«الوطنية للانتخابات»: انتظام العمل بجميع اللجان باستثناء 6 لجان بسبب الشبورة المائية    أسعار الخضروات اليوم الخميس 11 ديسمبر في سوق العبور    سعر الدولار الأمريكي اليوم الخميس 11 ديسمبر 2025    «ترامب»: واشنطن صادرت ناقلة نفط قبالة سواحل فنزويلا    مصدران: أمريكا تدرس فرض عقوبات متعلقة بالإرهاب على الأونروا    منخفض جوي يفاقم الكارثة الإنسانية بغزة    تايلاند تعلن ارتفاع عدد القتلى إثر الاشتباكات الحدودية مع كمبوديا إلى 9    كأس العرب| طموحات فلسطين تصطدم برغبة السعودية في ربع النهائي    وكيله: بابلو الصباغ لم يتلقى عروض من الأهلي.. واللاعب بدأ إجراءات استخراج جواز سفره الفلسطيني    طرق الوقاية من الحوداث أثناء سقوط الأمطار    تحريات لكشف تفاصيل مصرع طفلة وإصابة والدتها وشقيقها بعد تناول بسكويت بأكتوبر    أسعار الذهب في مصر اليوم الخميس 11 ديسمبر 2025    قوات الدفاع الجوى الروسية تدمر 287 طائرة مسيرة أوكرانية ليلا فوق مناطق عدة    الفيدرالي الأمريكي يقرر خفض الفائدة لتصبح بين 3.5% و3.75%    قرار جمهوري بتعيين القاضي مجدى خفاجي رئيسا لمحكمة استئناف قنا    مورينيو يكشف أسباب فوز بنفيكا على نابولي في دوري الأبطال    الهيئة الوطنية تعلن بدء التصويت باليوم الأخير بالدوائر الملغاة بانتخابات النواب    تعرف على سعر الدولار ببداية تعاملات اليوم الخميس 11-12-2025    إخلاء سبيل والدة الطالب المتهم بمعاشرة شقيقته القاصر في المرج    في أول أيام عرضه، "الست" يحقق هذه الإيرادات بالسينمات أمس    حالة الطقس في الكويت اليوم الخميس 11 ديسمبر 2025    ماسك يتحدث عن إلهان عمر وممداني والجحيم الشيوعي    مجلس النواب الأمريكي يصوّت بالأغلبية لصالح إلغاء قانون عقوبات "قيصر" ضد سوريا    DC تطرح أول بوستر رسمي لفيلم Supergirl    إسلام الكتاتني يكتب: الحضارة المصرية القديمة لم تكن وثنية    ترامب: الولايات المتحدة مدعوة إلى اجتماع في أوروبا    سلوى عثمان: أخذت من والدتي التضحية ومن والدي فنيًا الالتزام    دعاء الفجر| (ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين)    التحقيق مع شخص يوزع بطاقات دعائية على الناخبين بالطالبية    لأول مرة بمستشفى سامول، جراحة ناجحة لإزالة ورم 10×10 سم دون استئصال الرحم    توقيت أذان الفجر اليوم الخميس 11ديسمبر 2025.. ودعاء مأثور يُقال بعد الانتهاء من الصلاة    أرسنال يسحق كلوب بروج بثلاثية خارج الديار    "شغّلني" تُطلق مشروع تشغيل شباب الصعيد بسوهاج وقنا    التحضير لجزء ثانٍ من مسلسل «ورد وشوكولاتة»    مواقيت الصلاة اليوم الخميس 11ديسمبر 2025........مواعيد الأذان في محافظة المنيا    التعادل الإيجابي يحسم مباراة بروسيا دورتموند وبودو جليمت    بانا مشتاق: إبراهيم عبد المجيد كاتب مثقف ومشتبك مع قضايا الناس    سلمان خان وإدريس إلبا وريز أحمد فى حفل جولدن جلوب بمهرجان البحر الأحمر    البنك المركزي: معدل التضخم الأساسي السنوي يسجل 12.5% في نوفمبر 2025    "امرأة هزت عرش التحدي".. الموسم الثاني من مسابقة المرأة الذهبية للمركز الإفريقي لخدمات صحة المرأة    "جنوب الوادي للأسمنت" و"العالمية للاستثمار" يتصدران ارتفاعات البورصة المصرية    القبض على شخص اقتحم مدرسة بالإسماعيلية واعتدى على معلم ب "مقص"    المتهم بتجميع بطاقات الناخبين: «كنت بستعلم عن اللجان»    4 فوائد للملح تدفعنا لتناوله ولكن بحذر    أعراض اعوجاج العمود الفقري وأسبابه ومخاطر ذلك    انتبهي إلى طعامك خلال الأشهر الأولى من الحمل.. إليك قائمة بالمحاذير    مستشار وزير الثقافة: إدارج "الكشري" في قائمة تراث اليونسكو يمثل اعترافًا دوليًا بهويتنا وثقافتنا    أستاذ علوم سياسية: المواطن استعاد ثقته في أن صوته سيصل لمن يختاره    ضبط شاب ينتحل صفة أخصائى علاج طبيعى ويدير مركزا غير مرخص فى سوهاج    البابا تواضروس يهنئ الكنيسة ببدء شهر كيهك    التعادل السلبي يحسم موقعة باريس سان جيرمان وأتلتيك بلباو    ساوندرز: ليفربول ألقى صلاح تحت الحافلة؟ تقاضى 60 مليون جنيه إسترليني    الأرقام تكشف.. كيف أنقذ صلاح ليفربول من سنوات الفشل إلى منصات التتويج.. فيديو    ترامب: الفساد في أوكرانيا متفشٍ وغياب الانتخابات يثير تساؤلات حول الديمقراطية    الزوامل والتماسيح: العبث البيئي وثمن الأمن المجتمعي المفقود    "الصحة" تكشف عن الفيروس الأكثر انتشارا بين المواطنين حاليا    الأوقاف تختتم فعاليات المسابقة العالمية الثانية والثلاثين للقرآن من مسجد مصر الكبير بالعاصمة    حاسوب القرآن.. طالب بكلية الطب يذهل لجنة التحكيم في مسابقة بورسعيد الدولية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مذكرات نبيل شعث «حياتى.. من النكبة إلى الثورة» (3 – 6): البحث عن هوية
نشر في الشروق الجديد يوم 15 - 10 - 2016

- تلقيت تدريبا عسكريا فى الحرس الوطنى المصرى.. وحصلت على بندقية لمقاومة عدوان 1956
- رفض والدى زواجى بعد تخرجى.. واشترط تدريبى فى 4 بنوك أوروبية وحصولى على الماجستير والدكتوراه
- حبى الأول صفاء زيتون قالت: «لن نتزوج إلا برضا والدك.. وسوف أنتظرك حتى آخر العمر»
- جماعة تبشيرية تابعة للمخابرات الأمريكية نصبت لى كمينًا واحتجزتنى فى جبل.. وأعضاؤها شنوا هجومًا على الإسلام والسود
فى الحلقة الثالثة من مذكرات السياسى الفلسطينى البارز، الدكتور نبيل شعث، والتى صدرت حديثًا عن «دار الشروق» تحت عنوان: (حياتى.. من النكبة إلى الثورة)، يبدأ صاحب المذكرات من المرحلة الجامعية والتحاقه بكلية التجارة بجامعة الإسكندرية، وفى مزيج بين العام والخاص يروى شعث كيف مرت أيام العدوان الثلاثى على مصر فى عام 1956، ويكشف أنها تلقى تدريبًا عسكريًا فى صفوف الحرس الوطنى المصرى وتسلم بندقية للمشاركة فى المقاومة، وتواكبت تلك المرحلة مع بدء نمو البذرة الأولى لقصة حب رقيقة بين نبيل شعث ورفيقة دربه فيما بعد صفاء زيتون، كما يتناول الصعوبات والنقاشات التى خاضها مع والده لإقناعه بالزواج المبكر، وكيف اضطر إلى حل مرحلى يسافر بموجبه إلى اوروبا لبدء الدراسات العليا والتدريب فى عدة بنوك، وتنشر «الشروق» عبر سلسلة من 6 حلقات عرضًا للسيرة الذاتية، التى تجمع بين المذكرات الشخصية والرواية التاريخية، وتغطى الفترة منذ بدايات الغزو الصهيونى لفلسطين، وفترة النكبة، وملحمة بيروت فى العام 1982، والحروب العربية الإسرائيلية، وانطلاقة الثورة الفلسطينية بقيادة حركة فتح، ونشأة منظمة التحرير، ومرحلتَى الأردن ولبنان فى تاريخ الحركة. وإلى الحلقة الثالثة:
التحقت بكلية التجارة بجامعة الإسكندرية فى تشرين الأول (أكتوبر) 1954، بعد ضغوط من الوالد، وبعد مناقشات مستفيضة معه ومع أصدقائه، وبعد مراجعة ذاتية لأهدافى وأحلامى ومستقبلى العملى والسياسى.
كانت الأيام الأولى فى الكلية سعيدة وتبشر بالخير. الحياة الجامعية تختلف كثيرا عن الحياة فى المدرسة الثانوية. هناك المزيد من الحرية فى اختيار الموضوعات وحصص المراجعة العملية ومواعيدها. وهناك أيضًا حرية أكبر فى حضور الدروس والمحاضرات أو التغيب عنها. مكتبة الكلية كانت صغيرة ومحدودة الموارد، ومع ذلك فقد أتاحت لى فرصة إضافية للقراءة والاطلاع. ثم هناك الاختلاط فى الجامعة بين الطلبة والطالبات، وهو ما لم يكن متاحا فى المدرسة الثانوية أو الابتدائية.
عند دخولى الجامعة كانت الأعداد ما زالت صغيرة ومعقولة، سمحت لنا بالتواصل مع أساتذتنا وبلقائهم خارج قاعات المحاضرات للاستفادة من علمهم بالأسئلة والمحاورة. تضاعفت الأعداد بعد ذلك سنة بعد سنة بالتزام الحكومة بالتعليم المجانى، الذى فتح أبوابه أمام الجميع كاستحقاق سياسى من خلال ما سمى بجامعة الأعداد الكبيرة، والتزمت الحكومة المصرية بتعيين خريجى الجامعة جميع، فى الوزارات والمؤسسات الحكومية، ما أدى إلى زيادة الإقبال على التعليم الجامعى وإلى زيادة كبيرة فى عدد الطلاب فى الكلية الواحدة.
لعبتُ دورًا مهمًّا فى انطلاق نظام «الأسر الجامعية» الذى بدأ كفكرة لتشجيع النشاط الثقافى والرياضى والاجتماعى بين الطلبة. وكان رائد أسرتى، هو الدكتور محمد عبدالعزيز عجمية، أستاذ الاقتصاد، وكان نائب الرائد الأستاذ رمزى زكى مدرس الإحصاء، وكان له ولزوجته السيدة دلال، التى كانت طالبة فى الكلية، الدور الأول فى خلق أسرة حقيقية من مجموعتنا.
