ترامب يتهم بايدن بقيادة "إدارة من الجستابو"    خبير تحكيمي: حزين على مستوى محمود البنا    محمد صلاح: هزيمة الزمالك أمام سموحة لن تؤثر على مباراة نهضة بركان    حالة الطقس اليوم.. تحذيرات من نزول البحر فى شم النسيم وسقوط أمطار    بسعر مش حتصدقه وإمكانيات هتبهرك.. تسريبات حول أحدث هواتف من Oppo    نجل هبة مجدي ومحمد محسن يتعرض لأزمة صحية مفاجئة    موعد مباراة الأهلي ضد الهلال اليوم الإثنين 6-5-2024 في الدوري السعودي والقنوات الناقلة    "لافروف": لا أحد بالغرب جاد في التفاوض لإنهاء الحرب الأوكرانية    سعر الذهب اليوم في السودان وعيار 21 الآن ببداية تعاملات الإثنين 6 مايو 2024    أحوال جوية غير مستقرة في شمال سيناء وسقوط أمطار خفيفة    تعاون مثمر في مجال المياه الإثنين بين مصر والسودان    حمادة هلال يكشف كواليس أغنية «لقيناك حابس» في المداح: صاحبتها مش موجودة    طالب ثانوي.. ننشر صورة المتوفى في حادث سباق السيارات بالإسماعيلية    أول شهادةٍ تاريخية للنور المقدس تعود للقديس غريغوريوس المنير    «القاهرة الإخبارية»: 20 شهيدا وإصابات إثر قصف إسرائيلي ل11 منزلا برفح الفلسطينية    إلهام الكردوسي تكشف ل«بين السطور» عن أول قصة حب في حياة الدكتور مجدي يعقوب    بسكويت اليانسون.. القرمشة والطعم الشهي    150 جنيهًا متوسط أسعار بيض شم النسيم اليوم الاثنين.. وهذه قيمة الدواجن    محمد عبده يعلن إصابته بمرض السرطان    مدحت شلبي يكشف تطورات جديدة في أزمة افشة مع كولر في الأهلي    ما المحذوفات التي أقرتها التعليم لطلاب الثانوية في مادتي التاريخ والجغرافيا؟    برنامج مكثف لقوافل الدعوة المشتركة بين الأزهر والأوقاف والإفتاء في محافظات الجمهورية    أقباط الأقصر يحتفلون بعيد القيامة المجيد على كورنيش النيل (فيديو)    قادة الدول الإسلامية يدعون العالم لوقف الإبادة ضد الفلسطينيين    من بلد واحدة.. أسماء مصابي حادث سيارة عمال اليومية بالصف    "كانت محملة عمال يومية".. انقلاب سيارة ربع نقل بالصف والحصيلة 13 مصاباً    مئات ملايين الدولارات.. واشنطن تزيد ميزانية حماية المعابد اليهودية    تخفيضات على التذاكر وشهادات المعاش بالدولار.. "الهجرة" تعلن مفاجأة سارة للمصريين بالخارج    بعد ارتفاعها.. أسعار الحديد والأسمنت اليوم الإثنين 6 مايو 2024 في المصانع والأسواق    الجمهور يغني أغنية "عمري معاك" مع أنغام خلال حفلها بدبي (صور)    وسيم السيسي: الأدلة العلمية لا تدعم رواية انشقاق البحر الأحمر للنبي موسى    هل يجوز تعدد النية فى الصلاة؟.. أمين الفتوى يُجيب -(فيديو)    تزامنا مع شم النسيم.. افتتاح ميدان "سينما ريكس" بالمنشية عقب تطويره    خالد مرتجي: مريم متولي لن تعود للأهلي نهائياً    نقابة أطباء القاهرة: تسجيل 1582 مستشفى خاص ومركز طبي وعيادة بالقاهرة خلال عام    رئيس البنك الأهلي: متمسكون باستمرار طارق مصطفى.. وإيقاف المستحقات لنهاية الموسم    يمن الحماقي ل قصواء الخلالي: مشروع رأس الحكمة قبلة حياة للاقتصاد المصري    الأوقاف: تعليمات بعدم وضع اي صندوق تبرع بالمساجد دون علم الوزارة    أشرف أبو الهول ل«الشاهد»: مصر تكلفت 500 مليون دولار في إعمار غزة عام 2021    عاجل - انفجار ضخم يهز مخيم نور شمس شمال الضفة الغربية.. ماذا يحدث في فلسطين الآن؟    