حريق يلتهم 4 أفدنة قمح في قرية بأسيوط    متحدث الصحة عن تسبب لقاح أسترازينيكا بتجلط الدم: الفائدة تفوق بكثير جدًا الأعراض    بمشاركة 28 شركة.. أول ملتقى توظيفي لخريجي جامعات جنوب الصعيد - صور    برلماني: مطالبة وزير خارجية سريلانكا بدعم مصر لاستقدام الأئمة لبلاده نجاح كبير    التحول الرقمي ب «النقابات المهنية».. خطوات جادة نحو مستقبل أفضل    ضياء رشوان: وكالة بلومبرج أقرّت بوجود خطأ بشأن تقرير عن مصر    سعر الذهب اليوم بالمملكة العربية السعودية وعيار 21 الآن ببداية تعاملات الأربعاء 1 مايو 2024    600 جنيه تراجعًا في سعر طن حديد عز والاستثماري.. سعر المعدن الثقيل والأسمنت اليوم    تراجع أسعار الدواجن 25% والبيض 20%.. اتحاد المنتجين يكشف التفاصيل (فيديو)    خريطة المشروعات والاستثمارات بين مصر وبيلاروسيا (فيديو)    بعد افتتاح الرئيس.. كيف سيحقق مركز البيانات والحوسبة طفرة في مجال التكنولوجيا؟    أسعار النفط تتراجع عند التسوية بعد بيانات التضخم والتصنيع المخيبة للآمال    رئيس خطة النواب: نصف حصيلة الإيرادات السنوية من برنامج الطروحات سيتم توجيهها لخفض الدين    اتصال هام.. الخارجية الأمريكية تكشف هدف زيارة بليكن للمنطقة    عمرو خليل: فلسطين في كل مكان وإسرائيل في قفص الاتهام بالعدل الدولية    لاتفيا تخطط لتزويد أوكرانيا بمدافع مضادة للطائرات والمسيّرات    خبير استراتيجي: نتنياهو مستعد لخسارة أمريكا بشرط ألا تقام دولة فلسطينية    نميرة نجم: أي أمر سيخرج من المحكمة الجنائية الدولية سيشوه صورة إسرائيل    جونسون: الاحتجاجات المؤيدة لفلسطين داخل الجامعات الأمريكية نتاج للفراغ    قوات الاحتلال تعتقل شابًا فلسطينيًا من مخيم الفارعة جنوب طوباس    استطلاع للرأي: 58% من الإسرائيليين يرغبون في استقالة نتنياهو فورًا.. وتقديم موعد الانتخابات    ريال مدريد وبايرن ميونخ.. صراع مثير ينتهي بالتعادل في نصف نهائي دوري أبطال أوروبا    معاقبة أتليتيكو مدريد بعد هتافات عنصرية ضد وليامز    موعد مباراة الأهلي والإسماعيلي اليوم في الدوري والقنوات الناقلة    عمرو أنور: الأهلي محظوظ بوجود الشناوي وشوبير.. ومبارياته المقبلة «صعبة»    موعد مباريات اليوم الأربعاء 1 مايو 2024| إنفوجراف    ملف رياضة مصراوي.. قائمة الأهلي.. نقل مباراة الزمالك.. تفاصيل إصابة الشناوي    كولر ينشر 7 صور له في ملعب الأهلي ويعلق: "التتش الاسطوري"    نقطة واحدة على الصعود.. إيبسويتش تاون يتغلب على كوفنتري سيتي في «تشامبيونشيب»    «ليس فقط شم النسيم».. 13 يوم إجازة رسمية مدفوعة الأجر للموظفين في شهر مايو (تفاصيل)    بيان مهم بشأن الطقس اليوم والأرصاد تُحذر : انخفاض درجات الحرارة ليلا    وصول عدد الباعة على تطبيق التيك توك إلى 15 مليون    إزالة 45 حالة إشغال طريق ب«شبين الكوم» في حملة ليلية مكبرة    كانوا جاهزين للحصاد.. حريق يلتهم 4 أفدنة من القمح أسيوط    دينا الشربيني تكشف عن ارتباطها بشخص خارج الوسط الفني    استعد لإجازة شم النسيم 2024: اكتشف أطباقنا المميزة واستمتع بأجواء الاحتفال    لماذا لا يوجد ذكر لأي نبي في مقابر ومعابد الفراعنة؟ زاهي حواس يكشف السر (فيديو)    «قطعت النفس خالص».. نجوى فؤاد تكشف تفاصيل أزمتها الصحية الأخيرة (فيديو)    الجزائر والعراق يحصدان جوائز المسابقة العربية بالإسكندرية للفيلم القصير    حدث بالفن| انفصال ندى الكامل عن زوجها ورانيا فريد شوقي تحيي ذكرى وفاة والدتها وعزاء عصام الشماع    مترو بومين يعرب عن سعادته بالتواجد في مصر: "لا أصدق أن هذا يحدث الآن"    حظك اليوم برج القوس الأربعاء 1-5-2024 مهنيا وعاطفيا.. تخلص من الملل    هل حرّم النبي لعب الطاولة؟ أزهري يفسر حديث «النرد» الشهير (فيديو)    هل المشي على قشر الثوم يجلب الفقر؟ أمين الفتوى: «هذا الأمر يجب الابتعاد عنه» (فيديو)    ما حكم الكسب من بيع وسائل التدخين؟.. أستاذ أزهرى يجيب    هل يوجد نص قرآني يحرم التدخين؟.. أستاذ بجامعة الأزهر يجيب    «الأعلى للطرق الصوفية»: نحتفظ بحقنا في الرد على كل من أساء إلى السيد البدوي بالقانون    إصابات بالعمى والشلل.. استشاري مناعة يطالب بوقف لقاح أسترازينيكا المضاد ل«كورونا» (فيديو)    طرق للتخلص من الوزن الزائد بدون ممارسة الرياضة.. ابعد عن التوتر    البنك المركزي: تحسن العجز في الأصول الأجنبية بمعدل 17.8 مليار دولار    نصائح للاستمتاع بتناول الفسيخ والملوحة في شم النسيم    "تحيا مصر" يكشف تفاصيل إطلاق القافلة الإغاثية الخامسة لدعم قطاع غزة    القوات المسلحة تحتفل بتخريج الدفعة 165 من كلية الضباط الاحتياط.. صور    أفضل أماكن للخروج فى شم النسيم 2024 في الجيزة    اجتماعات مكثفة لوفد شركات السياحة بالسعودية استعدادًا لموسم الحج (تفاصيل)    مصدر أمني ينفي ما تداوله الإخوان حول انتهاكات بسجن القناطر    رئيس تجارية الإسماعيلية يستعرض خدمات التأمين الصحي الشامل لاستفادة التجار    الأمين العام المساعد ب"المهندسين": مزاولة المهنة بنقابات "الإسكندرية" و"البحيرة" و"مطروح" لها دور فعّال    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



سليمان عبدالمنعم يكتب: البحثُ عن كلمةٍ سَوَاء فى مسألة صنافير وتيران
نشر في الشروق الجديد يوم 02 - 05 - 2016

ليس أدق ولا أشق مثل الكتابة فى موضوع يتعلق بأرض الوطن وسيادته. الأمر هنا يشبه ما يُعرَف فى القانون بمبدأ «معصومية الجسد». والرأى بشأن جزيرتى صنافير وتيران فى اتفاقية ترسيم الحدود بين مصر والسعودية تتنازعه اعتبارات ثلاثة: أمانة الحقيقة، والشعور الوطنى، والانتماء السياسى لصاحب الرأى. تداخل هذه الاعتبارات وصعوبة الفصل بينها يُلقى على الكاتب عبئا ضميريا ثقيلا. ولعل معظم من كتبوا فى هذه القضية لم يفلتوا من وطأة هذه المشاعر المتداخلة. مجتمعات أخرى غيرنا عاشت هذه « الحالة». هناك من انحاز لشعوره الوطنى. وهناك من اعتصم بالحقيقة، وثمة ثالث لم يتردد فى توظيفها السياسى. حدث هذا مثلا فى ثمانينيات القرن الماضى بمناسبة مطالبة سكان جزيرة Nouvelle Calédonie الواقعة فى المحيط الهادى باستقلالهم عن فرنسا. يومها هب أحد الساسة الفرنسيين قائلا فى تندر: أعطوهم استقلالهم فكيف تكون فرنسا بعيدة عن فرنسا بعشرين ألف كيلو متر؟! الوضع فى القضية المطروحة مختلف كلية، فجزيرة تيران لا تبعد عن الشاطئ المصرى سوى بثلاثة أميال فقط.
