عن غياب المسلمين فى حقول المعرفة والإنتاج، تحدث الشيخ الإمام محمدالغزالى فى الحلقة الأولى، وفى هذه الحلقة يؤكد الشيخ أن العلم بما فى الكون هو صميم الإنسانية. إن آبانا ادم فى ماضيه الطيب كان يتلقى العلم عن ربه، ويستمع إلى أمره ونهيه، فإيمانه به إيمان شهود، ثم كان الخطأ «ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى» ثم شرع يستقبل حياته على ظهر الأرض،وهو موقن بأن من الله المبتدى وإليه المنتهى، وأن عليه وعلى نبيه من بعده استصحاب هذه الحقائق فلا ينسى أحد من أين جاء وإلى أين يصير. أمداد هذا الذكر الواجب، وينابيعه الدافقة، تتفجر من فجاج الأرض وآفاق السماء على سواء.. إن هذا التراب الداكن عندما ينشق عن شماريخ البلح وعناقيد العنب إنما يتحدث عن ربه. والرياح التى تسوق السحب من شرق الدنيا إلى غربها فتهمى بالحياة والنماء إنما تحدث عن ربها. هذا الإنسان الذى يولد من ماء مهين، ويبدأ طفلا غامض المستقبل لا تدرى أيكون إمرءا عبقريا أم جبارا شقيا؟ إن هذا الإنسان طوعا أو كرها يتحدث عن ربه إنه ما خلق نفسه ولا خلقه أبواه، إن ما خلقه إلا الله. وإيمان الشهود عند آدم تحول فى أبنائه من إيمان تفكير إلى إيمان بالغيب، بيد أن ضمانات هذا الأيام من الكثرة والوفرة بحيث لا يبقى لتجاوزها عذر.. أساسها أن آدم الذى استوعب علم الحياة عندما علم الأسماء كلها، عرف ربه وعرف ما يدل عليه فى جنبات العالم الكبير الذى هبط إليه. كان مخلوقا يعرف خالقه، وتابعا يعرف سيده، ومارا بتجربة شاقة ينبغى عليه وعلى أولاده أن ينجحوا فيها. مصدر هذا العلم الذى علا به آدم على الملائكة، الكون! إن العلم بالكون هو صميم الإنسانية، والجهل به لا يعوض عنه شىء! وقد أبان لنا القرآن الكريم ثلاثة أسباب لهذا العلم الكونى الواسع. الأول: دلالته على الله، وقد شرحنا ذلك فى أماكن أخرى، ونشير هنا إلى بعض أقسام القرآن التى ألمحت إلى عظمة الله المبثوثة فى مادة الكون ونظامه. نحن نعيش فى كون متحرك، القمر يجرى حول الأرض، والأرض تجرى حول الشمس، والشمس تجرى لمستقر لها، تنطلق معها توابعها التى اكتشفت كلها، والشمس وأسرتها، واحدة من مجرات فوق الحصر تجرى فى فضاء لم تكتشف آماده. ومع هذا الجرى الدءوب فى كل اتجاه فهو كالقافية محبوكة الوزن، مضبوطة الأداء لا يطرأ عليها خلل ولاتعتريها فوضى، «والسماء ذات الحبك إنكم لفى قول مختلف» نعم إن الحبكة الملحوظة فى نظام الزفلاك الدوارة ثير الدهشة« فارجع البصر: هل ترى من فطور؟ ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير». وقد ينظر المرء ببلاهة بعيد الفجر وانغلاقه إلى الظلام ترق كثافته وتخف حدته، ويتلاشى أمام النهار المقبل من بعيد، إنه لايدى كيف تم هذا المخاض؟ وكيف تمت فى الفضاء الرحب ولادة يوم جديد؟ تدبر هذا القسم« فلا أقسم بالخنس الجوار الكنس والليل إذا عسعس والصبح إذا تنفس» إن هذا المشهد يتنقل على خطوط الطول والعرض باستمرار، لا يتخلف ولا ينقطع، حتى يأذن الله للشمس أن تخلف موعدها وتطلع من مغربها، ويؤذن بانقضاء هذه الدنيا وانتهاء أيام الاختبار الإنسانى فى المضحك المبكى. الثانى: ارتباط الحياة الإنسانية ضروراتها ومرفهاتا بهذا الكون! «والأرض بعد ذلك دحاها، أخرج منها ماءها ومرعاها، والجبال أرساها، متاعا لكم ولأنعامكم». إن أغذيتنا وأدويتنا وألبستنا من هذه الأرض، والأرض كما علمت جزء محدود من عالم ممدود، بل إن ثقبا فى بعض الأغلفة الجوية قد يتهدد أرضنا بالفناء، كأن هذا الكون كله خلق من أجلنا «وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره، إن فى ذلك لآيات لقوم يعقلون. وما ذرأ لكم فى الأرض مختلفا ألوانه، إن فى ذلك لآية لقوم يذكرون». أليس يدعو للكآبة أن المسلمين المعاصرين آخر من يعلم هذه الحقيقة؟ غيرهم نقب فى البلاد فاستخرج الغالى والرخيص وارتفقه وباع ما يفضل عنه، ونحن نمشى فوق أراض ملأى بالنفط والحديد والذهب، لا ندرى ماحوت! حتى يجىء من يرى أن الأرض له ليثيرها فتعطى كنوزها ينفق منها كيف يشاء، ثم يرمى لنا الفضلات فى كبر وتأفف! أيرضى بذلك أولو الألباب؟ إن فقه الكون والحياة فريضة أسبق من فرائض أخرى صنعها أصحاب الثقافات المغشوشة، زعموها دينا وهى أبعد ما تكون عن الدين. الثالث: حماية الحقوق والحقائق، فالويل لنا يوم يكون أهل البيت مسلحين بالحجارة، واللصوص مسلحين بقذائف قريبة المدى أو بعيدة المدى!! سينهب الحق وتطمس الحقيقة. لقد وصف الله خواص الحديد ومنافعه المدنية والعسكرية فقال: «وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس، وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب» فهل ينصر الله ورسله قوم لاعلاقة لهم بحديد ولا خشب؟! فى هذا العصر، اتسعت ساحات الحروب حتى شملت البر والبحر والجو، ومن المستحيل أن ينجح فى هذه الميادين إلا ذوو الثقافات الغزيرة المستبحرة المستكشفة!