بيج ياسمين: عندى ارتخاء فى صمامات القلب ونفسي أموت وأنا بتمرن    مصطفى عمار: «السرب» عمل فني ضخم يتناول عملية للقوات الجوية    حظك اليوم برج الحوت الاثنين 6-5-2024 على الصعيدين المهني والعاطفي    بعد عملية نوعية للقسام .. نزيف نتنياهو في "نستاريم" هل يعيد حساباته باجتياح رفح؟    الإفتاء: احترام خصوصيات الناس واجب شرعي وأخلاقي    فرج عامر: سموحة استحق الفوز ضد الزمالك والبنا عيشني حالة توتر طوال المباراة    كشف ملابسات العثور على جثة مجهولة الهوية بمصرف فى القناطر الخيرية    تؤدي إلى الفشل الكلوي وارتفاع ضغط الدم.. الصحة تحذر من تناول الأسماك المملحة    عضو «المصرية للحساسية»: «الملانة» ترفع المناعة وتقلل من السرطانات    تعزيز صحة الأطفال من خلال تناول الفواكه.. فوائد غذائية لنموهم وتطورهم    المدينة الشبابية ببورسعيد تستضيف معسكر منتخب مصر الشابات لكرة اليد مواليد 2004    الإسكان: جذبنا 10 ملايين مواطن للمدن الجديدة لهذه الأسباب.. فيديو    لفتة طيبة.. طلاب هندسة أسوان يطورون مسجد الكلية بدلا من حفل التخرج    وزيرة الهجرة: 1.9 مليار دولار عوائد مبادرة سيارات المصريين بالخارج    إغلاق مناجم ذهب في النيجر بعد نفوق عشرات الحيوانات جراء مخلفات آبار تعدين    أمينة الفتوى: لا مانع شرعيا فى الاعتراف بالحب بين الولد والبنت    "العطاء بلا مقابل".. أمينة الفتوى تحدد صفات الحب الصادق بين الزوجين    شم النسيم 2024 يوم الإثنين.. الإفتاء توضح هل الصيام فيه حرام؟    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مذكرات نبيل شعث «حياتى.. من النكبة إلى الثورة» (4 - 6): هكذا أصبحت عضوا فى فتح
نشر في الشروق الجديد يوم 16 - 10 - 2016

- أقسمت يمين الولاء خلال دراستى فى أمريكا.. وعلمت أن الهدف هو الكفاح المسلح
- أرسلت طائرة تحمل طلابا فلسطينيين وعربا من الولايات المتحدة إلى الجزائر لتدريبهم عسكريا وسياسيا على مفاهيم «فتح»
- ناظرت طلابا إسرائيليين وصرخت من أعماقى: «لن نكون عبيدكم» فضجت القاعة بالتصفيق
- خضت انتخابات عضوية منظمة الطلاب العرب بالولايات المتحدة بعد عام من وصولى وخسرتها
فى الحلقة الرابعة من مذكرات السياسى الفلسطينى البارز، الدكتور نبيل شعث، والتى صدرت حديثا عن «دار الشروق» تحت عنوان: (حياتى.. من النكبة إلى الثورة)، يتناول صاحبها كيفية انضمامه إلى صفوف حركة التحرير الفلسطينى «فتح» وكواليس تأديته لقسم الولاء للحركة، كما يكشف شعث مرحلة مهمة من تاريخ نضال الطلبة العرب فى الولايات المتحدة الأمريكية من خلال منظمة الطلاب العرب والصراعات التى شهدتها بين الطلاب المنتمين لحزب البعث فى مواجهة الطلاب القوميين والناصريين، وتنشر «الشروق» عبر سلسلة من 6 حلقات عرضا للسيرة الذاتية، التى تجمع بين المذكرات الشخصية والرواية التاريخية، وتغطى الفترة منذ بدايات الغزو الصهيونى لفلسطين، وفترة النكبة، وملحمة بيروت فى العام 1982، والحروب العربية الإسرائيلية، وانطلاقة الثورة الفلسطينية بقيادة حركة فتح، ونشأة منظمة التحرير، ومرحلتَى الأردن ولبنان فى تاريخ الحركة.. وإلى الحلقة الرابعة:
كانت رحلتى الجوية من القاهرة إلى نيويورك صباح الثامن من تشرين الأول (أكتوبر) مرهقة. كانت طائرة TWA ذات الأربعة محركات من طراز كونستليشن، آخر طائرات عصر المحركات قبل دخول الطائرات النفاثة إلى حقل الطيران التجارى وصلنا إلى نيويورك ظهر اليوم التالى الموافق التاسع من تشرين الأول (أكتوبر) 1959.
