• أربعة كتب تتبعت سيرة محفوظ الذاتية وأرَّخت لحياته هى فى الأصل حوارات طويلة أملاها محفوظ على أصحابها • رجاء النقاش كان من أشد المقربين لمحفوظ لدرجة أن محفوظ أنابه لتوقيع أعماله وكتابة ردوده على أسئلة المحققين وقت محاولة اغتياله • محفوظ أعلن أكثر من مرة لمن يريد قراءة سيرته الذاتية قراءة الكتب الثلاثة: نجيب محفوظ يتذكر.. ومذكرات نجيب محفوظ.. وأصداء السيرة الذاتية
الدكتور مصطفى سويف
مات نجيب محفوظ (19112006) ولم يكتب «سيرته الذاتية»، لم يترك كتابا صرح على غلافه بأنه «سيرة ذاتية»، وسئل فى هذا كثيرا ومرارا، وكانت إجابته دائما بأن الفكرة تراوده لكنه يخشى عواقب الإفصاح حال الالتزام بالحقيقة.. وعندما سأله العالم الكبير أستاذ علم نفس الإبداع الدكتور مصطفى سويف فى رسالة خاصة «ألم تفكر فى كتابة ترجمة ذاتية، صادقة وشاملة على الرغم مما قد تمس من موضوعات حساسة؟». رد عليه محفوظ، قائلا: «فكرة السيرة الذاتية تراودنى من حين لآخر، أحيانا تراودنى كسيرة ذاتية بحتة، وأخرى تراودنى كسيرة ذاتية روائية. ولكن الالتزام بالحقيقة مطلب خطير ومغامرة جنونية، وبخاصة أننى عايشت فترة انتقال طويلة تخلخلت فيها القيم وغلب الزيف وانقسم فيها كل فرد إلى اثنين؛ أحدهما اجتماعى تليفزيونى والآخر ينفث حياة أخرى فى الظلام». ولا أشك فى أن نجيب محفوظ قد اتخذ قراره الحاسم بعدم الالتزام بكتابة سيرته الذاتية الصريحة إلا بعد أن تزوج وأنجب، هنا بات الالتزام تجاه أسرته الصغيرة أعنف وأشد، وقد كان حريصا أشد الحرص على النأى بهذه الأسرة بعيدا عن عالمه ونشاطه الإبداعى وحضوره الثقافى.
توفيق الحكيم
ولهذا نجده مثلا فى حواريه المطولين مع فؤاد دوارة (نشرهما دوارة فى كتابه المهم «عشرة أدباء يتحدثون») أول بيان عن معالم من حياته وطفولته الباكرة وأجزاء من سيرته الذاتية. من يقرأ هذين الحوارين سيدرك أنهما حملا بذور ما سيقوله محفوظ ويتوسع فيه مستقبلا فى الحوارات المطولة التى أجريت معه حول حياته وسيرته، أو تفاصيل سنوات عمره المديدة، خصوصا خارج دائرة الأدب والكتابة، العلاقة مع الأهل والأصدقاء.. إلخ. فى الحقيقة سنجد أن أربعة من الكتب التى تتبعت سيرة محفوظ الذاتية وأرخت لحياته هى فى الأصل حوارات طويلة، أملاها محفوظ على أصحابها، أو كان يسأل وهو يجيب، ينطلق ويفيض أحيانا، ويسكت ويتحفظ فى أحيان أخرى، أو يتجاوز هذا السؤال أو ذاك منتقلا إلى منطقة أخرى أرحب وأكثر أمانا! إذن، فقد قرر محفوظ أن يترك مهمة التأريخ لحياته وتدوين سيرته، لكتاب آخرين، وقد كان كعادته ووفق تخطيطه العقلى الصارم ورؤيته الكلية قد حدد وانتقى واختار من سيكتب عنه، ولمن سيدلى بتفاصيل وافية فى هذه المنطقة، ولقد أوضح محفوظ صراحة فى أحاديث كثيرة، أن «فيما يتعلق بسيرتى الذاتية فقد أمليتها على جمال الغيطانى وصدرت فى «نجيب محفوظ يتذكر». أما الجانب الفكرى والعقلى فأعطيته إلى رجاء النقاش، وعلى ما أعتقد سوف يصدر كتابه عن الأهرام فى ديسمبر المقبل». (من حديث صحفى مع محفوظ نشر فى مجلة نصف الدنيا، العدد 335، بتاريخ 14 يوليو 1996). ثم أضاف محفوظ فى الحديث ذاته «هناك فتافيت ومناطق، لا أسئلة جمال تناولتها ولا أسئلة رجاء حامت حولها. قلت أكتبها أنا. إذن فأصداء السيرة الذاتية مكملة للعملين، بمعنى أن من يريد أن يعرف عنى، عليه قراءة هذه الأعمال الثلاثة: نجيب محفوظ يتذكر، وكتاب رجاء، والأصداء».
