أمريكا تحظر دخول 5 أشخاص بينهم قيادات ألمانية لمكافحة الإساءة عبر الإنترنت    شقيقة ميسي تتعرض لحادث سير خطير في الولايات المتحدة    اليوم، نظر استئناف النيابة على براءة سوزي الأردنية من التعدي على القيم الأسرية    بعد زحام الركاب، بيان هام من هيئة سكك حديد مصر بشأن منظومة حجز تذاكر القطارات    التعليم العالي: نعمل مع اليونسكو للاعتراف المتبادل بالشهادات المصرية دوليًا    «شباب بلد» بوابة جديدة لتمكين الشباب المصري بالتعاون مع الأمم المتحدة    وزير الخارجية الفنزويلي: ممثلنا في مجلس الأمن فضح أكاذيب واشنطن    «الأرصاد» تحذر من طقس الأربعاء.. أجواء شديدة البرودة وشبورة كثيفة    قناة ON تستعد لعرض مسلسل «قسمة العدل»    أنقرة تستقبل وفدًا ليبيًا للمشاركة في تحقيقات حادث الطائرة العسكرية    كنت شاهدا، سام مرسي يرد على تقرير مثير ل "ذا أتليتيك" حول تحكم صلاح في منتخب مصر    من داخل وكره المشبوه، صور جديدة مرعبة للمجرم الجنسي جيفري إبستين تظهر للعلن    بعد أزمة ريهام عبد الغفور.. نقابة المهن التمثيلية تلاحق الصفحات المسيئة للفنانين قانونيًا    كفتة العدس بالشوفان في الفرن، بروتين نباتي صحي بدون دهون    الرئاسة اللبنانية: عون يتلقى اتصالين هاتفيين من الرئيس التركي والعاهل الأردني    حركة القطارات| 90 دقيقة متوسط تأخيرات «بنها وبورسعيد».. الأربعاء 24 ديسمبر    عودة مسرحية "نور فى عالم البحور" إلى خشبة المسرح القومي للأطفال    بطولة ياسمين رئيس وأحمد فهمي.. نهى صالح تنضم لمسلسل «اسأل روحك»    يعرض 7 يناير.. نيللى كريم وشريف سلامة يتصدران بوستر «جوازة ولا جنازة»    المرتبات في الفيزا، وزارة المالية تعلن بدء صرف مرتبات شهر ديسمبر 2025 اليوم    إيران تنتقد الترويكا الأوروبية والولايات المتحدة لعدم التزامهم بالاتفاق النووي    فيديو | «ربنا كتبلي عمر جديد».. ناجية من عقار إمبابة المنهار تروي لحظات الرعب    الصحة: نجاح عملية استبدال صمام قلب لمسن فوق 90 عاما بمبرة مصر القديمة    بمساحة 177 فدانًا.. الزمالك يحصل على أرض بديلة قرب القرية الذكية    ب"احتفالية ومعرض".. تعليم الأقصر تحيي فعاليات اليوم العالمي لذوي الهمم| صور    ابتزاز داخل مجلس الأمن، واشنطن تتوعد مادورو بعقوبات قصوى لحرمانه من النفط الفنزويلي    فنزويلا: مشروع قانون يجرم مصادرة ناقلات النفط    وزير التعليم: البكالوريا شبيهة بالنظم العالمية.. وستقلل من الدروس الخصوصية    أخبار × 24 ساعة.. بعثة صندوق النقد: الاقتصاد المصرى حقق مؤشرات نمو قوية    الجيش الأردني يخوض اشتباكات مع عصابات تهريب على الحدود السورية    إغلاق الأسهم الأمريكية عند مستوى قياسي جديد    د. القس رفعت فتحي يكتب: المسيحية الصهيونية.. موقف الكنيسة المشيخية    حسين الشحات يتحدث بعد ارتداء شارة قيادة الأهلي لأول مرة    رئيس شعبة المصورين: ما حدث في جنازة سمية الألفي إساءة إنسانية    البياضية والزينية تتألقان باحتفالين جماهيريين في عيد الأقصر القومي (صور)    أمم إفريقيا - بونجاح: درسنا السودان جيدا.. وعلينا المبادرة بالهجوم    لاعب زيمبابوي السابق: أحرجنا منتخب مصر ومرموش كان كابوسًا    فايزر تحقق في حادث خلال تجربة علاج جديد لمرضى سيولة