فى اليوم التالى لوصولى ذهبت إلى كلية وارتون للتسجيل وإتمام إجراءات الالتحاق. ذكرنى المسئول بشرط استمرارى فى الجامعة ألا وهو نجاحى بدرجة جيد جدا متقدمة B+ على الأقل، فى الموضوعات كافة، وأبلغنى بأنه يدرك أن تأخرى شهرا كاملا عن الالتحاق بالفصل الدراسى يعنى فقدان 30% من الفصل الأول، وبالتالى قد يصعب على تحقيق الشرط، وسوف ترى الكلية عندئذ ما يمكن فعله. أكدت لهم أننى سوف أنفذ الشرط، وأننى سأبذل كل الجهد لتحقيقه.
نتائجى الدراسية المفاجئة
انتهى الفصل وامتحاناته وجاءت النتائج مذهلة! لقد حصلت على الامتياز A+ فى الموضوعات الأربعة، وكنت الأول على الدفعة، ونشر اسمى على رأس قائمة الشرف وفى جريدة الطلاب اليومية. كانت النتيجة مذهلة أيضا للطلاب، وقد حاولت بعدها فتح أبواب الحديث معهم، واستخدمت النكات، ونقد الذات، وقد تضاءل التوتر بعدها، وبدأت فى تكوين علاقات صداقة مع بعضهم.
كان لتلك النتيجة تأثير أكبر على أساتذة الجامعة، فلقد كان شرط الجامعة أن أحصل على B+ (جيد جدا) وكان المسئولون يتوقعون لى الفشل نتيجة تأخرى فى الوصول إلى الجامعة وضياع ما يقرب من ثلث الوقت. وهاأنذا أتفوق على أقرانى الأمريكان والأجانب جميعا.
قررت الجامعة مكافأتى، فأعفتنى من الرسوم الدراسية ابتداء من الفصل التالى مباشرة، وأعطتنى وظيفة فى المكتبة تشغلنى 12 ساعة فى الأسبوع، ربما لأنى أصبحت جزءا من المكتبة لطول ما قضيته من الوقت فيها.
تجربة مبكرة فى الانتخابات
فى آب (أغسطس) 1960 قدت فريقا من طلاب فيلادلفيا إلى المؤتمر السنوى لمنظمة الطلبة العرب فى الولايات المتحدة (Organization of Arab Students in the U.S.A)، الذى عقد فى جامعة هاورد (السوداء) بواشنطن العاصمة. كانت الغلبة فى ذلك المؤتمر لحزب البعث، الذى هيمن على المنظمة «الأم» والجزء الأكبر من فروعها منذ انطلاقها فى العام 1954. شجعنى وفد فيلادلفيا على ترشيح نفسى لمقعد فى اللجنة التنفيذية للمنظمة الطلابية، وقد وافقت، وارتكبت خطأ فى التقدير. كنت صغير السن، وجديدا على العمل النقابى الطلابى العربى فى أمريكا، ولم يكن هناك تنظيم يدعمنى، أو تحالف أستند إليه، وكان تنظيم البعث راسخا، قويا، يدعمه حزب البعث فى سوريا والعراق دعما ماليا كبيرا، وكان غير البعثيين الذين يرغبون فى الترشيح يلتحقون بقائمة البعث التى كانت تضم بعض المستقلين، وكان من بينهم ابن عمتى وأخى زهير العلمى، وكذلك نهاد طولان الطالب المصرى من فيلادلفيا.