حديث الصباح والمساء
بذلك فقد أسس محفوظ، بل أعلن صراحة، أن من يبتغى البحث عن سيرته فعليه أن يرجع للكتب الثلاثة السابقة، مع مراعاة أن كتاب «أصداء السيرة الذاتية» لا يعد بأى شكل من الأشكال نصا سيريا واقعيا صريحا، بل هو يقدم فى هذا العمل الفذ نوعا أدبيا جديدا يتسم بصغر الحجم، والتكثيف الشديد، استكمله لاحقا فى عمله المعجز «أحلام فترة النقاهة»، ثم فى الكنز الأدبى المكتشف حديثا «الأحلام الأخيرة» التى صدرت بالتزامن مع الاحتفال بذكرى مولده فى ديسمبر 2015.
أصداء السيرة الذاتية
ولا بد هنا من الإشارة إلى أن أعمالا بعينها ضمن رواياته وقصصه، تحمل أنفاسا ووقائع وتفاصيل من حياته وسيرته الذاتية، لكنها بكل تأكيد لا تسلم نفسها هكذا لمن أراد أن يقتنصها مباشرة، فهى فى النهاية أعمال سردية «تخييلية» تتوسل بالفن وتجافى النقل المرآوى عن الواقع، وتجانب الغاية الإعلامية التوصيلية المباشرة.
السكرية
وللقارئ الخبير بأدب محفوظ أن يتوقف عند الثلاثية، وخاصة شخصية كمال عبدالجواد فى «السكرية»، و«حكايات حارتنا»، و«حديث الصباح والمساء»، و«حضرة المحترم»، وبعض قصصه القصيرة، إضافة إلى «الأصداء» و«أحلام فترة النقاهة»، و«الأحلام الأخيرة» فسيجد فيها إن أمعن القراءة وأجاد التأويل شيئا راقيا وعظيما من سيرة محفوظ المقطرة فى معانيها الكلية وبعض تفاصيلها الدالة.
حكايات حارتنا
«المجالس المحفوظية» فى منتصف الثمانينيات، صدر كتاب «نجيب محفوظ يتذكر» للأديب والكاتب الكبير جمال الغيطانى عن دار أخبار اليوم، وهو أول كتاب سجل سيرة محفوظ وأورد معلومات كاملة عن تفاصيل حياته ونشأته الباكرة، والمؤثرات الأولى فى تكوينه وثقافته، قراءاته والأعمال التى لعبت دورها فى توجيه مسار حياته. جاء هذا الكتاب حصيلة لساعات طوال قضاها الغيطانى بصحبة نجيب محفوظ وكان يسجل ما يدور بينهما فى هذه اللقاءات إلى أن أذن له محفوظ بنشرها وإذاعتها على الناس.
صفحات من مذكرات نجيب محفوظ
شخصيا، قرأت هذا الكتاب مرات عدة، وتوقفت كثيرا عند ما رواه محفوظ تفصيلا لجمال الغيطانى (والمضمون ذاته مع اختلاف فى ترتيب الوقائع والأحداث لرجاء النقاش فى كتابه «صفحات من مذكرات نجيب محفوظ»، أيضا ما ذكره من تفاصيل نابضة بالحيوية فى حديثين مهمين أدلى بهما للناقد والصحفى فؤاد دوارة فى كتابه اللافت «عشرة أدباء يتحدثون»)، ولفت انتباهى تركيز محفوظ على الكشف بحرية وصراحة عن طفولته ونشأته وعلاقته بأمه وأبيه. بعد عشرين عاما من صدور الطبعة الأولى من «نجيب محفوظ يتذكر»، قام الغيطانى بجمع كل ما كتبه لاحقا ونشره من أحاديث ولقاءات وخواطر وذكريات مع نجيب محفوظ فى كتاب جامع اسمه «المجالس المحفوظية» صدرت طبعته الأولى فى العام 2006 عن دار الشروق، أى أنه قام بتضمينه مادة الكتاب الأول وأضاف إليه مادة جمعها عبر العقدين التاليين لصدوره، وهو كتاب مرجعى قيم ومدخل مناسب لمن أراد أن يتعرف على الملامح الأولية والإشارات الأولى لنجيب محفوظ، الخطوط العريضة لحياته العامة والشخصية، رحلته مع الأدب والكتابة.. إلخ. الكتاب مقسم إلى 3 أجزاء؛ الأول بعنوان «مجلس العام الثالث والتسعين»، وجمع فيه الغيطانى كل ما كتبه وسجله من مجالس صحب فيها محفوظ طيلة السنوات التالية لحصوله على نوبل، والثانى نص كتابه «نجيب محفوظ يتذكر»، أما الجزء الثالث فمجالس متفرقة، تضم ما كتبه الغيطانى فى السنوات الأخيرة لنجيب محفوظ وحتى وفاته (نشر أغلبها فى مجلة العربى الكويتية).