انتقيت، مع الأستاذ رمزى، أعضاء الأسرة من الطلبة والطالبات بعناية فائقة: سلطان أبو على وعلى والى وحسن محيى الدين، وكاميليا كامل بيومى وليلى غالى. وأضفنا أعضاء جددًا فى الأعوام التالية، وكان بينهم صفاء زيتون، حبى الأول الحقيقى، ثم زوجتى وأم أولادى وشريكة حياتى لسنين طويلة. كانت صفاء طالبة جديدة جميلة ومرحة، وكانت مستعدة للمشاركة فى نشاطات الأسرة من دون تكلف أو تصنع. عرفت أن بيتها فى المندرة البحرية على حدود قصر المنتزه. توفى أبوها، معلم اللغة العربية فى كلية البنات، بمنطقة سابا باشا. جمعتنا الأسرة فى نشاطات عديدة، وتحولت الصداقة تدريجيًّا إلى حب صادق. تحدثت عن عائلتى وعن فلسطين، وحدثتنى عن أمها وإخوتها وأخواتها السبع، وعن عائلة زيتون فى إدكو بمحافظة البحيرة، وعائلة أمها فى بركة السبع بالمنوفية.
العدوان الثلاثى

فى 26 تموز (يولية) 1956، فى الذكرى الرابعة للثورة المصرية سدد عبدالناصر ضربته المفاجئة، ألقى خطابًا تاريخيًّا استعرض فيه الوضع السياسى كاملًا، منطلقًا من القضية الفلسطينية واستشهاد مصطفى حافظ، وفاجأ العالم فى نهايته بإعلان قرار تأميم قناة السويس.
تفاعلتُ مع مجريات الأحداث، والتحقت بالحرس الوطنى المصرى، فى كتيبة جامعة الإسكندرية، وبدأت التدريب العسكرى مع مجموعة من زملائى وأصدقائى، وعندما بدأت الدراسة، فى آخر أيلول (سبتمبر)، أصبح التدريب يوميا على أرض الكلية.
ليلة 29 تشرين الأول (أكتوبر) 1956 كنت مع صفاء فى الكلية نتابع محاضراتنا الدراسية المسائية. عدنا سويا فى الترام، وعندما وصلنا إلى محطة مصطفى باشا توقف الترام وصعد عمال يحملون طلاءً أزرق غطوا به النوافذ الزجاجية كلها. ساد الجو توترا وقلقا، وبدا واضحًا أن الحرب قد بدأت، أو هى على الأبواب. أوصلتها إلى بيتها فى المندرة، وعدت أدراجى إلى بيتنا وكلى قلق على مصر وعلى صفاء.
توجهت صباح اليوم التالى إلى كلية التجارة بملابس الحرس الوطنى، أحسست بالخطر الفادح الذى تتعرض له مصر وكل إنجازاتها، وأحسست بقلق شديد على فلسطين. عرفنا بالاجتياح الإسرائيلى لقطاع غزة، وبمذبحة خان يونس، التى قامت بها القوات الإسرائيلية، فازداد خوفى على فلسطين.
توقفت الدراسة فى الجامعة، وانتقلت مع سرايا كلية التجارة إلى موقع كتيبة الجامعة فى كلية الهندسة، وتطوعت صفاء وأختى ميسون فى صفوف الهلال الأحمر المصرى، وفى غياب والدى بقيت أمى وحدها مع أصغرنا، نديم وزينب. فى اليوم التالى وزعت الأسلحة علينا جميعًا، وكانت حصتى بندقية سمينوف نصف آلية سوفيتية الصنع.
مناقشة مع الوالد

استخدمت كل قدرات الإقناع التى اكتسبتها من والدى فى الحديث معه عن صفاء. ولا أعتقد أنه استمع إلى كلمة واحدة، قال لى: «صفاء فتاة جيدة، وجذابة، ومهذبة، أنا لا أعرفها جيدًا، ولا نعرف شيئا عن عائلتها. ولكن ذلك كله ليس مهمًّا الآن، المهم هو أن تعد نفسك للمستقبل الواعد الذى خطوت الخطوة الأولى فى طريقه». «أمامك خطوات عديدة حتى تستطيع الوصول. لقد سهرت الليالى أحلم بمستقبلك وأعد العدة لتحقيقه، رأيتك منذ طفولتك قائدًا وزعيمًا فى وطنك تعمل لتحرير وطنك السليب وإعادة بنائه، وهذا ما يجب أن تفعله، لا تضيع دقيقة يمكنك استخدامها فى بناء هذا المستقبل».