المسألة لدينا معقدة. فترسيم الحدود البحرية مع المملكة الشقيقة لم يخلق فقط نزاعا بين «الشوفينيات»، لكنه أيضا أيقظ التاريخ والذكريات والخرائط القديمة من سباتها. وبرغم أن المسألة قديمة إلا أن إثارتها الآن بدت مفاجئة ربما بحكم الظروف الاقتصادية الصعبة التى تعيشها مصر، وربما أيضا بتأثير الظروف الإقليمية الملتبسة، ورائحة الدخان المحترق المتصاعد فى الفضاء العربى موحيا بأن هناك شيئا ما يحدث. فمع تغير ترتيب الأعداء فى المنطقة عرفنا الآن فقط أهمية التضامن والتكامل وإقامة الجسور. لكن أنسينا أنفسنا ( فى ألم ) أن بلدين كبيرين أحدهما جيشه مصنف عالميا والثانى أنفق على التسليح العام الماضى بأكثر مما أنفقت بريطانيا العظمى لكنهما، البلدين معا، لا يملكان إرسال جندى واحد على الجزيرة التى يدور حولها الجدل.
***
فى مسألة ترسيم الحدود البحرية بين مصر والسعودية نحتاج إلى كلمةٍ سواء تحول دون إحداث الفتنة بين شعبين عربيين شقيقين وتتفادى خطورة تخوين صاحب الرأى المخالف. إذا نحن نجحنا فى ذلك يبدو النقاش مطلوبا ومقارعة الحجج مفيدة. ولعل المنهج الأنسب والأجدى فى ظنى لمعالجة قضية جزيرتى تيران وصنافير هو أن نتصدى أولا للجانب الموضوعى لمعرفة الطرف صاحب الحق فى الجزيرتين، ثم نعرض ثانيا للجانب الإجرائى المتعلق بالإجراءات الدستورية واجبة الاتباع، ونختتم ثالثا بالتداعيات والمحاذير.
أولا فى سؤال من صاحب الحق؟
فى «بوصلة» التعرف على صاحب الحق فى جزيرتى تيران وصنافير مؤشرات ثلاثة هى موقع الجزيرتين، والحق التاريخى، وممارسة السيادة.
1 فيما يتعلق بالموقع الجغرافى للجزيرتين يبدو الأمر سهلا نسبيا، إذ ما علينا سوى معرفة هل تدخل الجزيرتان ضمن المياه الإقليمية للدولة المصرية أم للمملكة الشقيقة؟ لا يملك الإجابة على هكذا سؤال سوى أهل التخصص فى الجغرافيا السياسية والقانون الدولى للبحار. إذا استثنينا جزيرة صنافير لقربها من الساحل السعودى فإن الجدل ينصب أكثر على جزيرة تيران. وفقا للدراسات المنشورة فى دوريات رصينة ومؤلفات موثوق بها فإن البعض يقدر المسافة من جزيرة تيران إلى الساحل المصرى بثلاثة أميال بحرية وإلى الساحل السعودى بأربعة أميال بحرية ( د. عمر غباشى، المجلة المصرية للقانون الدولى، 1957) وبحسب دراسات أخرى بأربعة أميال ونصف الميل من الساحل السعودى عند رأس فرنك ( د. عمرو خليل، مضيق تيران فى ضوء أحكام القانون الدولى ومبادئ معاهدة السلام، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1980).
وفقا لاتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار المبرمة فى عام 1982 فإنه فى حالة تقابل ساحلى دولتين ووجود تداخل ما بين مياههما الإقليمية ( وهو الحاصل فى شمال البحر الأحمر بين مصر والسعودية ) فالأصل هو وجوب تعيين الحدود بين هاتين الدولتين وفقا لخط الوسط المعبر عن قاعدة البعد المتساوى والمرسوم وفقا لها، وذلك ما لم توجد أسانيد تاريخية أو ظروف خاصة تبرر الخروج على الأصل العام. المطلوب إذن معرفة أين موقع جزيرة تيران بالضبط من خط الوسط؟ فإذا ثبت أن الجزيرة تقع قبل خط الوسط من الشاطئ المصرى فهى جزيرة مصرية، أما إذا كانت تقع بعد خط الوسط فتصبح جزيرة سعودية.
