الثراء في الحياة ليس ثراء المال فقط ولكن هناك ثراء الفكر والإنسانية والأخلاق والفنون والآداب، بل هناك فقر وثراء في كل جوانب الحياة ولكن كلمة ثراء لا يمكن أن نٌطلقها على ما هو بشع أو مخالف للأخلاق لذلك نطلق كلمة ثراء على كل ما هو جميل ومُحبب إلى النفس. وجزء هام من الثراء الإنساني هو التعرف على شخصيات غير عادية وخارجة عن نطاق المألوف ليس بالضرورة كما نحب ولكنها شخصيات أصيلة مع نفسها ومع قناعاتها ونظرتها للحياة وهذه الشخصيات لثرائها الإنساني يمكنها أن تغير المسارات في حياة من حولها. وقد كان طريقي نحو الدكتوراة قد بدأ بمقال أرسلته للمهندس جمال طاهر ولم أكتب به أنني دكتورة ولكنه منحني اللقب حتى دون سؤالي إن كنت دكتورة أم لا. القيمة هنا ليست للقب الدكتوراة فأي انسان يمتلك الإرادة والرغبة يمكنه الوصول لهذه المرحلة العلمية؛ القيمة كانت لأنه منحني ذلك التقدير الصامت وجعلني أشعر بالحرج والخجل لأنني لم أكن دكتورة ووجدت بأنه لقب جميل؛ ولعدة أسابيع لم أتوقف عن التفكير بالدكتوراة ولحسن الحظ بأنني كنت قد حصلت مسبقا على الماجستير. مجرد كلمة بسيطة أضافها لاسمي غيرت تفكيري وجعلتني أرغب بأن أكون وفق ظنه بي تقديراً له وإحتراماً لنظرته الإيجابية لمن حوله. أي منا يمكنه أن يحصل على هذا اللقب ولكن من منا يستطيع أن يمتلك نظره صافية إيجابية تشجيعية للآخرين؟ من منا يرتقي للأعلى بمن حوله ولا ينظر إليهم نظرة إستعلاء أو إستخفاف بمقدراتهم. لم أكتب هذا المقال لإطراء الدكتور جمال ولكن لرغبتي القوية بالتعبير عن إحترامي لهذا النموذج البناء الهادف والمُشجع بيننا. إنه ليس شكر فقط بل إمتنان عميق لم يرقى بالآخرين، لمن يرى بهم أجمل مما يرون في أنفسهم، لمن يقول لك أنك تستطيع. وهكذا بدأت رحلتي مع رسالة الدكتوراة، مع الأبحاث والكتابة والسهر والأيام الطويلة التي لا عدد لها في البحث والتدقيق والجهد لأكتشف عالم رائع من المعرفة، عالم لا حدود له من المعلومات ، للخروج عن المألوف لحياة عادية رتيبة نعيشها لأجل من حولنا بجزء كبير منها وبجزء صغير منها لذواتنا، فتأتي هذه الصفحات والكلمات لتُعيدنا من جديد لعالم داخلي نسينا الكثير عنه، أو أغلقنا بابه لأنه لا وقت لدينا للتجوال في أرجاءه، فتأتي رسالة الدكتوارة لتعيد فتح ذلك الباب المغلق ونتجول من جديد في عالم الأبحاث والفكر وما كتبه الآخرون ثم ما نكتبه نحن ومن جديد نستعيد العلاقة مع ذواتنا ونكتشف أخيراً بأنه كلما تطورت العلاقة مع الذات تحسنت العلاقة مع من حولنا. موضوع رسالة الدكتوراة ليس بأهمية ثراء من حولنا، فالمكتبات تمتليء بالرسائل وبالكتب ولكن القلائل منا من يمتلك روح إيجابية مستنيرة، محبة للآخر حتى ولو لم تتعرف على جميع صفاته؛ ونحن بدأنا بإفتقاد هذه المحبة العفوية التلقائية للآخر حتى ولو قابلناه لأول مرة؛ نحن نبحث عن سبب يجعلنا نحب هذا الآخر، يجعلنا نشجعه أو نهتم به، لأننا فقدنا عفوية الشعور الإنساني غير المشروط ، غير المغلف بشروط القبول؛ ويمتلك الأطفال هذا الشعور بالقبول العفوي للآخر ونحن نفقده بصورة تدريجية ولكنها مؤلمة لأنها وإن لم تكن جارحة ولكنها تجعلنا فقراء إنسانياً حتى ولو كنا أثرياء مادياً؛ بل لقد صلت درجة إضمحلال هذا القبول الفطري والمحبة العفوية إلى مشاعر الآباء تجاه أولادهم، ومشاعر الأزواج ومشاعر أطياف واسعة منا؛ فلكي تكون مقبول لابد أن تلبي شروط مُسبقة، ولكي تحصل على التشجيع لابد من إرضاء قائمة قصيرة أو طويلة من التوقعات. تجربتي مع المهندس جمال هي تجربة هذا التشجيع العفوي التلقائي حتى دون أن يعرفني بصورة شخصية، وهي تجربة أتمنى أن يخوضها كل منا في المجتمع لأنها لا ترقى بالفرد فقط بل بالمجتمع بأسره؛ فهل لنا أن نصر على ثقافة التشجيع! هل يمكننا أن نرى مجتمعاتنا بنظره الرقي والتفاؤل! أم أننا نصر وسوف نصر على التشاؤم وهدم الأمل ورؤية ما هو سلبي بل هناك من يؤلمه رؤية النجاح. تطور الأفراد والمجتمعات لا يقوم إلا على صورة رسمها الفرد والمجتمع لذاته، فإن فقد المجتمع والفرد هذه القدرة على رسم الجمال في ذاته، فيبقى الأمل بأفراد قلائل لا يزالون يتمتعون برؤية الجمال وهم آخر مركب نجاه لمجتمعات تغرق في اليأس قبل أن تغرق في حقيقة الصعوبات الإنسانية؛ ففي كل العصور هناك صعوبات حقيقية ولكن في بعض العصور فنت حضارات بسبب اليأس التشاؤم وبعصور أخرى نهضت أمم من بين ركام الحطام لأنها تمسكت بالأمل ولم تهزأ من الحلم ولم تتهكم على أصحاب الأحلام ، بل نظرت للمستقبل عبر حلم طفلٍ صغير يقول لك بصوتٍ بريء :" غدا سوف أبني قلعتي التي تهدمت بالأمس". فكل شكري وإمتناني الدائمين للمهندس جمال طاهر