بدأ والدى بعرض خطته، كانت خطة الوالد لإعدادى لحياتى العملية طموحة، وذكية ومبدعة: كانت تبدأ بسنتين من التدريب العملى فى بنوك أوربية متعددة الأنظمة. بنك الاتحاد السويسرى Union de Banque Suisse فى جنيف، حيث أتعلم الفرنسية أيضًا لمدة ستة شهور، يتبعها ستة شهور فى بنك ميدلاند Midland فى لندن، أنتقل بعدها إلى دوسلدورف بألمانيا للتدريب فى البنك الألمانى دويتشه بنك Deutsche Bank وأتعلم اللغة الألمانية، وأخيرا فى بنك روما Banca di Roma فى روما لأتعلم اللغة الإيطالية، والنظام المصرفى الإيطالى.
كيف يمكن رفض هذه الخطة الطموحة والمغرية؟

يأتى بعد ذلك الجزء الأكاديمى من الخطة، وهنا عاد أبى إلى الوعد الذى قطعه على نفسه بأن يعمل على تحقيق إنجازى لأكثر من دكتوراه عوضًا عن تلك التى خسرها بمرض التراخوما فى شبابه.
قال لى: «تذهب بعد التدريب العملى إلى جامعة هارفارد للحصول على الماجستير والدكتوراه فى الإدارة والبنوك، ثم تعود إلى إنجلترا للحصول على دكتوراه فى الاقتصاد من جامعة لندن London School of Economics «وبعدها يا بطل تكون جاهزا للعمل ومن ثَمَّ الزواج». «عمرك الآن لم يكمل 20 ربيعا، ثمان إلى عشر سنوات أخرى توصلك إلى العمر الذى تزوجت أنا فيه والدتك». «بناء المستقبل يجب أن يرتكز على أولويات واضحة، التدريب والتعليم فى مقدمتها، وكل شيء آخر بما فيه الحب والزواج يمكن تأجيله إلى موعد لاحق».
الحل المرحلى

وصلت أخيرًا إلى حل مرحلى، فلأنطلق إلى أوروبا للتدريب سنة أو سنتين، تكون صفاء قد أنهت دراستها الجامعية أثناءها وبدأت تعمل، ونعيد تقييم الموقف عندئذٍ، ونعود لمناقشة الوالد، وقد كان. أبلغت الوالد أنى جاهز للإقلاع فى خطة التدريب. ذهبت وحدى للقاء والدة صفاء، وأخبرتها بمشاعرى ومحبتى لابنتها وبرغبتى فى الزواج منها، وقلت لها إن العائلة تريدنى أن أنتظر لأتمم دراستى، وإنى لا أستطيع أن أطلب منها الانتظار دون أجل محدد، ولذلك فإنى أطلب منها الانتظار لمدة سنة إلى حين حصول صفاء على البكالوريوس. كانت أم صفاء حانية متفهمة، وقالت لى: أكمل يا بنى تعليمك، وعندما تكون جاهزا يتمم الله بخير إن شاء الله.
التجربة السويسرية

تعرفت فى فندق العائلة على بعض الشباب السويسريين الذين أبدوا اهتماما كبيرًا بى، وبفلسطين، وبمناقشة «الإسلام» معى. لم أرتح لهم كثيرًا، ولكنهم ألحوا فى دعوتى إلى مقر لهم على جبل عال مطل على مونترو القريبة من فيفيه، وفى قرية اسمها كو. قبلت دعوتهم لقضاء عطلة نهاية الأسبوع فى مقر جمعيتهم التى قالوا إن اسمها جمعية إعادة التسلح الخلقى (Réarmement morale). وإنها جمعية دولية، مقرها سويسرا تعمل على مساعدة الشعوب الفقيرة، وعلى نشر الأخلاق الحميدة، وعدم التفرقة بين الأديان.