2 أما فيما يتعلق بالحق التاريخى فى الجزيرتين فهذه مسألة تحسمها الوثائق والخرائط والوجود التاريخى. والحاصل أن هناك التباسا فى مفهوم «الوثيقة» وغموضا فى الوقائع بشأن ملكية الجزيرتين. يقدم البعض ما يعتبره «وثائق» حاسمة لكن يتبين عند الاطلاع عليها أن دلالتها القانونية ضعيفة وغير قاطعة وأحيانا بلا دلالة قانونية محددة. الجزء الأكبر مما يُسمى بالوثائق هو مخاطبات وأحيانا مذكرات بين سلطات الدولة الواحدة أو تصريحات أو إيضاحات دبلوماسية قدمها المندوبان المصرى والسعودى للأمم المتحدة، لكن ليس لدى الدولتين اتفاقية بالمفهوم القانونى الدقيق Stricto sensu بشأن الملكية أو ممارسة السيادة على الجزيرتين. الأمر المؤكد الوحيد أن هناك مذكرات ومخاطبات من الجانب المصرى تشير إلى أن ممارسة السيادة على جزيرتى تيران وصنافير تم بالاتفاق مع السعودية، ومذكرات ومخاطبات من الجانب السعودى تؤكد حصول هذا الاتفاق مع التمسك بملكية الجزيرتين.
السؤال هنا يتعلق بتفسير صمت مصر على إعلان السعودية ملكيتها للجزيرتين فى تصريح مندوبها أمام الأمم المتحدة فى عام 1957. هل يعنى ذلك التسليم بملكية السعودية للجزيرتين وهو ما رجحه فى الحقيقة فقهاء مصريون كبار مثل طلعت الغنيمى وحامد سلطان رحمهما الله ومفيد شهاب أطال الله عمره. أم أن هذا الصمت المصرى كان هدفه تفادى الدخول فى مشكلات ترسيم حدود فى ظل أولوية الانشغال بمواجهة إسرائيل آنذاك؟ هناك عاملان يجب أخذهما فى الاعتبار لحسم هذه المسألة، أولهما الموقع الجغرافى للجزيرتين. فكل الدراسات تجمع كما رأينا على أن جزيرة تيران هى الأقرب إلى الساحل المصرى فيما تعتبر جزيرة صنافير الأقرب إلى الساحل السعودى. مرة أخرى نحتاج إلى رأى الخبراء فى هذه المسألة الفنية لتأكيد هذه القياسات أو لنفيها. العامل الثانى هو معرفة ما إذا كانت المملكة الشقيقة قد مارست أيا من مظاهر السيادة على جزيرة تيران قبل العام 1949، أو كان ثمة دلائل على تواجدها التاريخى على أرض الجزيرة قبل هذا التاريخ. أما فيما يتعلق بقرار رئيس الجمهورية رقم 27 لسنة 1990 والذى استند إليه البعض تأكيدا لسعودية الجزيرتين فالغريب وربما الطريف أن نص القرار المذكور لا يشير من قريب أو بعيد لجزيرتى تيران وصنافير.
يبقى فى مسألة الحق التاريخى دلالات الخرائط المقدمة التى تم استدعاؤها من مكتبات وأرشيفات العالم. يعرف المتخصصون فى القانون الدولى من خلال استقراء قضاء محكمة العدل الدولية أن القيمة القانونية للخريطة ترتبط بكونها جزءا ملحقا بمعاهدة أو بوثيقة رسمية متعلقة بالحدود، وأنه فى حالة تناقض السند والخريطة فالسند أسمى من الخريطة، وبالطبع كلما زاد قِدم الخريطة زادت قيمتها الاستدلالية. وهذا ما تؤكده السوابق الدولية فى قضية جزيرتى بالماس وجرينلاند الشرقية بين الدنمارك والنرويج. من هنا يجب تمحيص تبعية الجزيرتين لمصر وفقا لما هو ثابت فى الخرائط السابقة على عام 1949 مثل الخريطة المعروفة بخريطة «بوتنجر» فى القرن الثانى الميلادى، والخريطة التى أعدتها الحملة الفرنسية على مصر فى عام 1800، وكذلك اتفاقية 1906 بين الدولة العثمانية ومصر المنشورة فى كتاب محيط الشرائع.
