أعلنت الحكومة المصرية يوم 9 أبريل 2016 توقيع اتفاق ترسيم الحدود البحرية مع المملكة العربية السعودية بمناسبة زيارة الملك سلمان لمصر.وتناقلت وكالات الأنباء أن حكومتنا أقرت في هذا الإعلان بأن جزيرتي تيران وصنافير تابعتين للمملكة، وليستا مصريتين. وأثار هذا القرار عاصفة من الجدل بين مؤيدي السلطة في مصر ومعارضيها. وأدى عنصر "المفاجأة" إلى أن يلجأ كل فريق لما تيسر له من أدلة وحجج يراها قوية ودامغة في البرهنة على صواب موقفه، وعلى سلامة رأيه الذي يتبناه ويدافع عنه. ولكن ما يلفت النظر في مجمل هذا الجدل، أن أغلب الحجج المتداولة بين أطرافه هي حجج "عاطفية" أكثر منها "قانونية"، وأنها وليدة "الانطباعات" السريعة المبنية على معلومات غير دقيقة وغير موثقة، وليست وليدة دراسات متعمقة، ولا مستندة إلى وثائق يعتد بها بمعايير "القانون الدولي" الحديث والمعاصر، وقواعده التي تنظم عمليات ترسيم الحدود البرية والبحرية بين الدول، وأيضاً قواعد قانون البحار التي تنظم الملاحة في المضايق البحرية والمياه الإقليمية والخلجان الدولية(التي تصل بين جزئين من مياه أعالي البحار)، والخلجان "الداخلية" (التي تصل بين جزء من مياه أعالي البحار وجزء من المياه الداخلية لهذه الدولة أو تلك). وتلك القواعد هي وحدها واجبة التطبيق في مثل حالة مضيق تيران وجزيرتي تيران وصنافير. ومقصدي من هذا المقال ليس المشاركة في الجدل المحتدم عاطفياً أو "انطباعياً" حول القرار الأخير للحكومة المصرية بشأن جزيرتي "تيران وصنافير"؛ وإنما هو تقديم رؤية للقضية من منظور قواعد القانون الدولي، وفي ضوء الأهمية التاريخية للجزيرتين وارتباطهما بالتكوين الجيو ستراتيجي للأرخبيل الجنوبي لخليج العقبة وما حوله من امتدادات بحرية وقارية وبرية تخص مصر تحديداً. تشير الخرائط الجغرافية المرسومة منذ القرن الثاني لميلاد المسيح عليه السلام إلى أن جزيرتي تيران وصنافير واقعتين في المياه الإقليمية المصرية، كما تشير خريطة ”بوتنغر“ المرسومة في سنة 265ميلادية حسب بعض المصادر التاريخية. كما تشير أيضاً إلى أن خليج العقبة بجزره التي تشكل أرخبيلاً في مدخله الجنوبي تابعة لشبه جزيرة سيناء المصرية، وهكذا تناولها جمال حمدان في كتابه المرجعي "شخصية مصر" وهو يتحدث عن أربعين جزيرة مصرية في القسم الشرقي لحدودها البحرية. وعن تلك المصادر الموغلة في القدم أخذت خريطة ”ألبي“ التي رسمها راديفيلد من علماء حملة نابليون بونابرت على مصر في سنة 1798م. وفي كتاب نعوم بك شقير الصادر في سنة 1916م بعنوان " تاريخ سيناء القديم والحديث وجغرافيتها مع خلاصة تاريخ مصر والشام وجزيرة العرب"، يوجد ملحق خرائط يتضمن جزيرتي تيران وصنافير ملونتين بنفس لون سيناء دلالة على وحدتهما الإقليمية معها. ولا تكتمل صورة الجزيرتين إلا بوضعهما في إطارهما الجيوستراتيجي لشبه جزيرة سيناء بشكل عام ولخليج العقبة من مدخله الجنوبيبشكل خاص. فخليج العقبة يبلغ طوله ثمانية وتسعين ميلاً، وعرضه في أقصى منطقة لاتساعه حوالي سبعة عشر ميلاً. ومدخل الخليج لا يتجاوز تسعة أميال بحرية. والجزء الصالح منه للملاحة هو الجزء المجاور للساحل المصري في سيناء المعرف باسم "مضيق تيران"، ولا تصلح الملاحة في هذا الجزء إلا لمسافة 1200 ياردة (فقط ألف ومائتي ياردة)، وهي بقية الجزء الذي يصل بين الساحل المصري وجزيرة تيران. وبقية هذا الجزء فيما عدا الألف ومائتي ياردة مليء بالشعب المرجانية(خمس شعب كبيرة) فهو غير صالح للملاحة لأن غاطس السفن فيه لا يمكن أن يزيد عن خمسين قدماً، وهو غاطس غير مناسب للملاحة الدولية، فضلا عن أن هذا الجزء يلعب به المد والجزر إلى مسافات بعيدة بحيث يجعله غير صالح للملاحة على وجه الإطلاق. وتجاور جزيرة تيران جزيرة