بدأت فى التدرب العملى على العملية الانتخابية، وتعرفت على كثيرين، ومن بينهم من استمرت صداقتى لهم سنين طويلة كأسامة الباز، الذى أصبح بعد ذلك النجم المصرى للدبلوماسية والسياسة الخارجية، ومنصور حسن، الذى أصبح وزيرا مقربا من السادات، ثم رجل أعمال ناجحا، وكمال الجنزورى الذى أصبح أحد أنجح رؤساء الوزارة المصريين، وعلى خليل الذى أصبح نائبا ووزيرا فى لبنان، ومحمود الترجمان من سوريا، ووليد خدورى العراقى الذى أصبح خبيرا بتروليا عربيا مرموقا. خسرت الانتخابات وكسبها البعثيون، ولكنى شخصيا كسبت تجربة سياسية فريدة فى العمل السياسى والنقابى، استفدت منها فى خوض الانتخابات بعد ذلك.
التحاقى بحركة فتح
التقيت زهير العلمى، ابن عمتى وأخى وصديقى، بعد معركة منظمة الطلبة العرب فى واشنطون. قال لى زهير إن هناك موضوعا مهما وسريا يريد بحثه معى. بدأ حديثه بمناقشة القضية الفلسطينية، وضرورة الانطلاق بعمل نضالى فلسطينى لتحريرها، ووافقته بالكامل. أضاف أننى أؤمن بالقومية العربية وبالوحدة العربية، ولكننا لا نستطيع أن ننتظرها، بل إن نضالنا سيوحد الجماهير العربية، وسيشجعها على مواجهة العدو الصهيونى. لم تطل مقدمته السياسية، وانطلق يحدثنى عن تنظيم فلسطينى يتبنى هذه الأفكار، ويسعى لتوحيد الفلسطينيين، ويعد لانطلاق الكفاح المسلح الفلسطينى لتحرير بلادنا. وأبلغنى أن اسم التنظيم هو «حركة فتح». رأيت فى فتح الأمل. إنها الولادة لمشروع وطنى فلسطينى يؤسسه ويبنيه شبابها بسواعدهم وعرقهم ودمائهم وتضحياتهم، كانت فيه فلسطين الواقع والأمل.
قلت له إننى جاهز تماما للانضمام له. قال لى إن عليك أن تبدأ فى القيام بالنشاطات المطلوبة منك وأن تمر بفترة اختبار قبل الموافقة على انضمامك للحركة. قلت له فلنبدأ فورا.
مصالحة الوالد والزواج
أرسلت إلى أبى فى السعودية برقية مطولة أخبره فيها بنجاحى وتفوقى. قلت له إننى أهدى هذا النجاح له، فهو أبى ومعلمى ومرشدى. وكان رد أبى مختصرا ومعبرا. كتب أبى: «لقد تفوقت بجهدك وبعقلك، فتهنئتى لك بالنجاح والتفوق، ومباركتى لزواجك من صفاء فى أقرب وقت ممكن، لتكون بقربك فى معركتك القادمة للدكتوراه يا بطل، وهنيئا لفلسطين». كانت تلك رسالته الأولى لى منذ القطيعة فى تموز (يولية) 1959، وكانت بالنسبة لى أسعد رسالة استلمتها فى حياتى.
اشترى أبى أجمل الملابس والحلى لصفاء من جدة، وسافر إلى الإسكندرية، ليتوجه مع الوالدة إلى منزل صفاء فى المندرة البحرية لخطبتها من أخوالها ووالدتها. بذل أبى مجهودا كبيرا فى تعويض صفاء عن سِنى الانتظار، وكان يريد صادقا أن يثبت لها أن معارضته لزواجنا لم تكن رفضا لها، وإنما خوفا من زواجى المبكر ومن احتمال انعكاسه السلبى على أحلامه وتطلعاته لإعداد ابنه لدوره المستقبلى. فى تلك الأيام الجميلة، كانت صفاء محل احترامه ومحبته ودلاله.