***
3 فيما يتعلق بممارسة السيادة فالسؤال هو ما إذا كان التواجد المصرى فى جزيرة تيران لنحو سبعين عاما يمنحها أحقية ما؟ يتعلق هذا التساؤل بمدى اعتبار التقادم سببا لاكتساب الملكية فى القانون الدولى. ثمة اجتهاد مؤداه أن التقادم ( وضع اليد على أرض ما لفترة من الزمن ) يقتصر نطاق تطبيقه على القانون الداخلى ولا يشمل القانون الدولى العام. ويرى آخرون من بينهم الفقيهان الكبيران حامد سلطان ومحمد حافظ غانم أن العمل يجرى فى نطاق العلاقات الدولية على قبول التقادم كسبب من الأسباب الناقلة للولاية والسيادة على الإقليم. والفقه الدولى مستقر كما يرى أحد الفقهاء الثقال فى القانون الدولى د. محمد سامى عبدالحميد على أن معظم الحدود القائمة بين الدول تستند إلى مضى المدة الطويلة، وأنه مع الزمن تعجز الدول عن إثبات السند الأصلى لاكتسابها ملكية إقليم ما، ومن هنا كان الاعتراف بالتقادم سببا لاكتساب ملكية الإقليم. بالطبع ثمة شروط يجب توافرها فى هذا التقادم مثل طول المدة، والحيازة الهادئة، وعدم الانقطاع.
لو قمنا بإنزال الرأى المتقدم على حالة جزيرتى تيران وصنافير فلا يبدو أن المملكة الشقيقة قد تواجدت تاريخيا على الجزيرتين تواجدا يمكن الاستدلال عليه من إقامة مواطنين تابعين لها أو أنشطة إنسانية أو تشييد طرق أو مبان أو إرسال قوات حرس حدود أو رجال شرطة أو رفع علم أو أى وجود رمزى آخر. وفى المقابل فقد تحقق لمصر هذا التواجد التاريخى بما لا تنكره المملكة الشقيقة نفسها. بل إن ممارسة مصر سيادتها على جزيرة تيران قد تجسدت فى بذل الدماء واستشهاد أبنائها دفاعا عن الجزيرة. وتواصلت السيادة المصرية بإنشاء نقطة شرطة مستديمة فى تيران تتبع قسم سانت كاترين فى محافظة جنوب سيناء فى 1982 ثم بصدور قرار لرئيس مجلس الوزراء المصرى فى 1996 بإنشاء محمية طبيعية فى الجزيرة.
والواقع أن ممارسة السيادة المصرية على «تيران» لنحو سبعين عاما يمكن أن تستند أيضا إلى فكرة القبول الضمنى بذلك من جانب المملكة الشقيقة. يدعم هذا القبول الضمنى عدم اعتراض السعودية على احتلال الجزيرتين من جانب إسرائيل بعد حرب 1967، وهذه مسألة بالغة الأهمية. صحيحٌ أن المطالبات السعودية بشأن جزيرة تيران قد تمثل ما يطلق عليه فى القانون الأسباب القاطعة للتقادم، وهى قد تضعف من فكرة الحق التاريخى لمصر لكنها لا تصادرها كلية. فى كل الأحوال الانتباه هنا واجب إلى عدم جواز الخلط بين الحالة المطروحة وبين حالة الاحتلال العسكرى لإقليم دولة أخرى إذ يظل الاحتلال غير مشروع مهما طال الزمن لأن الاحتلال بمنطقه الغاصب ينصب على إقليم يعيش فوقه شعب تحت مظلة سلطة ذات سيادة.
ثانيا الإجراءات الدستورية واجبة الاتباع
هناك ثلاث قراءات ممكنة وخلافية فى الوقت ذاته لنص المادة 151 من الدستور المصرى المعدل فى 2014، وهو النص الذى ينظم الاتفاقيات الدولية التى تبرمها مصر. وكل قراءة تعكس وجهة نظر من الخطأ تجاهلها ومن الخطورة تخوين أصحابها.
