كما ذكرت سابقا النوبة الغريقة كانت خالية من كل اسباب التقدم التي تتمثل في المخترعات الحديثة والتي تعتمد اعتمادا اساسيا علي الكهرباء فقد كنا مهمشين وكأننا لسنا جزء من تراب هذا البلد.. فلم يكن هناك كهرباء رغم ان محطة كهرباء خزان اسوان قامت علي حساب مزارعنا واراضينا وترتب علي بناء خزان اسوان ان اراضينا الزراعية كانت تغمرها مياه النيل طيلة الشتاء وبالتالي لم نكن نزرع غير زراعة صيفية واحدة وذلك قبل ظهور المشاريع الزراعية في بلانة وارمنا مع توشكي وعنيبة .. ولم تكن في النوبة الغريقة طريق (مسفلت) وبالتالي لم يكن هناك سيارات ..حياة كانت اقرب الي البدائية لولا البواخر التي كانت تمخر عباب النيل واعتمدنا وبشكل كبير علي ما كان يستخدمه القدماء في اعداد المأكل والمشرب حيث لم يكن مثلا معروفا الافران والذين كانوا يستخدمون الافران بصورتها البدائية هم الاخوة ابناء الصعيد الذين نزحوا الي النوبة وعملوا معنا وعاشوا معنا .. واعتمدنا علي المخبوزات التي تتم علي ما يعرف ب (الديو daawe) وهي طينية دائرية مصقولة لخبز(الكابد) والمسمي في السودان بالقراصة وهو خبز بسمك يقترب من نصف سم اما (الجراية) فكانت تخبز علي مايسمي (ديووين تريسي) و(تريسي ) بالنوبية تعني الحديد وهي قطعة من الصاج السميك بحوالي نصف سم دائرية قطرها حوالي اربعون او خمسون سم والجراية رقيقة الي حد ما بسمك ملم واحد تقريبا او اكثر قليلا تخبز بدون تخمير محسوس ولكننا حينما كنا نعدم دقيق القمح كنا نخبز من دقيق الذرة بعد تخميره ما يعرف ب(الشاددي shaddy) ويطلق عليه في السودان الكسرة وايضا من دقيق الذرة المخمر كان يخبز ما يعرف ب(ابريه) وهي رقيقة للغاية تتم ترقيقها بقطعة خشبية بالضغط علي العجين الذي يكون سائلا بعض الشئ علي القرص الحديدي وتستخدم دائما في شهر رمضان بوضعها في محلول سكري بارد مع الليمون. وهناك نوع اخر من (الابريه) من دقيق القمح اسمه (غرغبيدا) جميل جدا كفته بالحليب والزبدة .وتعايشنا مع الطبيعة وطوعناها واذكر ان جدتي رحمها الله كانت تصنع لي نوعا من الحلوي مثل الكيك كان لذيذ الطعم في ظل تلك الظروف وعدم توافر الافران والمعدات الحديثة حيث كانت تقوم بخلط الدقيق مع الحليب والبيض والسكر وقليل من الزبدة ولم نكن نعرف الفانيليا وتضعها في علبة المنيوم ثم تحكم غلقها وتضعها في حمام مياه تغلي وتتركها حتي تنضج .. ولازلت حتي اللحظة الوك طعمها بالذكري …يحيي صابر