رجاء النقاش
النقاش.. محل ثقة من أجمل ما يمكن أن تقرأه عن سيرة محفوظ، حياته وأعماله وتفاصيل جديدة من سيرته الذاتية، كتاب «صفحات من مذكرات نجيب محفوظ» للناقد الراحل الكبير رجاء النقاش، الذى صدرت طبعته المنقحة عن دار الشروق عام 2010. كان النقاش، كما هو معلوم، ناقدا موهوبا وبارعا فى اصطياد النصوص الجميلة والكتابة عنها بحس فنان عاشق ولغة صحفى محترف، ما أن تنتهى من قراءة مقال له أو فصل فى كتاب عن نص شعرى أو رواية أو مجموعة قصصية إلا وتشعر برغبة جارفة لقراءة هذه النصوص ومطالعتها. والقارئ لما كتبه عن أعمال نجيب محفوظ فى كتابه الآخر «فى حب نجيب محفوظ»، سيجد كتابا ممتعا غاية الإمتاع، يجذبك بمنتهى اليسر والبساطة لإكمال مادته ومطالعة فصوله ومقاربه تحليلاته وإضاءاته النافذة لنصوص محفوظ. كان النقاش من المقربين من نجيب محفوظ، تربطه به صداقة قوية ومتينة، وظهرت محبة محفوظ له وثقته فيه فى عديد من المواقف، منها مثلا، أنه أنابه لتوقيع أعماله وكتابة ردوده على أسئلة المحققين وهو فى مستشفى الشرطة عقب محاولة اغتياله عام 1994 (سمعت هذا بنفسى من المستشار أشرف العشماوى الذى كان فى ذلك الوقت وكيلا للنائب العام وهو الذى كان يتولى التحقيق فى وقائع اغتيال محفوظ). ومنها أيضا أنه اختصه بكتابة الجزء الأكبر والأكثر تفصيلا من سيرته الذاتية، خاصة فى جانبه العقلى والأدبى، ولقد سجل النقاش مع محفوظ ما يقرب من 52 ساعة كاملة، استغرقت منه سنوات حتى يفرغها ويكتبها ليخرج على الناس بكتابه «نجيب محفوظ.. صفحات من مذكراته وأضواء جديدة على أدبه وحياته» الذى صدرت طبعته الأولى عام 1996، عن مركز الأهرام للترجمة والنشر. ثم صدرت منه طبعة منقحة ومزيدة عن دار الشروق بعنوان «صفحات من مذكرات نجيب محفوظ» عام 2010. رواة آخرون سجل الأعمال التى خصصت أو قرر أصحابها تخصيصها لكتابة «ترجمة كاملة» لمحفوظ ضخمة وغزيرة، وعدد كبير منها لا يحمل جديدا ولا يقدم شيئا ذا بال يمكن أن يضاف إلى المرجعين الكبيرين؛ كتاب الغيطانى وكتاب رجاء النقاش، لكن ثمة محاولات مخلصة وأمينة، بذل فيها أصحابها جهدا كبيرا لاستخلاص شىء، ولو يسير، يكمل الصورة ويضىء المشهد حول محفوظ. من بين هذه المحاولات كتابان أراهما يحملان قدرا من الأهمية؛ الأول «أنا نجيب محفوظ» للكاتب الصحفى إبراهيم عبدالعزيز، والثانى «نجيب محفوظ.. سيرة ذاتية وأدبية» للكاتب والمترجم والناقد حسين عيد. ترجع قيمة الكتاب الأول إلى المجهود الذى بذله صاحبه فى تتبع السيرة الذاتية التى بثها نجيب محفوظ فى أقواله وأحاديثه وتصريحاته الصحفية، على مدى سنوات عمره الطويل، أى أنه بذل جهدا استقصائيا كبيرا وجمع مادة هائلة موزعة على مساحات شاسعة من الصحف والدوريات المختلفة، وبذلك وفر مادة تمثل «كنزا حقيقيا» للباحثين والمتخصصين والمعنيين بأدب محفوظ وسيرته، فضلا عن أنه تمت صياغة الكتاب وعرض محتواه بضمير المتكلم منسوبا إلى محفوظ، وقدمه توفيق الحكيم. أما الكتاب الثانى، فالتفت فيه صاحبه بذكاء للمادة المبثوثة فى رواياته وأعماله الأدبية وتحمل شيئا من سيرته أو يتعلق شىء منها بذكرياته أو أفراد أسرته أو تمثيلات لوقائع وأشخاص مروا فى حياته، فكرة لامعة وذهبية واشتغل عليها صاحبها بدأب كبير، ولهذا وفر كتابه صدقا كما جاء فى العنوان «سيرة أدبية» مستخلصة من أعماله الروائية والقصصية، مما دفع محفوظ إلى الكتابة لصاحب الكتاب قائلا «الأستاذ حسين عيد.. شكرى العميق لك على ما تجشمته من جهد خارق لكتابة سيرة ذاتية أدبية، وأكرر الشكر وأرجو لك التوفيق الذى أنت أهله».