الدم    بشرى ل 7 محافظات، الصحة تحدد موعد التشغيل التجريبي للمرحلة الثانية من التأمين الصحي الشامل    أمم أفريقيا 2025| تونس تبدأ مشوارها بالفوز على أوغندا بثلاثية مثيرة    دفنوه في أحضان أمه، أهالي معصرة صاوي بالفيوم يشيعون جثمان الضحية الثامنة لحادث الطريق الإقليمي    كورال "شباب مصري" يحيي حفل غنائي بقصر الأمير بشتاك، الجمعة    وزارة العمل: قانون العمل الجديد يضمن حقوق العمال حتى بعد الإغلاق أو التصفية    أبرز تصريحات وزير التعليم عن اهتمام القيادة السياسية بالملف التعليمي    تفاصيل فوز مصر بمعقد في الجمعية العامة للمنظمة البحرية الدولية.. فيديو    خالد مرتجي: نبحث تطوير كرة القدم داخل الملعب وخارجه    "الوطنية للانتخابات": بدء تصويت المصريين بالخارج بجولة الإعادة في 19 دائرة انتخابية    بفستان أحمر قصير.. إيمان العاصي تثير الجدل في أحدث ظهور    وزير التعليم: 750 ألف طالب يمثلون نحو 92% من الثانوية اختاروا نظام البكالوريا بكامل إرادتهم    الأرصاد الجوية ترصد تفاصيل الظواهر الجوية المتوقعة غدا الأربعاء .. اعرف التفاصيل    هل يجوز قضاء الصلوات الفائتة بأكثر من يوم باليوم الواحد؟.. أمين الفتوى يجيب    هل أكل لحم الإبل ينقض الوضوء؟.. أمين الفتوى يجيب    "القومي للبحوث" يحصد المركز الأول فى مؤشر سيماجو للمراكز والمعاهد البحثية 2025    نحو منظومة صحية آمنة.. "اعتماد الرقابة الصحية" تُقر معايير وطنية لبنوك الدم    ما هو مقام المراقبة؟.. خالد الجندي يشرح طريق السالكين إلى الله    البحوث الفلكية تكشف موعد ميلاد شهر شعبان وأول أيامه فلكيا    الدقهلية تحتفل بانضمام المنصورة لعضوية شبكة اليونسكو لمدن التعلم (صور)    مواقيت الصلاه اليوم الثلاثاء 23ديسمبر 2025 فى المنيا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رائحة المطر
نشر في الشروق الجديد يوم 03 - 01 - 2017

كنا قد انتهينا من جلسة ضمت متخصصين فى شئون النفط والسياسة والاعلام. كان موضوعنا مستقبل الاعلام العربى على ضوء الطفرة المالية التى أثمرتها حرب مصر وسوريا ضد إسرائيل. عبرنا الطريق من الفندق حيث اقامتنا وموقع جلستنا إلى بركة البط فى حديقة هايد بارك. اخترنا دكة خشبية لنجلس ونستكمل حديثا كنا بدأناه على مائدة الغذاء. أشعلنا سيجارتينا ونفثنا من صدرينا دخانا بدا لى أشد كثافة من المعتاد، عقبت عليه قائلا إنها رطوبة الهواء اللندنى المشهورة التى تعشق الاحتفاظ لبرهة بكل ذرة من بخار أو أنفاس أو دخان. دار الحديث شيقا وممتعا بينما كانت بقايا الشمس تنسحب من فضاء البحيرة لتختفى فى دلال وبتردد وملاعبة بين أغصان أشجار تفصل البحيرة عن الحديقة الشاسعة. لم أنتبه إلا حين نبهتنى لحبة ماء سقطت على ذراعى ثم انتبهت أنا نفسى بعد لحظة ونبهتها إلى الحبة الثانية التى كانت من نصيبها. استمر المطر مترفقا بنا يتساقط رذاذا قطرة ثم قطرة والحديث بيننا ما يزال شيقا وممتعا. سكتت فى وسط جملة وبسطت يدها وكأنها تشجع المطر ليسقط حباته فوقها دون غيرها من الأشياء المسطحة. نجحت. رأيت فى تجويف كفها بحيرة صغيرة تتكون ونظرت إليها مستفسرا. استدارت برأسها ناحيتى وعيناها تكتسيان بسحابة حزن ناعم وسؤال يصدر مفاجئا بصوت ثابت وواثق، هل للمطر رائحة؟.