وجهة نظر أولى ترى أن موافقة مجلس النواب على اتفاقية ترسيم الحدود البحرية مع السعودية تكفى دستوريا لإقرارها بموجب حكم الفقرة الأولى من المادة 151 المشار إليها والتى تجعل تصديق رئيس الجمهورية لاحقا على موافقة مجلس النواب، ثم تكتسب الاتفاقية قوة القانون بعد نشرها فى الجريدة الرسمية. ما زال لدينا إذن ثلاث مراحل متبقية ضمن أربع مراحل تمر بها أية اتفاقية وهى 1 إبرام الاتفاقية، 2موافقة البرلمان، 3التصديق الرئاسى، 4النشر فى الجريدة الرسمية.
فى وجهة النظر المتقدمة إشكاليتان قانونية وسياسية. الإشكالية ( القانونية ) أنها ترى فى اتفاقية ترسيم الحدود بين مصر والسعودية مجرد اتفاقية ( عادية ) مثل أية اتفاقية للتعاون فى مجالات التجارة أو السياحة أو الاستثمار، وتغض الطرف عن أن الاتفاقية تنقل حق مصر فى السيادة على تيران وصنافير إلى دولة أخرى. الإشكالية ( السياسية ) أن الاحتكام الحصرى إلى برلمان اختاره نحو 20٪‏ فقط من المصريين سيفتح بابا لن يغلق أبدا للتشكيك لا سيما فى حالة الموافقة على الاتفاقية.
وجهة النظر الثانية تتطلب إجراء استفتاء شعبى على الاتفاقية إعمالا لحكم الفقرة 2 من المادة 151 المشار إليها، والتى توجب دعوة الناخبين إلى الاستفتاء على المعاهدات المتعلقة بحقوق السيادة. لكن الدكتور مفيد شهاب عضو اللجنة المعنية بمشروع الاتفاقية يتبنى رأيا مخالفا مؤداه أنه لا حاجة لعرض الاتفاقية على استفتاء شعبي؛ لأن ما قامت به مصر على جزيرتى تيران وصنافير لا يعدو أن يكون عملا من أعمال الإدارة التى لا تندرج ضمن مفهوم أعمال السيادة. والواقع أنه يصعب اعتبار إنشاء قسم شرطة لمصر فى جزيرة تيران عملا إداريا وليس سياديا. فالأمن وظيفة سيادية للدولة بلا منازع. كان يمكن قول العكس لو أن مصر أقامت على الجزيرة مستشفى أو مدرسة مثلا لأن هذه أعمال تباشرها الدولة كجهة إدارة وليس كسلطة حكم. وهل هناك أكثر من ممارسةٍ للسيادة ( وليس الإدارة ) من مرابطة قوات الجيش المصرى واستشهاد جنوده دفاعا عن جزيرة تيران؟
الإشكالية فى وجهة النظر المتقدمة ليست دستورية، فهى الأكثر توافقا مع الدستور. الإشكالية تبدو سياسية لأنه بافتراض رفض الشعب الاتفاقية فقد ينعكس هذا الرفض سلبا على مشروع الجسر البرى بين مصر والمملكة الشقيقة، وربما على مجمل الموقف السعودى الداعم لمصر. وإذا جاءت نتيجة الاستفتاء بالموافقة فسوف تكون هذه الاتفاقية سابقة أولى فى تاريخ مصر، والخشية أن أى تقصير فى تنظيم عملية الاستفتاء قد يستدعى الزعم بالتزوير. لكن فى كل الأحوال يبدو اللجوء إلى الاستفتاء هو الحل الآمن الأقل تكلفة سياسية، والأكثر احتراما للإرادة الشعبية، ورفعا لعتب المملكة الشقيقة. وسوف يُحسب لرئيس الدولة حرصه على الاحتكام للشعب. وعلى أية حال فنحن لم نعرف فى تاريخنا من قبل استفتاء انتهى برفض الشعب لما استفتى فيه! لكن قيمة الاستفتاء أنه سيطوى صفحة الجدل إلى غير رجعة.
