»، من شأنها، كما قرأنا في الكتب أن توفر البيئة المثالية لنمو طبقة «الأوليجاركيا» التي تقتات تقليديا على النفوذ والسلطة والفساد. ومن ثم ثروة البلاد والعباد، فلا تترك للناس غير الغلاء والفقر.
تقول لنا الكتب أيضا، وتحكي لنا تجارب السابقين كيف تحتمي «السلطة المطلقة» خلف شبكات الأوليجاركيا المتشابكة؛ مؤسسات أمنية / عسكرية وتشريعية وإعلامية وجهات إنفاذ القانون. فتغدق عليها المنح والمزايا لتُكون طبقة حامية سميكة من «جماعات المصالح» المتشابكة. التي يصبح دفاعها عن مصالحها، بحكم الواقع دفاعا عن «النظام» في ذاته.
في مجتمعات «السلطة المطلقة» لا مكان لاستقلال الجهات الرقابية أو المحاسبية أو القضائية، كما تقضى قواعد الحوكمة أو الدساتير الحديثة (ومنها دستورنا الحالى بالمناسبة) بل لتشريعات «مفاجئة» فُصلت لتختصر السلطة كلها في يد واحدة. راجعوا من فضلكم التعديلات التشريعية لقوانين الجهات الرقابية والقضائية التي صدرت على مدى السنوات الأربع الماضية.
في دولة «السلطة المطلقة» يتحصن الفساد بمثل نصوص القانون رقم 16 لسنة 2015، والذي أصدره الرئيس قبل عامين، وسبقني في التنبيه لمخاطره في حينه الأساتذة عبدالله السناوي وحمدي رزق.. وآخرون. فضلا عن ابن القوات المسلحة المهندس يحيى حسين عبدالهادي والذي أطلق عليه «قانون ادخلوها فاسدين»، في مقاله المنشور بالأهرام، قبل أن تمنع مقالاته من النشر في الجريدة «القومية» التي يفترض أن تكون لسان حال «القوم» أي الناس لا السلطة.
بمقتضى هذا القانون (الرابط لمناقشته تفصيلا هنا) يصبح للسلطة «التنفيذية»، لا القضاء «المستقل» القول الفصل والنهائي في جرائم المال العام. وبمقتضاه تُصبحُ قرارات «اللجنة الوزارية» أقوى من قرارات محكمة النقض ذاتها.. لا بأس، فإعلامهم يحدثك يوميا عن مكافحة الفساد.. وعن أننا بلد فقير(!).
في مجتمعات «السلطة المطلقة»، غير مسموح للصحف أن تكشف عن أن منتسبي هذه الجهة أو تلك لا يدفعون الضرائب في بلد يقول رئيسه «إننا فقرا قوي»، فنقرأ خبر مصادرة (أو بالأحرى عدم طباعة) جريدة الوطن التي تجرأت فحاولت نشر تحقيق «موثق» حول الموضوع (مارس 2015).
في دولة «السلطة المطلقة» تزدهر مراكز القوى ونفوذ الحواريين والأوامر السيادية. ويغيب «خوفا أو يأسا» الرأي الآخر، ودراسات الجدوى. والتحذير من المخاطر. ويكون طبيعيا أن يعرف الاقتصاد أزمته، وأن يعرف الناس الفقر. وأن نغرق الأجيال القادمة في الديون.
في مجتمعات «السلطة المطلقة» لا مكان لاستثمار حقيقي يعمل على نمو حقيقي. لا اقتصادي إلا ويعلم أن «التصنيف الاقتصادي» لدولة ما يرتبط بالوضع السياسي بذات القدر الذي يرتبط فيه بالأداء الاقتصادي. كما يعلم أن السمعة الاقتصادية الحسنة، هي قرين الديموقراطية بضوابطها المعروفة في أغلب الأحوال.
***
ما هي مؤشرات قدرة النظام السياسي على مكافحة الفساد الذي هو داء أي اقتصاد. هذا هو السؤال الثاني
في مجتمعات «السلطة المطلقة» يزدهر الفساد «والإفساد». وإذا كانت الاقتصاديون قد استقروا على أن الشفافية هي النقيض الموضوعي للفساد، وإذا كانت «المؤشرات» والمقاييس المعتمدة تغنينيا عن أي اجتهاد. وإذا كنا نبحث عن خطة طريق جادة لإصلاح اقتصادي «حقيقي» ينتشلنا مما نحن فيه. (وليس مجرد الإذعان لشروط المقرضين، سعيا وراء مزيد من القروض والديون) فيكفي إن نلقي نظرة على مكان مصر في التقرير السنوي لمنظمة الشفافية الدولية، وهو أحد معايير «التصنيف الاقتصادي» للدولة، والذي يسترشد به المستثمرون «الجادون»، لا أولئك «المغامرون المضاربون».
