بوابة شموس نيوز – خاص أَنْظُر في مرآتي فَأَرَى الَريحُ تَقْبضُ كُلَّ شئٍ. لا شئَ في يديَّ، لا يَبْقَى مِنِّي سوايَ. يَبْقَى الشِّعْرُ فقط. أَنْظُرُ في مرآتي، فلا أَجِدُني. ما أراهُ جَلِيًّا يدلُّ عليَّ ويشيرُ إليَّ هو الشِّعْرُ، لا أعرفُني. ما كتبتُه هُو أَنَا، بلا تجمُّلٍ أو افتعالٍ أو زيفٍ أو مُدَارَةٍ. العفويةُ سمتي في الكتابةِ، والتلقائيةُ تقودُ المرءَ (الشَّاعر والقارئ معًا) إلى القلبِ، والعَمْدِيَّةُ أو القصديَّةُ لم تَخْلُقا شعرًا كبيرًا يَبْقَى، لم تُخَلَّفا سوى ركامٍ من الكلامِ، وأبنيةٍ من المعاني الميتةِ، والصورِ الباهتةِ. وهذا لا يعني أنَّني ضِدُّ التخطيطِ للكتابةِ، بل يعني أَنْ يَتْرُكَ الشَّعرُ روحَهُ تذهبُ إلى أقصى نقطةٍ، كَيْ يَرَى، وَيَسْعى إلى مَجْهولٍ ما يكشفُهُ، ويُقَدِّمُهُ بوعيً وَفَهْمٍ، حيث يكونُ الشَّاعرُ في حالةٍ من النزوعِ نَحْوَ التخلُّصِ من كُلِّ ما يُثْقِلُ النَّفْسَ. هل أعرفُ ما أريدُ؟ ما الذي أبتغيه تحديدًا؟ ليس سوى الكتابةِ قَصْدٌ لي في هذه الدنيا، أرى في مرآتي أنَّ عينيَّ تبحثانِ داخلي عن الشِّعْرِ، الشِّعْر الذي يُنْقِذُ قلبي من الغَدْرِ والهِجْرَانِ والفِرَاقِ والوَجَعِ الذي يُلازِمُني منذ كنتُ طفلا (وهل حقًّا غابت الطفولةُ عنِّي). لا أعرفُ عمَّا تُبْصِرُ عيناي في المرآةِ؟ لا أرى سوى الأسئلةِ، وأَنَّ الكتابةَ لا انتهاءَ لها، إلاَّ بموتي. فالشِّعْرُ والعِشْقُ يُغيِّبانِ الموتَ – ولو إلى حينٍ – لأنهما الحياةُ التي خُبزُها الشِّعْرُ. والشِّعْرُ ناءٍ وقريبٌ، يأتي ويهربُ، يُقْبِلُ وَيُدْبِرُ ، يلعبُ لعبتَهُ مع الشَّاعرِ، الذي يصرفُ زمانَهُ إلى مائِهِ، إنه يحلبُ السحابةَ، ويشربُ الغَيْمَةَ، ويزرعُ نباتَ الحُبِّ ويحصدُهُ ليصنَعَ منه ورقًا للكتابةِ يَحْفَظُهُ الزَّمنُ ويصيرُ مَتنًا أبديًّا للخَلْقِ، وشاهدًا على روحِ شاعرٍ تأرَّقَ وتردَّدَ وَحَارَ، وَصَارَتْ روحُهُ شمسًا تُشْرِقُ لا تغيبُ. غايةُ مُبْتَغَايَ، أَنْ أَصلَ إلى الَّلذةِ، والَّلذةُ كَوْنٌ عارِمٌ، لا يفتحُ عَوالمهُ إلاَّ من أَتَى بقلبٍ سليمٍ عَارِفٍ رَاءٍ، مُفْعَمٌ بالطموحِ، وممتلئٌ بالحنينِ، ومنذورٌ للقولِ، يتوحَّدُ مع من يراه في مرآتِهِ، والمرآةُ لا تكونُ غَيْرَ القصيدةِ أو المرأةِ، و"أو" هُنا ليستْ أداةَ عطفٍ، لأَِنَّ القصيدةَ ليست بديلا من المرأةِ، والمرأةُ ليستْ بديلاً من القصيدةِ. الَّلذةُ هي الأصلُ أَصْلُ الخَلْقِ، أَصْلُ العالمِ بموجوداتِهِ جميعًا. أعودُ إلى الماضي، لأتأملَني ، وأََفْتَحَ أُفْقًا لأرى حَاضِرِي، وأستشرفَ مُسْتَقْبِلي. أبحثُ لأراني علَّني أجدُ أجزائيَ المقسومةَ عنِّي ، نصفي الذي تركني منذ كنتُ طفلاً، ومازلتُ ممتزجًا به، وفي سعيي أملٌ للعثورِ عليه، هو بين يديَّ ، أو أنا في قلبهِ، غارِقٌ في مائِهِ، هو شَكْلي الذي يستدعيني لأنني شَكْلُهُ ، إليه أسكنُ لأنَّه شبيهي. فكلانا من قطعةِ طينٍ واحدةٍ، الشِّعْرُ والمرأةُ. أراني مُنْذ سنيني الأولى، وأنا أنظرُ في المرآةِ أنَّني أنتظرُ شيئًا ما سيأتي، قُلْ هي الرُّوح التي هي من أَمْرِ ربي، ربيِّ الذي "يضعُ في طريقِ كُلِّ واحدٍ مِنَّا نِصْفَهُ الآخرَ" ، هل رأيتُ أَنَّ العِشْقَ والموتَ سيكونان خطابيَ في الحياةِ والكتابةِ، فَهُمَا طَرَفَا الكَوْنِ، وبهما نكونُ أو لا نكونُ. نلتجئُ إليهما معًا، أو لكليهما. "هو الذي خلقكم من نَفْسٍ واحدةٍ". الشِّعْرُ نَفْسي. وأنا له عائشٌ. والمرأةُ نَفْسِي. ولها صَرَفْتُ حياتي كَيْ أَصِلَ وَأَرَى. أُجَرِّدُ كَيْ يتحقَّقَ الصَّفَاءُ في الكتابةِ. أنشغلُ بصوتِ المرأةِ وكلمتِهَا، كيْ أقتربَ من السَّمَاءِ ، أَوْ أَصْعَدَ إليها. أدخلُ إلى باطنِ باطني، إلى عوالمِ روحي، لأتأمَّلَ. عندما أشكِّلُ في الشِّعْرِ والعِشْقِ أعشقُ ما هو سحريٌّ، أذهبُ دومًا في اتجاهِ البحر الذي لا ساحلَ له، والمرأةُ والقصيدةُ كائنانِ غامضانِ لا يدركُهما أحدٌ، وأنا فيهما "أستضيئُ باللانهايةِ" أو "أَغْمُرُ ذاتي بضياءِ المدى الرحيبِ". في كُلٍّ منا، نَفَسٌ إلهيٌّ، ورؤى نبويةٌ ، تبحثُ عن جَوْهَرِ الشَّئ، كلٌّ يستخدمُ ما تَيَسَّرَ لَهُ من أدواتٍ ليدركَ حقيقتَهُ. أراني في مرآتي. مررتُ بفتراتِ صمتٍ طويلةٍ وَصَلَتْ مَرَّةً إلى خمسمائةِ يومٍ. هل كنتُ أبحثُ داخلي عن نقطةٍ أبدأُ منها، وأسعى نحو النُّورِ. ولأنَّ شعري عشقي فَهُوَ مكتوبٌ بالدَّمِ، فكان عليَّ أن أترصَّدَ اللحظة المناسبةَ، لأتهيَّأ لفعلِ الكتابةِ العِشْقِ. لا أهادنُ أو أتخفَّظُ، أو أوازنُ. طموحي كان دومًا أَنْ أُعرِّي قَدْرَ ما تتيحُ لي حريةُ رُوحي. أكتبُ الشِّعْرَ أو أحبُّ كَأَنَّني سأموتُ غدًا، أكتبُ كأنَّني لن أستطيعَ الكتابةَ بعد ذلك. كأنَّ ما تخطُّهُ يميني هو النصُّ الأخيرُ لي في حياتي. ولأنَّه لا توجدُ قصيدةٌ مكتملةٌ. ولا يصلُ عاشِقٌ إلى تمامِهِ، أو يبلغُ اكتمالَهُ. فالشَّاعرُ تتوزَّعُ اكتمالاتُه بين النصوصِ التي يَكْتُبُها، والعاشِقُ يصلُ إلى انتهائِهِ في إشراقاتِهِ المتعدِّدةِ، وتجلياتِهِ المتتاليةِ. وأنا حياتي في شعري ، وشعري في حياتي. وإذا كَاَن هُنَاكَ شاعرٌ ما قد اكتمل عَبْرَ تحقُّقهِ في شَكْلِ نصِّهِ أو أسلوبِ كتابتِهِ، ويفتقرُ إلى "خبرةٍ حياتيةٍ" فنصُّهُ الشعريُّ لا يمكنُ وصفُهُ بأنه نصٌّ عظيمٌ. لأنَّ الاكتمالَ لا يتحقَّقُ إلاَّ من ذاتِ الشَّاعرِ وتفرُّدها بما تعرفُ وتقبسُ من العالمِ. والحبُّ العظيمُ لا يُعرَّفُ بِشَكْلِهِ ، وإنَّما بما يحسُّهُ العَاشِقُ أو المعشوقُ نحو جزئِهِ المَقسومِ عَنْهُ. وكذا الشِّعْر العظيم الباقي ، هو الذي يدركه القلبُ وتستوعبه الرُّوحُ، ويلتذُّ به العَقْلُ، وَيُحقِّقُ المتعةَ الكاملةَ، ويتمنَّى قارئه أَنْ يكونَ كاتبه ومُنْشِئَ عوالمه، ومهندسَ مبناه، وخالقَ مَعْنَاه. عندما أنظرُ في مرآتي أسألُني هل أطوِّرُ في تجربتي الشعريةِ، هل أجدِّدُ عالمي، هل ستكونُ لديَّ قدرةٌ لأَنْ أغيِّرَ فيما أكتبُ حتَّى النَّفَسِ الأخيرِ لي. الشَّاعرُ يقتلُهُ صمتُهُ. ويميتُهُ جمودُهُ، ويُقْصِيه المللُ إذا تَسَرَّبَ في جسدِ نصِّهِ الشعريِّ. كثيرون تمكَّنوا من الحفاظِ على صورتهم المغايرةِ والمتجدِّدةِ والحديثةِ والمركَّبةِ. وكثيرون أيضًا عَجَزُوا عن فِعْلِ التغييرِ فيما يكتبون، لأنَّهم التجأوا إلى غرفةٍ حائطيةٍ يرقبون الخارجَ، ولم يذهبوا مباشرةً إلى غرفةِ الرُّوحِ التي بين ضلوعهم ليروا ويعرفوا ويشعلوا الحرائقَ. والشَّاعرُ لا تُتوِّجُهُ غيرُ قصيدتِهِ. وكُلُّ ما عدا ذلك، خارجٌ لا معنى له، وليس ذا تأثيرٍ أو فعاليةٍ. والقصيدةُ لا تحقِّقُ شَكْلَها النهائيَّ إلاَّ إذا أَنْصَتَتْ لِلصَّوتِ السرِّيِّ الذي نخافُ أَنْ نعلنَ عنه، واستمتعتْ إلى خفقانِ النَّفْسِ، ونبضاتِ القَلْبِ لحظة الكَشْفِ. وإذا كَانَتْ يدُ الله قد لمسَتْني، فأحببتُ وَكَتَبْتُ، فأنا أحاولُ ألا تعجز لُغَتي عن أَنْ أُعبِّرَ، وأحتوي تجربتي، وَأُصَفِّي حياتي، كي أُثبِّتَهَا إلى الأبد. والعِشْقُ يؤجِّجُ الكتابةَ، وقلمي تجاوزَ خريفَهُ، وحُزني لا تُقَيِّدُهُ قصيدةٌ، وامرأتي تحافظُ على نقاءِ عينيَّ عندما أنظرُ إلى مرآتي، لأعرفَ ما فَعَلَت يدايَ من كتابةٍ وَجَوَسَانٍ. أراني في مرآتي قَلِقًا، أُغَنِّي بصوتٍ خفيضٍ. واهنًا. "أُقَدِّسُ خِدَاعَ نفسي التي ثبَّتها الحَذَرُ المُفْرِطُ وأجَّجَهَا". أعيشُ في جزيرتي ، وأشتبكُ مع حيواناتي ، وناسي الذين أَخْلُقُهم. أتحرَّرُ من يأسي، لا أدعُ سَعْيِي أن يخيبَ أُذيعُ المسكوتَ الكامنَ فيَّ، في لغةٍ تشيرُ وَتَشِفُّ، تُوغِلُ في صَمْتِها وَصَوْتِها وحركيتها ودلالتها. أُودِّعني كُلَّ ليلةٍ وَأَرَى أنَّ جُلَّ حياتي رَاحَ هَدَرًا. وَأَنَّه كَانَ عليَّ أًنْ أُعطِيَ للكتابةِ مزيدًا من البَوْحِ، مزيدًا من الوقْتِ، مزيدًا مِنَ القَسْوَةِ.