وجهة النظر الثالثة والأخيرة، الأكثر راديكالية، ترى أن الاستفتاء على الاتفاقية غير جائز ابتداء تطبيقا لحكم الفقرة الأخيرة من المادة 151 من الدستور التى تحظر «إبرام أى معاهدة تخالف أحكام الدستور أو يترتب عليها التنازل عن أى جزء من إقليم الدولة». هنا السؤال: هل تعنى الاتفاقية المبرمة ( تنازل ) مصر عن الجزيرتين أم ( إعادة ) الجزيرتين إلى المالك الحقيقى وهو المملكة الشقيقة؟ تتوقف إجابة هذا السؤال الدقيق على عناصر عدة منها حسم الشق الموضوعى السابق تناوله بشأن الطرف صاحب الحق فى الجزيرتين لا سيما فى المسألة الخاصة بمدى وقوع الجزيرتين داخل المياه الإقليمية لمصر. ومنها أيضا نصوص الاتفاقية ( التى لم نطلع عليها بعد ) وما هو الوصف القانونى المحدد الذى أضفته على عملية انتقال السيادة على الجزيرة، ثم، وهذا هو الأهم، مدى توافق هذا الوصف مع ما تقرره المادة الأولى من الدستور من أن مصر ».... موحدة لا تقبل التجزئة، ولا يُنزل عن شىء منها...». هنا لا مناص من اللجوء ( الآن ) لقسم الفتوى والتشريع بمجلس الدولة لحسم هذه المسألة. فإن لم نفعل ذلك الآن فقد نضطر يوما ما إلى الاحتكام إلى المحكمة الدستورية العليا فيما لو قُدِر ووافق البرلمان على الاتفاقية وأصبحت قانونا من قوانين الدولة. وهذا نذير بعدم الاستقرار القانونى.
وبناء على ما سبق فإذا انتهينا إلى أن الاتفاقية تمثل تنازلا عن الملكية وبالتالى عن جزء من إقليم الدولة فهو بيقين محظور دستوريا. أما إذا كان المقصود هو التنازل عن السيادة بمعنى تنازل مصر عن ممارسة سلطات الأمر الواقع التى كانت لها على الجزيرة فإن التنازل هنا يخرج من نطاق المعاهدات المحظور إبرامها دستوريا لكن ستبقى الاتفاقية ضمن الاتفاقيات المتعلقة بحقوق السيادة والتى يجب استفتاء الشعب عليها.
ثالثا التداعيات والمحاذير
أول التداعيات المحتملة هو أن ( التخلى ) أو ( إعادة ) الجزيرتين قد يصبح سابقة لمطالبة دول أخرى بمناطق حدودية برغم ما قد يوجد من اختلاف بين الحالة المطروحة وغيرها من الحالات. رأينا هذا وبأسرع مما كان متوقعا فى مطالبة الجانب السودانى بمنطقة حلايب وشلاتين. وهناك واحة «جغبوب» على الحدود الغربية مع ليبيا. قد لا يبدو الأمر إذن فألا طيبا لدولة عُرفت بحدودها الثابتة منذ آلاف السنين.
ثانى التداعيات المحتملة وربما أهمها على الإطلاق أن انتقال الملكية أو السيادة على جزيرة تيران وصيرورتها بالتالى أرضا سعودية يعنى أن يصبح للمملكة الشقيقة الحق فى إضافة مياه إقليمية جديدة لها فى المساحة البحرية الفاصلة بين تيران والساحل المصرى. يترتب على ذلك أن تتضاءل المياه الإقليمية لمصر فى هذه المنطقة إلى ما يقرب من الميل ونصف الميل فقط ( ! ) فهل كانت هذه النتيجة واردة فى الذهن القانونى المصرى أثناء التفاوض على الاتفاقية؟ أم أن الاتفاقية قد تضمنت حكما آخر فى هذه المسألة؟
ثالث التداعيات تتعلق باحتمال ما قد يتم اكتشافه من نفط أو غاز فى صنافير وتيران أو فى المياه الإقليمية الجديدة التى ستكتسبها المملكة الشقيقة ابتداء من اعتبار جزيرة تيران أرضا سعودية. هل تضمنت اتفاقية ترسيم الحدود بنودا تنظم هذه الاحتمالات؟ هل سيكون لمصر نصيب فى مثل هذه الاكتشافات المحتملة؟ حالة التعتيم المفروضة على مضمون الاتفاقية لا تشفى غليلنا. لكن ثمة تلميحات رئاسية توحى بذلك. عموما تناثرت أخبار روسية المصدر عن تقاضى مصر مليارى دولار من السعودية مقابل حماية الجزيرتين طوال المدة السابقة بالإضافة إلى 25٪‏ من عائد الموارد الطبيعية المستقبلة. يبقى تأكيد الأخبار أو نفيها أو نشر مضمون الاتفاقية كاملا.
