انّ منظومة الوعي البشري اللغوية منظومة عظيمة و عميقة و واسعة، و ربما نحن البشر لا نستعمل الا جزءا يسيرا منها في تعاملاتنا العادية و الفنية و لقد كشفت الرمزية و الاشتغالات الحداثوية و ما بعد الحداثوية عن سعة و عمق النظام اللغوي كعالم فكري وابداعي. كما ان لاتناهي البصمة الابداعية عند الكُتاب – حتى قيل ان " الاسلوب شخص" أي ان لكل شخص اسلوبه التعبيري الخاصة و طريقته الخاصة في استعمال اللغة في كلامه- كشف عن لاتناهي الفضاء اللغوي الابداعي. و كمقدمة لتبيّن البعد التجريدي في الكلام لابد من الالتفات الى امرين؛ الاول ان لكل لكمة بعدا معنويا و بعدا شعوريا، أي كما ان للكلمة ثقلا معنويا مرجعيا تفاهميا و توصيليا يحمل الافكار و يوصلها الى المتلقي فان لكل كلمة ثقلا شعوريا و احساسيا. حينما تذكر الكلمة المعينة امام الشخص فانها تثير مشاعر معينة تختلف عن المشاعر التي تثيرها كلمة اخرى فمثلا البعد و الثقل الشعوري و الاحساسي لكلمة " الشتاء" تختلف عنها في كلمة " الصيف" بغض النظر عما تعنيه الكلمتان و مفهوماهما، و هكذا كلمة " برد" فانها تحمل ثقلا شعوريا و احساسيا يختلف عما تحمله كلمة "حر" بغض النظر عن معناهما و مفهومها و حدودهما التفهيمية و التواصلية. هذا الامر الاول و اما الامر الثاني فان التعبيرية – وهي التوهج المشاعري و الاحساسي للكلمات في النص- و التجريدية – وهي تعاظم التعبيرية و تجليها الاكبر في النص- اقول ان التعبيرية و التجريدية كلاهما مظاهر نصية أي انهما من خصائص النص وكلماته و ليس من خصائص الكلمات خارجه، فهناك نص تعبيري و تجريدي بكلمات تجريدية و ليس هناك كلمة تعبيرية او تجريدية خارجه. بعد أن أوضحنا ان التجريدية هي خاصية نصية للكلمات، فان التجريدية و كذا التعبيرية لها عناصر و ملامح نصية كلامية متميزة يمكن ادراكها و تمييزها بدقة عالية، و انما نحن نتحدث بهذه اللغة الاستقرائية جدا و الدقيقة جدا لاننا نؤمن ان نظرية الادب و منها ما يسمى النقد الادبي هي علم دقيق استقرائي كما ان وسيلته الكبرى في تحقيق الاستقراء هو البحث الاسلوبي، و لذلك نحن كثيرا ما نشير الى ان تناولاتنا ليست انطباعية و لا تفاعلية و لا نظرية و انما هي استقرائية اسلوبية نصية، تنطلق من النص و تعود اليه وهذا هو جوهر و مقدمة " علم الادب" الذي ننادي به. و بنظرنا يمكن ان يكون هناك علم مضبوط و دقيق يتناول الابداع النصي الكلامي او الكتابي من دون المساس بالطاقة الابداعية و من دون وصاية عليها بل ان العلمية و الاستقرائية و الضبط و البحث النصي و الموضوعي يقلل من التحيز و التكلف والادعاء و الوصاية والمجاملة و التوهم التي تكثر في الكتابات النقدية. و من هذا المنطلق الاسلوبي الاستقرائي العلمي فان التجريدية هي صفة اسلوبية نصية كلامية او كتابية والمقوم لتجريدية النص هو ما نسميه " العامل التجريدي" وهو عنصر مشترك بين جميع المظاهر الاسلوبية المحققة للتجريدية في النص. و لفهم العامل التجريدي فاننا يمكن القول و ببساطة ان العامل التجريدي هو تجل اكبر للعامل التعبيري والذي هو تعظيم الثفل الاحساسي الشعوري للكلمة في النص و تقليل الثقل التوصيلي المعنوي لها فيه. فما يحصل في الكلام التعبيري هو الاعتماد على البعد الشعوري الاحساسي للكلمة في النص و عدم الاعتماد على البعد المعنوي له، و العامل التجريدي هو تجل اكبر و غاية للعامل التعبيري حيث تبلغ التعبيرية في العمل التجريدي غايتها القصوى، و بمعنى اخر ان التجريدية هي الغاية القصوى للتعبيرية في النص. و من هنا و بعبارة مختصرة فالتعبيرية التجريدية مع انضباط شرطها و صفتها و عاملها المشترك في النصوص الا ان صورها و مظاهرها و اسليبها واشتغالاتها النصية لا حدود لها، و لكل كاتب اسلوبه و طريقته في تحقيق ذلك العامل و الشرط التجريدي. و بعبارة لغوية منطقية ان العامل التجريدي هو من سنخ الجنس العام، و ان الاسلوب التجريدي الشخصي للكاتب في تحقيق ذلك العامل بل و اسلوبه المعين في نص معين له هو من سنخ الافراد و المصاديق لذلك العامل المشترك العام. فلكل كاتب مبدع ان يتفنن في تحقيق اسلوبه التعبيري التجريدي لكن المهم هو تحقيق العامل التجريدي وهو تجلي البعد الشعوري للكلمات في النص و تلاشيء البعد المعنوي و الذي هو الغاية القصوى و الدرجة العليا من التعبيرية التي هي تعاظم البعد الشعوري للكلمات في النص و تضاؤل بعدها المعنوي التوصيلي ، الى ان تصل الى تجلي و طغيان البعد الشعوري و تلاشي و انعدام البعد التوصيلي. وهذه الحالة قد تبعث على التصور ان الكلام التجريدي هو رمزي مغلق او هذياني او بلا معنى وهذه كلها اباطيل بل التجريدية تُحمَل و تصل الى المتلقي بكلام واضح و سلس وعذب الا ان الرسالة الجوهرية و الحقيقية للكلام لا تعتمد على المعنى و انما تعتمد على البعد الشعوري و الاحساسي للكلام، فحينما نقول ان التعبيرية اعتماد على الشعورية و الاحساسية الكلامية و تقليل الاعتماد على المعنوية و التوصيلية لا يعني ذلك ان الكلام التعبيري التجريدي بلا معنى و انما يعني ان الرسالة التي يراد ايصالها الى المتلقي ليست متجلية بمعنوية و توصيلية الكلام و انما متجلية بثقله الشعوري و الاحساسي الذي يصل الى المتلقي بغض النظر عن المعنى و مفارقا له وان كان مصاحبا و مقترنا معه. فالتعبيرية التجريدية هي ايصال الرسالة و الفكرة و الافكار بالاحساس و الشعور و ليس بالمعنى في كلام واضح المعنى، و لا ريب ان هذا الاستعمال للغة متطور جدا و عالي المستوى حيث يتصف بامرين مهمين غير عاديين اولا ان الكلام يحمل رسالتين الرسالة الجوهرية الاصلية التي تصل بالاحسايس و المشاعر و الرسالة الثانوية المعنوية و ثانيا مفارقة الرسالة الاصلية للمعنى وهذا استعمال جديد جدا في منظومة الوعي اللغوي البشري.