***
قابلت فى حياتى أناسا ولدوا فاقدين لحاسة الشم وآخرين فقدوها نتيجة حوادث أو عمليات جراحية أو أمراض معروفة أو مع ما فقدوه متدرجا من حواس أخرى عندما اجتازوا مراحل العمر الحقيقى ودخلوا مرحلة العمر الافتراضى. كان لكل منهم تجارب بعضها مؤلم وحكايات بعضها مسلٍ أو محرض على التعاطف أو مثير علميا. كثيرون من غير فاقدى حاسة الشم يستهينون بهذه الحاسة عند مقارنتها بغيرها من الحواس. هؤلاء لم يدركوا بعد أن هذه الحاسة وليس أى حاسة أخرى هى التى أنقذت أرواحا ومبانى وثروات كانت ستقضى أو يصيبها الدمار لو لم تطلق الانذار مبكرا. هى الحاسة التى تنقذنا من الاختناق بالغاز إن تركنا صنابيره مفتوحة ومن الحريق إن لم نتأكد من أبعاد شرارات النار عن المواد القابلة للاحتراق. تنقذنا من تناول الطعام الفاسد وتنبهنا حين نتجاوز الحد المناسب فى الأكل وحين نقترب من الحد المناسب فى الجوع. حاسة الشم هى الانذار الأول الذى ابتكرته الطبيعة للحماية المبكرة والاستباقية ضد أخطار عديدة.
***
لم أعرف، إلا قريبا جدا، أننا مثل حيوانات كثيرة نشم الخوف عن بعد. لم نفهم ونحن صغار نصيحة الأهل والمدربين فى فريق الكشافة عندما كانوا يحذروننا من التصرف بخوف أمام كلاب الحراسة أو الذئاب. الكلاب تشم الخوف قبل أن تراه ولا تطمئن إلى الخائف أو تثق فى نواياه تجاهها. اتضح لى بالقراءة والسؤال أننا كالكلاب نشم الخوف ولا نطمئن إلى الانسان الخائف وقد لا نثق فى نواياه. أنا شخصيا لم أطمئن لطفل خائف وبالتأكيد كان لا يمكن الوثوق فيما يمكن أن يقدم عليه وهو خائف. يقال لى الآن إن حاسة الشم كانت فى مقدمة حواس أخرى أو وحدها أثارت عندى الوعى بأن الطفل خائف. هذه الحاسة نفسها هى التى تثير أو تنشط الوعى بالقرف. رائحة معينة تدفعنا للابتعاد عن مواقع مؤذية أو خطرة أو تؤذن بشر قادم. أذكر منذ الصغر أننا كنا نتنبأ بيوم قائظ فى القاهرة عندما نستيقظ فى الفجر على رائحة كريهة تنقلها نسمات الصباح خلال مرورها على حى المدابغ الواقع جنوب العاصمة. كانت الرائحة تنذر بقرب هبوب ريح جنوبية، وبخاصة خماسينية.
***
أغلبنا جرب مع الاصابة بالبرد تناول طعام لا طعم له فما لا نشمه لا نستطعمه. عرفت أخيرا أن العين أحيانا تشم فتعوض فى حالات استثنائية عن إعطال يصيب الأنف. الدموع التى تنهمر من عيوننا عند اقتراب البصل منها حتى فى حالات الانفلونزا الشديدة حين تتوقف تماما الأنف عن ممارسة وظيفة الشم دليل على أن العين تشم وترسل اشاراتها إلى المخ عن طريق قنواتها السرية. كثير أيضا ما يفلح مضغ أقراص النعناع الحاد فى النفاذ برائحته إلى المخ عن طريق قنوات خاصة مختفية عند الحلق.