كان من الصعب وقتها أن أعود إلى مصر فى الشتاء، تاركا رسالة الماجستير وعملى، ولذلك فقد أوكلت والدى أمر عقد قرانى وتزويجى، وقد قام بواجبه خير قيام. تحدثت تليفونيا أثناء عقد القران وبعده. أقام أبى عرسا عظيما فى فندق سيسل بالإسكندرية، وارتدت صفاء ثوب العروس الأبيض، ودعا أبى عددا كبيرا من الأهل والأصدقاء لحضور ذلك الاحتفال الجميل. تم ذلك كله بدون العريس، الذى كان ينتظر ذلك اليوم بفارغ الصبر! وكانت الوالدة تذكر الناس أن أبى ليس هو العريس!
فى 14 نيسان (أبريل) 1961، وصلت صفاء إلى مطار نيويورك، وكان اسمه وقتها أيدل وايلد Idlewild Airport، ثم تغير إلى مطار كنيدى، بعد مصرع الرئيس الأمريكى جون كنيدى. كنت فى انتظارها حاملا باقة ورد. وصلت صفاء برداء أبيض بسيط، وباقة ورد جميلة، وكان لقاء الحبيبين بعد انتظار طويل من أجمل لحظات العمر.
عضويتى العاملة
فى نهاية الصيف زارنى زهير العلمى فى فيلادلفيا لكى يبلغنى أن عضويتى بحركة فتح قد أقرت، وأقسمت أمامه يمين الالتزام بالحركة. بعدها أبلغنى زهير أن ياسر عرفات هو مؤسس الحركة وقائدها الفعلى، وأنه يتذكرنى صبيا ذكيا لامعا، وشابا نابها. قال زهير إن أبو جهاد وصلاح خلف (أبو إياد) من الأعضاء المؤسسين، وقال لى إنه سيكون المسئول المباشر عنى حركيا، وإن على البدء فى تجنيد أعضاء جدد للحركة، والاستعداد للقيام بمهمات جديدة. وكان ذلك كله مصدر سعادة بالغة لى. كرر زهير تأكيده أن فتح انطلقت بهدف محدد وواضح، وهو الكفاح المسلح الذى ارتأت فيه طريقها الحقيقى الفاعل والوحيد لتحرير فلسطين.
الطفل الأول
قضت صفاء وقتا فى التعرف على الحياة الأمريكية، وفى استكشاف فيلادلفيا، وتعلم الإنجليزية، وقد ساعد التلفزيون كثيرا فى إنجاز هذه المهمة، وبدأت أيضا بالاهتمام بزوجات الطلاب العرب فى فيلادلفيا، وشكلت معهن جمعية للزوجات، كما بدأت العمل كمساعدة لأستاذتى الدكتورة جين كروكت.
كانت أهم النتائج المفرحة لرحلة شهر العسل الثانى فى ميامى أن حملت صفاء بطفلنا الأول. لم يكن ذلك مخططا، فقد كنا نفضل تأخير الإنجاب إلى ما بعد الحصول على الدكتوراه، ولكنى كدت أطير فرحا عند تأكيد الحمل. سعادتى بأن يكون لى ابن أو ابنة كانت كبيرة جدا، كنت أتمنى أن تكون بنتا فالطفل الذى أحببته كثيرا كان أختى زينب التى عاملتها كطفلتى تماما. لم يكن هناك إمكانية علمية وقتها للتنبؤ بجنس المولود، ولذلك مثل سائر الآباء والأمهات، كان علينا أن نخطط للاحتمالين. أولى خطوات الاستعداد كانت الانتقال إلى بيت أكبر من بيتنا، وقد بدأنا البحث الجدى دون إبطاء، ووجدنا منزلا جميلا مطلا على حديقة عامة فى الشارع 96 فى غربى فيلادلفيا، فيه غرفة نوم إضافية لطفل صغير، لها باب داخلى يفتح على غرفتنا.
فى الساعات الأولى من يوم 25 كانون الثانى (يناير) 1962 ولدت ابنتى الأولى رندا، فى ليلة من ليالى الشتاء المثلجة فى درجة حرارة 18 تحت الصفر. وقد استغرقت ولادتها سبع ساعات، ذهبت أثناءها لإلقاء محاضراتى، وعدت للمستشفى مرات عديدة، وهى على بعد أمتار من مكتبى بالجامعة. أخيرا وصلت رندا، ويا لفرحتى! لقد صورتها بعد ولادتها مائتى صورة! كانت صفاء بخير والحمد لله، وقد ذهبت إليها بالورد والهدايا.