لم تمض ساعة على وصولى إلى كو، حتى بدأت حملة «التبشير والتثقيف»، وكأنهم وضعونى فى مصيدة، حيث لا يمكن مغادرة المكان إلا من خلال مصعد كهربائى خاص بهم. اكتشفت أنهم جماعة تبشيرية فى أقصى اليمين السياسى، كان كلامهم المهذب فى فيفيه عن تعاون الأديان كمينا لدعوتى إلى كو. ما إن وصلت حتى شنوا حملة قاسية على الدين الإسلامى والثقافة العربية.
كانت لغتى الفرنسية محدودة، وبالأخص فى المسائل اللاهوتية ومقارنة الأديان، وشعرت بالعجز عن الرد عليهم بالحجة والمنطق، اكتشفت أيضًا أننى لم أكن أعلم الشيء الكثير عن المسيحية ومقارنة الأديان بشكل عام، أو بتاريخ الأديان.
انطلقوا أيضًا فى حملتهم السياسية، وعرضوا عليّ فيلما من إعدادهم عن نيجيريا، حيث «الأشرار السود» يثيرون البغضاء ضد السيد الإنجليزى الأبيض الذى يحكم نيجيريا (..) رفضت الفيلم بكل جوارحى.
رفضوا السماح لى بمغادرة المقر قبل مساء الأحد للعودة إلى فيفيه. فى لحظات معينة أحسست أنى سجين سياسى، لا يعرف أحد مكانى وأننى سأبقى أسيرًا، فى قمة هذا الجبل. ما إن غادرت المكان، فى يوم ممطر بارد، وبدأت رحلة العودة إلى فيفيه، حتى أحسست بمعنى الحرية وبمعنى العبودية، هى فى الفكر أساسًا، وفى العقل والقلب وليست فقط فى الجسد وقيوده.
عرفت لاحقا أن الجمعية كانت ذراعًا للمخابرات الأمريكية، ومخابرات غربية أخرى، وظهر اسمها فيما نشر من معلومات عن هذه المخابرات فى الفترة التى أعقبت رئاسة ألان دالاس لهذه المخابرات.
والدى فى لندن

حضر والدى فى الأسبوع الأول من تموز (يولية)، وكنت قد أنهيت تدريبى قبلها بأيام قليلة، وبقيت أنتظره بفارع الصبر. استقبلته بلهفة فى المطار، واصطحبته إلى فندق فى ماربل آرش كان بنك ميدلاند قد حجزه له بناء على طلبه.
عدنا فى اليوم التالى لمناقشات حول خطة الوالد، وضرورة أن أستمر فى التدريب المصرفى حسب الخطة فى ألمانيا ثم فى إيطاليا، وأن كل شيء قد تم إعداده للمرحلة القادمة. وبدأت محاولًا إقناعه بتغيير الخطة، واستكمال دراسة الماجستير والدكتوراه فى الخريف التالى مباشرة. قادنا ذلك إلى التعبير عن رأيى فى مهنة البنوك. غضب الوالد لرفضى مهنة اختارها هو لنفسه أولًا، وقلت له ولكنى اخترت مهنتك الأولى وهى التعليم، أريد أن أصبح أستاذًا جامعيًّا، وأنت قضيت الجزء الأكبر من حياتك فى التعليم، كما أن هذه المهنة ستقربنى من حلمك التاريخى لدورى المحتمل فى العمل السياسى الفلسطينى الموجه نحو تحرير فلسطين. احتدت المناقشة، واضطررت للقول إنى كرهت العمل المصرفى ولم أعد راغبًا فى ممارسته يومًا واحدًا، رغم أنى بذلت كل جهدى فى تعلمه.