رابع التداعيات تتعلق بتغيير المركز القانونى الدولى لمضيق تيران. فالمضيق أو الممر كان ومازال يعتبر داخلا فى المياه الإقليمية لمصر. والواقع أنه يفصل بين جزيرة تيران وساحلنا الشرقى ممران وليس ممرا واحدا بحكم الشعب المرجانية أولهما ممر «جرافتون» وتصعب الملاحة فيه، والثانى هو ممر «انتربرايز» وهو عميق وعرضه 1300 ياردة والجزء الصالح للملاحة فيه يبدو ملاصقا تماما للساحل المصرى. ووفقا لمشروع اتفاقية ترسيم الحدود فإن ممر «انتربرايز» يصبح ممرا دوليا، وهو ما تنص عليه أيضا المادة 5 من اتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل. لكن فى حال التصديق على اتفاقية ترسيم الحدود مع المملكة الشقيقة يتأكد كون الممر ممرا دوليا بلا منازع. وهذا قد يجرد مصر مستقبلا وعند الاقتضاء من السلطات التى يخولها إياها القانون الدولى للبحار إذا ما استجدت ظروف تستدعى ذلك.
قد لا تبدو المسألة ملحة لدى البعض فى الوقت الحاضر لكن الأهمية المستقبلية لها لا تخفى لا سيما ونحن نعيش فى قلب منطقة قلقة تهتز اليوم بفعل التصدعات والارتجاجات والشقوق، منطقة لا يمكن التنبؤ فيها بأى يقين جغرافى سياسى ونحن نشاهد ما يجرى فى سوريا والعراق واليمن. لهذا يظل من مصلحة مصر أن يبقى مضيق تيران داخلا فى مياهها الإقليمية، ليس من باب مناكفة أى دولة أخرى، أو تهديد الملاحة الدولية لكنه التصرف الطبيعى لدولة بشأن ممر لا يفصله عن سواحلها أكثر من ثلاثة أميال، بل اننا إذا نحينا جانبا مضيق «جرافتون» الوعر غير الصالح للملاحة فإن مضيق «انتربرايز» الأكثر عمقا والأصلح للملاحة لا يبتعد عن الساحل المصرى بأكثر من 500 ياردة.
***
فى النهاية ثمة حذران واجبان سواء فيما يتعلق بالموافقة على الاتفاقية أو رفضها. فجزء من الرأى المؤيد للاتفاقية لا يخلو من تفكير انتهازى لا يليق بنا كمصريين. مؤدى هذا التفكير أنه بوسعنا الموافقة على اتفاقية ترسيم الحدود باعتبارها تعكس توازن القوى فى المنطقة والظروف التى تمر بها مصر انتظارا لحقبة تاريخية تالية تتغير فيها الموازين والمعطيات. هذا تفكير جائز إذا كان الأمر يتعلق باتفاقية مع أعداء لنا، أما إذا كنا بصدد اتفاقية مع دولة شقيقة مثل السعودية كانت داعمة لمصر دائما فهذا الضرب الانتهازى من التفكير غير مقبول. فلا يصح أن يقال « لقد أبرم جمال عبدالناصر اتفاقية الجلاء ومن قبله أبرم مصطفى النحاس المعاهدة ثم تكفل الزمن بأن تجاوزت مصر ما لم يكن فى صالحها«! الحذر الثانى هو ألا تسىء قضية ترسيم الحدود إلى العلاقة التاريخية بكل المقاييس بين الشعبين المصرى والسعودى. إذا احتكمنا للمبدأ الديموقراطى بوسيلة الاستفتاء الشعبى فلا يجب أن يعنى رفض الاتفاقية انتصارا لروح التعصب أو مكايدة دولة شقيقة. والموافقة على الاتفاقية لا يجب أن يؤدى لتراكم المرارة فى النفوس ضد دولة شقيقة، وهو ما اختزنته ذاكرة الشعوب وكان سببا أحيانا لاندلاع الحروب.
خلاصة القول، حل القضية يكمن ( موضوعيا ) فى استجلاء وجه الحق وحكم القانون الدولى فيها و( إجرائيا ) فى إخضاعها لاستفتاء شعبى. فإذا ما استغلق هذا الطريق يكون البحث عن حل مشرف وتوافقى للقضية. فهل تكون البداية هى التفكير فى جعل جزيرة تيران منطقة مشتركة لتنمية مشتركة بين مصر والسعودية؟


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.