تعتمد نتائج التقرير الدولي السنوي على «مؤشرات» محددة، متفق عليها لقياس البيئة المساعدة على الفساد في أي مجتمع أو نظام سياسي. ليخرج بترتيب للدول حسب درجة الشفافية التي هي آصطلاحا نقيض للفساد.
في تقرير 2017 الصادر في يناير من هذا العام كانت الدنمارك الأكثر شفافية والأقل فسادا، واحتلت المرتبة رقم واحد، وجاءت الصومال في ذيل القائمة (ترتيبها 176) أما مصر فتراجع ترتيبها إلى المرتبة (108)
في وجود «المقاييس» لا يوجد اجتهاد. وكلنا نعرف ما هي المؤشرات التي باتت معتمدة لقياس قدرة أي نظام سياسي على محاربة الفساد، والتي من بينها على سبيل المثال لا الحصر:
وجود مراقبة حقيقية، عبر برلمان «حقيقي» يحاسب ويراقب.
توسيع نطاق المساءلة والمراقبة لكافة المؤسسات والجهات (دون استثناء لجهة أيا كانت)
قضاء مستقل استقلالا حقيقيا.
استقلال «حقيقي» للجهات الرقابية، وحصانة حقيقية لمسؤوليها من العزل أو التنكيل.
إصدار قوانين لحماية الشهود، ومنع تضارب المصالح، والإفصاح عن الذمة المالية.
وجود منظمات مجتمع مدني مستقلة وقوية
حرية تعبير، وإعلام مستقل (لا تسيطر عليه مؤسسات الدولة من خلف ستار)
حرية تداول المعلومات.
أعود وأقول: في وجود «المقاييس» لا يوجد اجتهاد. وكما يذهب أي منا إلى معمل التحليل ليعرف نسبة السكر في الدم أو معامل الترسيب، أو غير ذلك من «المؤشرات» الدالة على حالته الصحية. وليس الاكتفاء بقول هذا أو ذاك أن «صحتك زي البمب»، فتلك هي المؤشرات التي اتفق عليها العالم لقياس قدرة النظام السياسي على مكافحة الفساد الذي هو داء أي اقتصاد. فهلا عرفنا «الدواء»
***
وبعد..
فخلاصة القول، أنه في غياب دولة دستورية معاصرة تقوم علي المواطنة، والمشاركة الحقيقية للمجتمع المدني والجماعات السياسية، وتحترم حقوق الإنسان وحرية التعبير والحق في الإضراب والتظاهر، وتكوين النقابات المستقلة، وتعرف أن الشفافية هي السبيل الوحيد لمحاربة الفساد يصبح «سؤال الشرعية» مطروحا، وإن تجاهلناه أو أنكرناه. فلا نموذج الخليج النفطي صالح في بلد يعيش 27٪ من مواطنيه تحت خط الفقر، ولا نموذج «دولة ماو تسي تونج» الطوباوية (أو الشمولية) الذي تتكفل فيه الدولة بتقديم كل الخدمات مجانا لمواطنيها (كما كان هو حال هذا البلد في ستينيات القرن الماضي) يمكن أن نتصور وجوده في دولة ترفع الدعم وتفرض مزيدا من الضرائب كل يوم، ويقول مسؤوولوها إن على المواطنين أن يدفعوا ثمن ما يقدم لهم من خدمات.
هو باختصار، كما قلنا سابقا ضرب من «الشيزوفرينيا» الفكرية، عندما تعتقد أن الاقتصاد لا علاقة له بالسياسة. أو عندما تتصور أن بإمكانك أن تحكم بطريقة «السوفيت» الستينية، في حين لا تقدم للناس (كل الناس) ما يكفي من غذاء ومسكن ودواء وفرص عمل. «من كل حسب قدرته، ولكل حسب حاجته» حسب قولة كارل ماركس الشهيرة.
«الاختيار لك» كما كان الإعلان الشهير يقول:
1 إما «شرعية عقد اجتماعي» يقوم على أسس دولة معاصرة.
2 أو دولة تتكفل بالإنفاق على حاجات مواطنيها.
… لابديل آخر.
……..
ثم إذا كان الحديث بالحديث يذكر، فقد يبقى على هامش هذا كله أن على الذين يشكون الفقر «وغياب البركة» أن يتذكروا قولة ابن خلدون الشهيرة «الظلم مؤذن بخراب العمران».. في مثل تلك مناسبة، انظروا حولكم جيدا.
لمتابعة الكاتب:
twitter: @a_sayyad
Facebook: AymanAlSayyad.Page
روابط ذات صلة:
«الشرعية» البديل.. حديث سياسي في الاقتصاد
أسئلة الاقتصاد .. ودولة الصوت الواحد
حديث الفساد والقانون
2030 (ق م)
عن الخليفة والأمير والرئيس.. «والثقافة الحاكمة»0
تقرير BBC حول مظاهرات الخبز مارس 2017


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.