تحولت المناقشة إلى موضوعات سياسية عاصفة حول فلسطين، وتحريرها. ووجدت نفسى أناقشه من منطلق الأيديولوجيين، أن الالتزام بفلسطين ليس أيديولوجية، وإنما يحتاج المناضل للفكر التقدمى والأيديولوجية الاشتراكية، ولمفهوم واضح حول العدالة والديمقراطية، إلى جانب إيمانه بقضيته العادلة. ذهل أبى من هذا المنطق الجديد وارتدادى عما كنت مؤمنًا به من قبل، وهو أن تحرير فلسطين واجب قومى وأن تجمع الناس حوله يزداد صعوبة بتبنى أيديولوجيات مختلفة وبالضرورة متصارعة.
انسقت فى صراع أحمق مع والدى ورائدى ومثلى الأعلى. تطورت المناقشة إلى جدال عقيم. كان من حقى أن أختار المهنة التى أريد، وربما كان أبى مبالغا فى التخطيط لما اعتقد أنه فى صالحى، ولكنى كنت مخطئًا فى الانسياق إلى صراع معه على كل صغيرة وكبيرة، وكأنما المطلوب هو إثبات شخصيتى المستقلة وحريتى الكاملة فى رفض مقولاته. اختلفنا حول الاقتصاد والثقافة والعائلة والعروبة، حول كل شيء، ووصلنا إلى الخلاف حول زواجى أو خطبتى الرسمية على الأقل، ولم تكن هناك نقطة التقاء واحدة.
توقفت المواجهة الفكرية، وتحولت إلى أزمة عاطفية حقيقية! بكى والدى، وبكيت كثيرا، وبدأت أخشى على قلبه العليل من أزمة صحية خطيرة.
مضت الأيام ثقيلة، صعبة دون تراجع منى أو منه، ولو قيد أنملة.
ليلة صعبة

فى صباح يوم أعقب ليلة من الليالى الصعبة، غادر أبى الفندق وحده ليسير فى حديقة هايد بارك بضع ساعات، عاد بعدها بقراره الحاسم، قال لى: «لقد حاولت نصحك يا بنى، وتعليمك طيلة عمرك. قدمت لك النصيحة الخالصة، وقد استمعت أنت لها دائما، وحاولت جهدك تنفيذها بتفوق وامتياز. لن تجد يا بنى من يقدم لك النصيحة الخالصة التى لا تبتغى إلا مساعدتك، تعرف يا بنى أن كثيرين يبغون نصيحتى ويسعون لها، وإننى فى موقعى اليوم لأن آرائى وأفكارى والحكمة التى اكتسبتها من السنين تُشترى بثمن غال، ولكنك يا بنى قررت أن تستقل عنى وعن نصائحى، وأن تضرب بها عرض الحائط. لا بأس، أنت حر، وهذه هى حياتك، وقد أكملت الواحد والعشرين من عمرك. لن أنصحك يا بنى من الآن فصاعدًا، ولا تطلب النصيحة منى أبدًا، سأنسحب من حياتك تمامًا. قرر ما تريد وافعل ما تشاء فعله، فلن أتدخل، ولن أفرض عليك شيئًا. لن تسمع منى أبدًا». واستمر قائلًا بعد صمت ثقيل: «ولكنى أب مسئول، لا أتصرف بما يضر وطنى وعائلتى، وأنت ما زلت فى تقديرى، رغم كل ما سمعته منك هذا الأسبوع مما لا يرضينى ولا يتفق مع أفكارى، ثروة قومية لا يجوز تعطيلها بأى شكل عن استكمال استعدادها لخدمة فلسطين، بل وقيادتها فى الطريق الصحيح، ولذلك فإنى لن أتخلى عن تحمل كل أعبائك المالية، وسأعمل على إلحاقك بأفضل الجامعات فى أمريكا، وسأحول لك ما تحتاج إليه من أموال. لن أسألك أو أناقشك أو أقدم لك النصح بعد اليوم. تزوج إن شئت وافعل ما تريد، أنت وحدك تتحمل المسئولية، وحدك. أدعو الله أن يرشدك يا بنى إلى الطريق الصحيح، فأنت الآن مسئول، والله يعينك».