أكثرنا، أو كلنا، يتمنى أحيانا لو تتوقف الأنف لبعض الوقت عن أداء وظيفة الشم. يحدث هذا ونحن فى المواصلات العامة أو قرب مقالب نفايات عند منحنيات شوارع فى كثير من مدن مصر. حدث أيضا عندما كنت أزور مدينة دلهى القديمة لتناول الدجاج المطمور لأيام فى التوابل والمشوى فى «التنور»، كانت دلهى بحق مدينة تموج أجواؤها بمئات أو ألوف الروائح تتنافس جميعها فى اللحظة الواحدة على الوصول إلى أنوفنا. قرأت قبل انتقالى إلى بكين ما كتبه المؤرخون الأوروبيون عن عاصمة الصين فى الاربعينيات من القرن الماضى عندما كانت المدينة التى يشم الزائرون رائحتها وهم لا يزالون على بعد عشرات الأميال. الغريب فى الأمر أننى وجدتها نظيفة عندما استضافتنى فى الخمسينيات، أى بعد أن تولى أمر نظافتها حكومة تؤمن بدور النظافة فى التنمية والتحضر. أذكر رغم ذلك أننى امتنعت عن حضور حفلات دار الأوبرا بسبب حرص الصينيين الشديد فى ذلك الوقت على مضغ الثوم طازجا أو مشويا.
***
تزعم احدى الشركات الأمريكية أن خبراءها توصلوا إلى أن الزيجات السعيدة مدينة بسعادتها إلى توافق رائحة جسدى الزوج والزوجة. بناء على هذا قامت الشركة بالترويج لنشاطها فى مجال تعريف النساء والرجال ببعضهما، أى قيامها بدور الخاطبة. تطلب من الرجال الراغبين فى الزواج ارتداء قمصان أو فانلات داخلية لمدد محددة يسلمونها بعد خلعها إلى الشركة التى تقوم بدورها بإرسالها إلى النساء الراغبات فى الزواج، تفعل العكس مع النساء. المرأة تشم العينة التى وصلتها وكذلك الرجل ويختار كل منهما القميص ذا الرائحة المفضلة. الشركة تنسق وتبلغ الطرفين صاحبى القميصين بالتفاصيل المناسبة عن الشخص الآخر ليتصلا مباشرة ببعضهما بعد أن تحصل على خمسة وثلاثين دولارا قيمة الخدمة التى قدمتها.
***
هل للمطر رائحة؟ تكرر السؤال بعد أن طال انتظارها لإجابة أو كلمة تأبى أن تخرج من فمى. فهمت أننى لن أجيب فتكلمت. قالت «صحيح ما تفكر فيه، أنا لا أملك حاسة الشم. فقدتها وأنا صغيرة ومعها فقدت حاسة التذوق إلا نادرا. أراك بدأت تحزن. لا تحزن فقد عودت نفسى على أن أتخيل رائحة الشىء عندما أتعرف على مكوناته. هل تعرف يا صديقى أننى أحلم بالليل بروائح الأشياء والناس. لن تصدق أننى أكاد لو سمحت لى أصف لك رائحة جسدك، أنسيت أنك أمسكت بيدى ونحن نعبر الطريق؟ من اللمس أستطيع أن أتخيل. أتعرف أننى كثيرا ما أدخل محال بيع الآيس كريم أقضى الوقت مع تجارب تذوق افتراضية مع أكثر من مائة نوع ورائحة ونكهة. أشعر أحيانا وأنا أمارس هذه الهواية أننى فى دار سينما تعرض فيلما من زمن الأبيض والأسود. دربت نفسى حتى كدت أفلح فى تصور روائح الزهور كتلك التى تفوح لك فى هذه الحديقة الجميلة. بل دعنى أخبرك عن نفسى بما لن أتفوه به أمام رجل آخر. أدخل إلى حمام بيتى وقد اصطفت فيه زجاجات الصابون السائل والشامبو وعلب الكريمات وزجاجات العطر أستعملها وأرش منها وأنا لا أ شمها. سألت وقرأت وجربت حتى عرفت أى رائحة تناسب جلد جسدى وتناسب فى الوقت نفسه ذوق من أحب من الرجال. قلت لك لا تحزن من أجلى فقد نجحت فى توليد السعادة برائحة متخيلة».
****
مدت يدها لتمسك بيدى وتسحبها إلى ناحيتها. فتحتها باليد التى سحبتها بها وراحت تسكب فى كف يدى ما تجمع من حبات المطر فى كف يدها وهى تقول بصوت أقرب إلى الهمس «الآن أظنك تستطيع الإجابة على السؤال، هل للمطر رائحة؟».


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.