أخرى هي جزيرة صنافير، التي يفصلها عن الساحل السعودي جزء غير صالح أيضاً للملاحة لوجود شعب مرجانية به، فضلا عن كونه ضحلاً وغير صالح لمرور السفن، على الرغم من ثبات المد والجزر فيه. ومن الناحية التاريخية، كان خليج العقبة يشكل مع البحر الأحمر بحيرة إسلامية على مر العصور، وذلك لأهميته كطريق حيوي للدولة الإسلامية في هذه المنطقة. فالمسافة التي تصل بين شمال خليج العقبة والمدينة المنورة لا تتجاوز 450 ميلاً(أربعمائة وخمسين ميلاً)، وكذلك المسافة التي تصل خليج العقبة في شماله بميناء ينبع(السعودي حالياً) لا تتجاوز 430 ميلاً(فقط أربعمائة وثلاثين ميلاً)، والمسافة بين ينبع والمدينة المنورة لا تتجاوز ثمانية عشر ميلاً. ونظراً لأن فتحة فوهة خليج العقبة لا يزيد اتساعها عن أربعة عشر ميلاً، ولأن هذا الخليج أيضاً لا يزيد اتساعه عن أربعة وعشرين ميلاً؛ فإنه يعتبر من "الخلجان التاريخية" في حكم القانون الدولي، فضلاً عن أن له اعتبار تاريخي وديني كما أسلفنا. وجميع الخلجان التاريخية وذات الأهمية الدينية تعتبر مياها داخلية وليست إقليمية، ومن باب أولى ليست مياهاً دولية. وبسسب الاعتبارات الجيوستراتيجية والتاريخية كان خليج العقبة ذا أهمية كبيرة في الحروب الصليبية على عهد صلاح الدين الأيوبي، الذي ركز قواته في جزيرة فرعون(تبعد عن ميناء العقبة حوالي ثمانية أميال بحرية)، ومن هذه الجزيرة في شمال خليج العقبة استطاع صلاح الدين الأيوبي أن يشن هجومه على الصليبيين ويدفعهم بعيداً عن المدينة المنورة وعن مكةالمكرمة التي كانوا يستهدفونها بالهجوم، منذ سيطروا على القدس وما حولها. وإضافة إلى ما سبق هناك اعتبار تاريخي/ديني في وقت واحد وهو: أن "المَحْمَل المصري" (هو عبارة عن قافلة مصرية كبيرة كانت تحمل المؤن والمعونات من مصر للحجاج ولفقراء الحرمين) كان يمر في العهد العثماني من مصر إلى الحجاز عن طريق شمال خليج العقبة. وعبر مدينة العقبة ذاتها. وكان حجاج الشام يمرون بخليج العقبة أيضاً. وتشير الوثائق العثمانية إلى أن كل خليفة من الخلفاء العثمانيين كان يصدر فرماناً عند استلامه الحكم، يجدد فيه عهد سلفه بأن يحمي البحر الأحمر ككل من باب المندب جنوباً إلى خليج العقبة وخليج السويس شمالاً؛ حتى لا تمر فيه السفن الأجنبية؛ حمايةً لأراضي الحرمين الشريفين. واستمر هذا التقليد سارياً حتى احتلت انجلترا مصر في سنة 1882م، وضعفت قوة الدولة العثمانية وأطلق الساسة الأوربيون عليها اسم "الرجل المريض". وبطل هذا التلقيد العريق الذي درجت عليه الخلافة العثمانية. وكانت مدينة العقبة وخليج العقبة برمته في ذلك الوقت تحت سيادة والي مصر. وعندما عقدت اتفاقية الحكم الثنائي للسودان في سنة 1899م بين بريطانيا ومصر؛ فإنه لم يكن مصادفةً أو عبثاً أنها نصت في مادتها العاشرة على "منع مرور السفن الأجنبية في شرق البحر الأحمر بما فيه خليج العقبة ومضيق تيران؛ احتراماً لتلك الاعتبارات التاريخية والدينية الإسلامية". وفي تلك الاتفاقية في سنة 1889م أقرت بريطانيا بسيادة مصر على جزيرتي تيران وصنافير والمدخل الجنوبي لخليج العقبة. وبعد سنوات قليلة من اتفاقية الحكم الثنائي للسودان في سنة 1899م، تم الاتفاق على الحدود بين مصر والدولة العثمانية على أثر الخلاف بين الجانبين الذي عرف ب "أزمة طابا" في سنة 1906م، وقد نصت اتفاقية 1906م هذه على نقل تبعية خليج ومدينة العقبة لوالي الحجاز(لم تكن المملكة العربية السعودية قد ظهرت للوجود؛ حيث تم الإعلان عنها رسمياً في سنة 1932م)، وكانت الحجة التي استخدمتها الدولة العثمانية لهذا الإجراء هي: أن طريق المحمل المصري قد أصبح خليج السويس، وليس الطريق البري في شمال العقبة!. ولم تكن حجة مقنعة، بقدر ما كانت مسكنة للمشاعر