كان علينا أن نفاضل بسرعة بين عدة بدائل، لاختيار اسم المولودة الجديدة، لو كان المولود صبيا لأسميناه «على» دون شك، فأنا أبو على وابن على. ولكن سميحة كانت اسما صعب النطق لغير الناطق باللغة العربية، وضعنا بدائل كثيرة، اخترنا منها رندا، وفكرت مليا فى الكيفية التى سوف أبلغ فيها الوالدة وهى تنتظر إما عليا وإما سميحة. قلبت الأمر من جوانبه، تذكرت ما كان صديق أمريكى قد قاله لى، وهو أن الأمريكان كثيرا ما يسمون أولادهم وبناتهم باسمين مثل «مارى جين أو آن لى». فكتبت للوالدة برقية أقول فيها «ولدت اليوم رندا سميحة، وصفاء بصحة جيدة والحمد لله». عرفت بعد ذلك أن تعليق الوالدة فور قراءتها البرقية كان «يا لحظك العاثر يا نبيل، ابنتين توءم مرة واحدة بدلا من صبى ولى للعهد!». كتبت طويلا لأشرح للوالدة ولأطيب خاطرها. كان على أن أنتظر أربعين عاما قبل أن أسمى ابنتى الصغرى «سميحة» وكان ذلك تكريما للحاجة سميحة بعد وفاتها.
منظمة الطلاب العرب
عدت إلى التفكير بأداء دور رئيس فى منظمة الطلاب العرب بالولايات المتحدة، وقررت ترشيح نفسى لعضوية اللجنة التنفيذية للمنظمة، أو لرئاستها، فى المؤتمر القادم. أبلغت زهير العلمى، وطلبت منه موافقة رسمية من الحركة، ولم يتأخر رده الايجابى، وشجعنى على التحرك لتحقيق النجاح لى وللحركة.
قبل نهاية الصيف وصلتنا الدعوة لحضور المؤتمر العام لمنظمة الطلاب العرب فى الولايات المتحدة، الذى كان مخططا له أن يعقد فى مدينة فورت كولينز، بولاية كولورادو فى النصف الثانى من آب (أغسطس) 1963. وجدت فى تلك الدعوة، الفرصة للانطلاقة الجديدة، التى كنت أبحث عنها.
انقضت ثلاث سنوات بعد محاولتى الأولى لترشيح نفسى فى مؤتمر منظمة الطلبة العرب فى واشنطن عام 1960. تغيرت بعدها الأمور كثيرا، قمت ببناء شبكة واسعة من العلاقات مع الطلاب العرب فى أنحاء الولايات المتحدة، وبالأخص المصريين منهم، وزرت عددا من الأندية العربية لحضور مؤتمراتها أو للمشاركة فى احتفالاتها. تطورت علاقتى أيضا بالطلاب الفلسطينيين، وبخاصة أولئك الذين نجحت فى إقناعهم بالانضمام إلى «فتح» أو بالعمل أنصارا لها.
(..) توجهنا إلى مكان المؤتمر فى حرم جامعة ولاية كولورادو، وبدأنا العمل فورا لتشكيل التحالف وللدعاية الانتخابية ولتأمين الأصوات. اتصلت بأبناء حركة فتح وأصدقائها، وحركت الحلفاء والأصدقاء جميعا. تمكنا من تحقيق تحالف غير معلن بين فتح، والقوميين العرب، والناصريين، وبعض المستقلين، فى مواجهة البعثيين الذين حكموا المنظمة سنين طويلة. أحسست بالطمأنينة فى اليوم الأخير.
خرجت نتائج الانتخابات محيرة للجميع، فقد فازت قائمتنا بخمسة مقاعد، وفاز البعث بأربعة، ولكن أصواتنا كانت الأعلى، وكانت الأصوات التى حصلت عليها، وهى 954 صوتا، تزيد على ضعف ما حصل عليه أى من مرشحى البعث. لم يقبل البعثيون بالبقاء فى اللجنة الجديدة كمعارضة، فاستقالوا جميعا، بذلك فاز الخمسة التالين من قائمتنا. انتخبت رئيسا، ومحمد الدكرورى ممثل الناصريين أمينا للصندوق ورمزى دلول ممثل القوميين العرب أمينا للسر ورئيسا لتحرير مجلة المنظمة، وعزمى عبدالهادى مسئولا عن نشاطات الفروع، وأحمد حشاد، ونضال السختيان أعضاء انتهت إلى الأبد سيطرة البعث على المنظمة.