حاولت مناقشته فى قراره فرفض رفضا باتًّا. أعد العدة للسفر، وترك لى مالًا كافيًا، وغادر إلى عمله فى جدة.
بقيت يومًا فى لندن فى صدمة أذهلتنى، كنت غير قادر على التفكير، أصبت بأزمة عاطفية كبرى، وبتأنيب ضمير أرقنى وأتعبنى، وبالخوف من أن يؤثر ما حدث على صحة أبى، وأن أعيش بعدها عمرى كله أدفع بالندم ثمن هذا الأسبوع القاسى، وحماقتى فى مواجهة والدى مواجهة لم تترك للتفاهم مكانًا، كيف يمكننى أن أصلح هذه الغلطة الكبرى؟
إلى أمريكا

سافرت فى اليوم التالى إلى بيروت، والتقيت جدتى أم العبد للمرة الأخيرة قبل وفاتها، والتقيت أخوالى وخالاتى وعائلاتهم، ثم عدت إلى الإسكندرية، أفكر ليل نهار فيما فعلت، وفى نتائجه، وفى كيفية إصلاحه وتفادى نتائجه السلبية. أصبحت الآن راشدًا مستقلًّا وعليّ أن أتخذ القرارات وأن أتحمل نتائجها، وعليّ مصالحة الوالد وإرضائه.
التقيت بصفاء، وشكوت لها همومى وقصصت عليها ما حدث مع والدى. هدأت من روعى وكفكفت دموعى وشاركتنى همومى كلها، ولكنها كانت واضحة جدًّا فى مسألة زواجنا، قالت: «لن نتزوج إلا برضا والدك، لم ولن أغير رأيى، وسوف أنتظرك حتى آخر العمر إلى أن تحصل على رضاه.. اذهب إلى أمريكا، إلى الجامعة التى قبلتك، أما أنا فقد قدمت طلبًا للعمل فى بنك الإسكندرية ولدى موافقة مبدئية من البنك، لا تنشغل بأمرى فسوف أتكفل أنا بعائلتى وضغوطها».
قررت الذهاب بأسرع ما يمكن لأمريكا لاستئناف دراستى دون أدنى تأخير. انطلق والدى ينفذ ما التزم به، فقد أبلغنى عن طريق الوالدة أنه استطاع الحصول على موافقة من مدرسة وارتون بجامعة بنسلفانيا بمعاونة مديرى البنوك الأمريكية من أصدقائه للالتحاق بدراسة الماجستير فى أيلول (سبتمبر) 1959، وأن القبول كان مشروطًا بحصولى على علامات لا تقل عن جيد جدًّا +B فى كل الموضوعات فى الفصل الأول، وأنه قام بتحويل قيمة أقساط السنة الجامعية الأولى.
كنت قد أخبرته عن قبول جامعة شيكاغو، والمنحة التى حصلت عليها منهم، وكان القبول والمنحة غير مشروطين، ولكنى صممت على المضى فى خطة مصالحته، بقبول العرض المشروط الذى حصل عليه، والاعتذار لجامعة شيكاغو. كنت أريد البدء فورا بدراسة علم الإدارة واقتصاديات الأعمال، ولكنى قررت إرضاءً له أن أدرس الماجستير فى التمويل وإدارة البنوك، سيرًا على خطاه. أبلغت ذلك كله للوالدة، وكانت هى التى تنقل لى موقف والدى الذى عاد إلى عمله فى السعودية، أما أبى فقد أوقف الاتصال المباشر بى تمامًا، وترك ذلك غصة فى قلبى وقلقًا وحزنًا.
اقرأ أيضا:
مذكرات نبيل شعث «حياتى.. من النكبة إلى الثورة».. فى ظلال يافا «بلد الغريب»
مذكرات نبيل شعث «حياتى.. من النكبة إلى الثورة» (2 6): على ضفاف الإسكندرية


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.