قصة قصيرة للكاتب /عبد الباسط واكيه/سوريا/حمص. و هي الحاصلة على المركز الأول في المسابقة رقم (11) في جروب (فن القصة القصيرة). عنوان القصة منذ البداية يعلمنا بأنها مأساوية .. و بالفعل العنوان أدى غرضه بالقصة. فالقصة تحكي قصة رجل كان يظن نفسه كما كانت تتوقع له معلمته أن يكون ذا شأن منذ صغره.. أخذ يتذكر ماضي فيه الحياة سهلة بسيطة و معلمته التي توقعت نبوغه و زملاءه في الفصل الدراسي و كيف تحول حال كل منهم ، و أن الحال الذي صاروا جميعا عليه الآن كأنه الوجه الآخر للعملة المخفي عنهم إلى أن انقلبت على قفاها؛ فيجدون حاضر غير مرضي بالمرة . الكاتب ببراعة يفصل حاضر عن ماضي بجدارو الأروع أنه اخترقه بشياهه أيضا. دخل في ماضي أحبه منذ خمس و ثلاثين عاما مضت، دخله من خلال فتحة الجدار الذي سببته إحدى القذائف، يجد حارس المدرسة (أبا خيرو) رحمه الله يعامله معاملة التلاميذ الصغار، فيلبي طلبه في الولوج إلى الطابور. كل من رآهم بالطابور و الفصل له حكاية و هو الوحيد أمامنا المطلع على مستقبله و مستقبلهم جميعا. تختلف ظروف كل منهم عن الآخر و كذلك مستقبلهم، لم ينس دس القضية الفلسطينية في الحلم في أول من أصابها العدوان في بلاد الشمال و ما زالت. الطفل بداخله أراد نزهة بالمدرسة و كان بذاكرته طعم الحلوى التي يبيعها أبو خيرو للتلاميذ مقابل قروش ، مد صاحبنا يده و أخذ مقدارا منها و لم يجد عملة في جيبة(عشرة قروش) فمع تغير الزمان لم يعد لها قيمة ، رغم أنه راعي شياه فإن في جيبه ورقة من فئة الألف ليرة ، و هي ما تعادل راتب أربعة من المعلمين آنذاك. سماحة عم أبي خيرو تظهر في امهاله فرصة للعودة بالقروش العشرة لليوم التالي. أكل من الحلوى بعد الانصراف من الدوام الدراسي، رجع بيته فتح العلبة القديمة التي كان يحتفظ فيها بالقروش و العملات البسيطة؛ أخذ منها قطعة نقود ذات العشرة قروش و دسها في جيبه، أملا أن يلقى أبا خيرو مرة أخرى في حلم جديد. * القصة جميلة و سردها أيضا، كاتبها يحافظ على اللغة و القواعد الإملائية، مما جعل السرد سهلا.. و هذا يحسب له. الوقفة السريعة بين الماضي و الحاضر هي فكرة ممتازة، رغم أنها قصة قصيرة كان عدد الأبطال كثر، احتلت أسماؤهم مايقارب نصف مساحة القص؛ لكنها كانت خفيفة لقصر المعلومة التي قيلت في كل منهم. ** . جملة ( و كأن هذا العمر قد مر علي وحدي) جملة زائدة.. لأن توقع ذلك من قبل عندما رأى أبا خيرو و المدير. جملة (تذكرت تلك الحجرة الصغيرة المخصصة للمستخدم) يفضل تبديل كلمة تذكرت ب (رأيت) لأنه مازال في حالة حلم . غادر (الأولاد) يفضل أن تكون التلاميذ حيث أنهم طلاب علم و فيهم إناث أيضا. جملة (علبة صغيرة) نكرة رغم أنه يحتفظ بمال فيها.. لو قال علبتي الصغيرة أو العلبة القديمة؛ لكان أفضل. الخاتمة تكون في جملة (وضعتها في جيبي).. فالقارئ ذكي و يفهم أن الراوي يتمنى الرجوع مرة أخرى للحلم و أنه يستعد لسداد الدين للحارس. ذكر فلسطين فيها إسقاط، و فتحة السور الذي سببته القذيفة فيها صرخة. تغير الأقدار فيها رسالة و تحمل من المعاني الكثير. جملة (في الفرصة بين الدرسين لهوت مع الأطفال) روعة أن يعيش الطفولة و لو في دقائق، فالكاتب في داخله طفل محروم يتمنى فرصة اللعب و العودة إلى الماضي. أجمل جملة كانت ( وضعت في فمي قطعة حمراء من قطع السكر الملونة) و الأجمل منها (و ضعت العملة بجيبي لكي لا أنساها) جمل كفيلة بقصة كاملة. *** المقدمة و الحبكة بعقدتها و الإنفراج و النهاية الجميلة كانت ناجحة.. و القصة تستحق المركز الأول بالفعل. تحياتي لكاتبها الألق.. مع تمنياتي له بدوام التوفيق (سالمة المغربي). إليكم بالنص آلام الذّاكرة منذ انتهاء العام الدّراسيّ، اعتدتُ على أخذ شياهي إلى المدرسة، حيث تشكَّلَ مستنقع صغير حول المغاسل من فائض خزّان المياه المثقوب، نَمَتْ فيه أعشاب خضراء غضّة تأكلها الأغنام بشهيّة. إنّها مدرستي التي أمضيت فيها المرحلة الابتدائيّة منذ خمس وثلاثين سنة. اليوم دخلتها مع الشّياه من خلال جدارها المهدّم بقذيفة، فتفاجأت (بأبي خيرو) رحمه الله، آذن المدرسة في زماننا، يؤنّبني لدخولي من هنا، ويحثّني على الإسراع لأنّني تأخّرت عن الطّابور الصّباحيّ وتحيّة العلم! أُصبتُ بالذّهول! كيف هذا؟! الرّجل ميت منذ عقود، وأنا تجاوزت تلك المرحلة منذ زمن طويل! لا أدري لماذا لبّيت طلبه من دون تردّد وأنا أحدّق به مندهشا! هل أخبره بأنّه سيموت إثر حادث سيّارة وهو يقف على الطّريق الدّوليّ يريد الذّهاب إلى المدينة؟ ركضتُ كما كنت أفعل لأدرك الطّابور الصّباحيّ ، وقفتُ في آخره أتأمّل رفاق الطّفولة... كيف هذا؟ أنا كبرتُ وهم ما يزالون صغارا... !؟ أبسط راحتيّ لمدير المدرسة الصّارم ليضربني بالعصا بسبب تأخّري! كيف أخافه وأنا الآن أكبر سنّا منه!؟ هل أقول له إنّه سيمرض بالفالج عندما سيبلغ الثّالثة والسّبعين؟ وإنّه سيموت بعدها بسنة؟! نظرت إلى رجب ابن صفّنا الغبيّ، الذي لم يتجاوز المرحلة الابتدائيّة، وإذ به يضحك عليّ بشماتة! هل أخبره بأن أنفه سيبقى متّسخا حتّى يبلغ العشرين من العمر؟! وبأنّه سيصبح سائق حافلة تعمل على خطّ دمشق حلب؟ جلست في المقعد الأخير، مقعدي المفضّل إلى جانب (فوزي البغل) و(زهير أبو تم) ... كان الفصل يموج بالفوضى قبيل دخول المعلّمة! لا أحد يستغرب من وجودي بينهم كما أستغرب أنا ! تقترب (خدّوج) ذات العينين الزّرقاوين والجدائل اللّامعة المشدودة بإتقان، وقد لفّتهما على قمّة رأسها كالتّاج، ناولتني ممحاتي الضّائعة وعلى وجهها ابتسامة مشرقة كالشّمس... هل أقول لها بأنّه لا فائدة من حبّنا، وبأنّها ستتزوّج من (فوزي البغل) الذي تكرهه، وبأنّ فوزي سيموت في الحرب!!؟ تدخل معلمتنا (سمر) التي تأتي من المدينة، ماتزال بكامل أناقتها ورونق جمالها وشعرها المنساب على ظهرها وصدرها كشلّال من النّور! يالله، وكأنّ هذه السّنين قد تجاهَلَتْها فلم تحنِ لها ظهرا ولم تكسر لها سنّا! وكأنّ هذا العمر قد مرّ علي وحدي! تطلب منّي الوقوف لأسمّع أنشودة (فلسطين داري ودرب انتصاري) فأصدح بها كَرْجَا كجدول رقراق... تعبث بشعري، تقبّلني، وتقول للجميع: لرفيقكم هذا شأن في المستقبل. هل أخبرها بأنّها ستنتقل إلى قرية أخرى بعد سنتين بسبب مضايقات المدير الشّبِق؟! وبأنّ فلسطين وخلال خمسة وثلاثين عاما لم تزدد إلا بؤسا! وبأنّني فشلت في المدرسة وأنا الآن مجرّد راع بائس! وبأن (قاسم) سيصبح مهندسا زراعيّا و(آية) ستصبح طبيبة أسنان و(شريف) سيصبح شرطيّا للمرور و(إسماعيل) سيصبح لصّا يقضي جلّ عمره في السّجن! و(محمود) سيهاجر إلى أوربّا بصورة غير شرعيّة، وستقوم الصّحفيّة ب(شركلته) بقدمها ليقع على وجهه هو وابنته التي يحملها! و(تماضر) ستصبح قابلة فاشلة و(جميلة) التي لا تعرف الحروف حتّى الآن، ستصبح مدرّسة للّغة العربيّة و(زهير) الأبله سيصبح من وجهاء القرية بسبب ثروته الطّائلة هل أقول للجميع بأنّ صواريخ الطّائرة ستهدم نصف المدرسة !؟ في الفرصة بين الدّرسين لهوتُ مع الأولاد، لقد تعبتُ وهم يتدفّقون نشاطا...! تذكّرت تلك الحجرة الصّغيرة المخصّصة للمستخدم (أبي خيرو) على باب المدرسة، والتي يبيع فيها حبّات السّكاكر الملونة، فقصدته لأشتري منها، وقفت في الطّابور الصّغير، وعندما جاء دوري أعطاني حفنة منها بعشرة قروش، مددت يدي إلى جيبي وإذا بها ورقة من فئة الألف ليرة، يعني ما يعادل مرتب أربعة أساتذة! لم أجرؤ على إخراجها، لاحظ ارتباكي فقال لي: لم يعطك أبوك مصروف اليوم؟ لا بأس، غدا أحضر معك عشرة قروش! ومع قرع جرس نهاية الدّوام، غادر الأولاد المدرسة صاخبين، وأنا توجهت إلى غنيماتي وقد امتلأت كروشها بالعشب... خرجتُ بها من حيث دخلتُ... وفي الطّريق وضعت في فمي قطعة حمراء من قطع السّكر الملوّنة... وعندما وصلت البيت، بحثت عن علبة صغيرة أحفظ بها قطعا نقديّة قديمة، من بينها عشرة قروش، وضعتها في جيبي لكي لا أنساها. الآن؛ عليّ أن أنام باكرا حتّى لا أتأخّر عن الطّابور الصّباحيّ غدا... ! عبد الباسط واكية/سورية/حمص