الاتصال بأبوجهاد فى الجزائر
كانت علاقتى بفتح، من خلال زهير العلمى، قد تعمقت فى تلك الفترة، وطلب منى زهير الاتصال بالقائد أبو جهاد فى الجزائر حيث كان يعمل مديرا لمكتب فلسطين (مكتب فتح) فى العاصمة الجزائرية. لم يكن أبو جهاد من بين الذين كانوا يزورون والدى فى الإسكندرية، ولم أكن أعرفه. اكتشفت بمكاتبته رجلا فلسطينيا مناضلا، متواضعا وعمليا لأقصى حد، واتفقت معه على إرسال طائرة كاملة مستأجرة تحمل طلابا فلسطينيين وعربا «لزيارة الجزائر» لتدريبهم عسكريا وسياسيا على مفاهيم «فتح» كحركة تحرر وطنى ذات عمق عربى. ذهب هذا الوفد إلى الجزائر وقضى وقتا مفيدا جدا مع أبو جهاد ومساعديه. حافظ المشاركون على سرية مهمتهم، فلم يثيروا أى مشاكل عند عودتهم مع الأمن الأمريكى، ولم يطلب منهم أبو جهاد على أى حال القيام بأى مهمات فى أمريكا، ولكن منهم من انضم بعد ذلك لتنظيم «القطاع الغربى» الذى قاده أبو جهاد للعمل فى الأرض المحتلة.
المناظرة مع الطلاب الإسرائيليين
دعيت من الاتحاد الوطنى للطلاب الأمريكان للمشاركة فى مناظرة عامة فى مواجهة اتحاد الطلاب الإسرائيليين، بعد انتهاء مؤتمرنا، وكان ذلك فى مدينة ماديسون بولاية ويسكونسين. استشرت أصدقائى فاختلفوا فيما بينهم فى النصيحة. كانت المشاركة مع الإسرائيليين فى أى عمل تعتبر تطبيعا وخيانة. أبلغنى الاتحاد أن الفريق الإسرائيلى سوف يحضر عند غيابى كالعادة، وسوف تترك مقاعدنا فارغة، ويأخذ الإسرائيليون الوقت كله. كنت أعرف أن حضورى قد يؤدى إلى مشكلات كثيرة لى ولعائلتى، ولكنى فكرت كثيرا، وقررت قبول التحدى ودخول المعركة.
كان الفريق الفلسطينى يتكون منى ومن مصطفى الزين، وكان الفريق الإسرائيلى يعتبر من الحمائم، وينتمى أعضاؤه لحزب المابام اليسارى. احتدمت المناظرة، وطرحت مع مصطفى القضايا التاريخية والمعاصرة التى قمت بإعدادها مسبقا، والوفد الإسرائيلى يراوغ ويتجنب المواجهة. ولما كانت لنا الفرصة الأخيرة للكلام، حسب الاتفاق، فقد أجلت الضربة القاضية للحظة الأخيرة. أتت اللحظة عندما طرح الإسرائيليون، فى كلمتهم الختامية، موقفا عنصريا «أبويا»، بأنهم يحسنون معاملة الفلسطينيين فى إسرائيل، بل إن بعض أصدقائهم كانوا من الفلسطينيين!! ولكن الإسرائيليين «سامحوا فلسطينييهم» الذين يعيشون بينهم، وتعايشوا معهم، وعلى العرب أن يسمحوا للفلسطينيين الذين اختاروا الهجرة إلى البلاد العربية بالحياة الكريمة التى يعيشها أقرانهم فى إسرائيل!! بذلك يتحقق السلام.