الوطنية بمشاعر دينية. وفي سنة 1908م قامت الحكومة المصرية بوضع "فنارة" في جزيرة صنافير كدليل على ممارستها الرقابة والإشراف على هذه المنطقة التي تضم تيران وبقية الأرخبيل في مدخل خليج العقبة. وثمة عديد من الحجج والوقائع والوثائق التاريخية التي تفصل وتوثق ما ذكرناه. ومن هذا كله يستنتج فقهاء القانون الدولي أن خليج العقبة يُصنف ضمن "الخلجان التاريخية"؛ وهذه الخلجان في حكم القانون الدولي هي مياه داخلية وطنية تمارس عليها الدولة سيادتها المطلقة، فليس فيها مرور برئ للسفن الأجنبية، بل لا يحق لأي سفينة أجنبية تجارية أو غير تجارية أن تمخر عبابها إلا بإذن خاص من الدولة صاحبة السيادة على الخليج وعلى الجزر والمضايق التي تتحكم فيه. ومثل هذا التوصيف القانوني له أهمية كبرى تتعلق بالأمن القومي، وبخاصة في أوقات الحروب والنزاعات المسلحة. فأهم ما ينتج عن هذا التوصيف أنه يعطي للدولة صاحبة السيادة على الخليج الحق في أن تمنع السفن الأجنبية من المرور فيه. وهو ما حدث بالفعل عندما استخدمت مصر حقها في السيادة على الجزيرتين وعلى مضيق تيران فأغلقته في 23 مايو سنة 1967 في وجه الملاحة الإسرائيلية، ومن ثم أغلقت عليها منفذها الجنوبي عبر ميناء "أم رشراش" إيلات الذي كانت إسرائيل قد احتلته بعد توقيع هدنة رودس في 24 فبراير سنة 1949م. وتسبب إغلاق المضيق في استثارة غضب الدول الغربية وبخاصة الولاياتالمتحدةالأمريكية ضد مصر. وأعلنت أمريكا على لسان رئيسها آنذاك أنها ستضمن لإسرائيل حق المرور من مضيق تيران ولو باستخدام القوة. وهو التصريح الذي زاد من حدة الأزمة لمخالفته لميثاق الأممالمتحدة الذي يحرم استخدام القوة أو التهديد بها في حل المنازعات الدولية. وكان احتلال إسرائيل لأم رشراش ولا يزال عملاً غير مشروع، ولم ولن يسقط حق مصر في أم رشراش مهما كانت قوة الأمر الواقع الذي فرضته قوات الاحتلال الصهيوني عليها منذ تلك السنة. ومن الأهمية بمكان أن نتبين "الوضع القانوني" لمضيق تيران في سياق الإعلان الأخير للحكومة المصرية عن عملية ترسيم الحدود بين مصر والسعودية ولمن تعود تيران وصنافير. فقواعد القانون الدولي تقرر أنه إذا كان المضيق يصل بين جزئين من أعالي البحار فهذا المضيق يصبح ممراً حرا للملاحة الدولية. ومثال ذلك: مضيق جبل طارق، ومضيق الدردنيل والبوسفور، ومضيق ماجلان، ومضيق الصوند في الدنمارك. أما إذا كان المضيق يصل بين جزء من أعالي البحار وجزء من المياه الإقليمية؛ ففي هذه الحالة يجب أن يصبح المرور خاضعاً خضوعاً تاما لرقابة الدولة الساحلية، ويُقيد بقواعد "المرور البرئ" في وقت السلم. أما إذا كان المضيق يصل بين جزء من أعالي البحار ومياه داخلية فإن الفقه القانوني انتهى إلى اعتباره مياها داخلية ولا يخضع لقواعد "المرور البرئ"، وإنما يخضع للقواعد القانونية للدولة صاحبة السيادة عليه بذاتها. وبتطبيق تلك القواعد العامة على حالة مضيق تيران وجزيرة صنافير؛ ونظراً لأن مدخل خليج العقبة عبارة عن أرخبيل يتشكل من مجموعة جزر أهمها تيران وصنافير، وعدد من الشعب المرجانية، فإن طريقة القياس القانوني في "الأرخبيل" تكون على أساس الخطوط المستقيمة التي تصل الحواف الخارجية لهذه الجزر والتي تشرف على أعالي البحار(البحر الأحمر هنا). ومن هذه الخطوط يبدأ قياس البحر الإقليمي. وبتطبيق ذلك يتضح أن المسافات الخاصة بفوهة خليج العقبة، وبمضيق تيران(التي أسلفناها) يترتب عليها أن مياه هذا الأرخبيل المكون لمجموعة هذه الجزر في مضيق تيران هي في الواقع مياه داخلية مصرية تماماً، وتحجز خلفها مياها مصرية مائة بالمائة؛ وذلك طبقاً لأصول وقواعد وأحكام القانون الدولي التي تنظم المضايق والخلجان وتنظم أيضاً أنواع المياه: الداخلية والإقليمية والدولية.