بدأت مداخلتى الأخيرة بقصة حكاها لى أمريكى أبيض، من ولاية جنوبية أمريكية. قال الجنوبى العنصرى: نحن لا نكره الزنوج، فنحن ربينا أطفالا سودا أتانا آباؤهم عبيدا. كانوا يلعبون معنا، وكنا نحسن معاملتهم. فى الصيف كانوا يسبحون معنا فى بحيرة صغيرة تقع ضمن أملاكنا، فإذا مر رجال بيض إلى جانب البحيرة ورأونا، يصرخون من بعيد: من هؤلاء الزنوج أيها الأولاد؟ نرد عليهم: لا تقلق يا عم، هؤلاء زنوجنا!! واستخدم الراوى الكلمة العنصرية المحقرة للسود الأمريكان Niggers. يرد المارة: لا بأس إن كانوا من زنوجكم، فنعود للسباحة واللعب.
صرخت من أعماقى، بحرقة بالغة، بعدما رويت القصة: لا نريد أن نكون زنوجكم، لن نكون عبيدكم... كررتها مرات عديدة، فانفجرت القاعة بالتصفيق وقوفا. صرخت قائلا: نريد حقوقنا، نريد أرضنا، نريد حريتنا، ونريد سلاما عادلا، نريد حلم مارتن لوثر كنج. فانفجرت القاعة مرة أخرى بالتصفيق. وعندما طلب رئيس الاتحاد الأمريكى رأى القاعة فى الفائز بالمناظرة، وقفت القاعة مرة أخرى تهتف لفريق فلسطين.
العودة
كانت هناك تطورات عديدة فى حياتنا، وفى الوطن، زادت من إحساسى بطول الغربة، وبضرورة العودة للوطن. يا خشيتى من مصير حذرت الجميع من الوقوع فيه، ألا وهو التعود على الحياة فى أمريكا، واستمراء البقاء فيها، والتخلى عن واجب العودة للوطن.
فى تلك الفترة، عاد الوالد مريضا ومتقاعدا إلى الإسكندرية بعد فترة صعبة جدا فى السعودية، أصيب أثناءها بأزمتين قلبيتين، وأحسست بضرورة أن أكون إلى جانبه. خمس سنوات ونصف السنة وأنا أعيش بعيدا عنه، فى أمريكا. لم يكن هناك علاج حقيقى لمرض القلب وقتها، اللهم إلا الراحة والرياضة ومشتقات الديجتاليس لتقوية عضلة القلب. وتلك كلها لم تمنع جلطة جديدة زادت من ضعف قلبه.
أتتنى رسائل من الوالد الذى عاد إلى الإسكندرية عن رغبة الدكتور أحمد فؤاد شريف فى انتقالى عند عودتى من جامعة القاهرة إلى المعهد القومى للإدارة العليا، وأن ذلك سوف يسهم فى تحقيق أحلامى فى العمل العربى والفلسطينى، لأنه سيتيح لى فرصة العمل والسفر فى مصر والدول العربية. أبلغنى الوالد أنه بدأ بحثه عن بيت لى فى القاهرة.
ناقشنى أستاذى الدكتور نورثروب حول إصرارى على الاستقالة والسفر إلى مصر فقال: أنت أستاذ محترم، وعالم، كيف سيعيش عالم وأستاذ مثلك فى مصر؟ قلت له: هذا كلام عنصرى، إن سمحت لى، فمصر جزء من وطنى العربى، وهناك الآلاف من العلماء والأساتذة يعيشون ويعملون ويبحثون هناك، وهى الأقرب إلى وطنى فلسطين، وقد قضيت فيها صباى وجزءا من شبابى. حاول أساتذتى إقناعى بالبقاء دون جدوى. قال لى د.نورثروب، بعد مناقشة طويلة حول كفاءتى وإمكانياتى ومستقبلى فى أمريكا، نحن سندفع لك 2000 دولار فى الشهر، فكم سوف يدفعون لك فى مصر؟ قلت له: «ما يعادل 50 دولارا شهريا». قال: «هذا راتب لا نستطيع منافسته!!» وتوقف عن مناقشتى.
اقرأ أيضا:
مذكرات نبيل شعث «حياتى.. من النكبة إلى الثورة».. فى ظلال يافا «بلد الغريب»
مذكرات نبيل شعث «حياتى.. من النكبة إلى الثورة» (2 - 6): على ضفاف الإسكندرية
مذكرات نبيل شعث «حياتى.. من النكبة إلى الثورة» (3 - 6): البحث عن هوية


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.