نصبوا الخيام، شرارة الاحتجاجات الطلابية ضد العدوان على غزة تصل إلى أعرق جامعات كندا    لتضامنهم مع غزة.. اعتقال 69 محتجاً داخل جامعة أريزونا بأمريكا    عاجل.. قرار مفاجئ من ليفربول بشأن صلاح بعد حادثة كلوب    طارق السيد: الزمالك سيتأهل إلى نهائي الكونفدرالية    موعد مباراة توتنهام وآرسنال اليوم في الدوري الإنجليزي والقنوات الناقلة    السكك الحديد تعلن عن رحلة اليوم الواحد لقضاء شم النسيم بالإسكندرية    حالة الطقس اليوم الأحد على القاهرة والمحافظات    سيد رجب: بدأت حياتى الفنية من مسرح الشارع.. ولا أحب لقب نجم    زلزال بقوة 6.1 درجة يضرب جزيرة جاوة الإندونيسية    ماكرون يعتبر الأسلحة النووية الفرنسية ضمان لبناء العلاقات مع روسيا    تتبع المنهج البريطاني.. ماذا قال وزير التعليم عن المدرسة الدولية؟    التصريح بدفن جثة شاب صدمه قطار أثناء عبوره المزلقان بقليوب    أسعار الأسماك واللحوم والدواجن والخضروات.. اليوم 28 أبريل    الفرح تحول إلى جنازة، لحظة انتشال سيارة زفاف عروسين بعد سقوطها بترعة دندرة (صور)    حزب الله: وجهنا ضربة صاروخية بعشرات صواريخ الكاتيوشا لمستوطنة ميرون الإسرائيلية    السفير الروسي: انضمام مصر للبريكس مهم جدا للمنظمة    14 مليار دولار في طريقها إلى مصر بسبب رأس الحكمة    تسليم أوراق امتحانات الثانوية والقراءات بمنطقة الإسكندرية الأزهرية    اشتباكات بين الفلسطينيين والاحتلال الإسرائيلي غرب رام الله    غدا.. محاكمة عاطل متهم بإنهاء حياة عامل في الحوامدية    أتلتيكو مدريد يفوز على أتلتيك بلباو 3-1 في الدوري الإسباني    فضل الصلاة على النبي.. أفضل الصيغ لها    25% من المصابين بعدم انتظام ضربات القلب أعمارهم تقل عن 65 عاما    بعد التراجع الأخير.. أسعار الحديد والأسمنت اليوم الأحد 28 أبريل 2024 بالأسواق    بالأسماء.. مصرع 5 أشخاص وإصابة 8 في حادث تصادم بالدقهلية    عضو اتحاد الصناعات يطالب بخفض أسعار السيارات بعد تراجع الدولار    عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير.. أسعار الذهب اليوم الأحد 28 إبريل 2024 بالصاغة    هيئة كبار العلماء السعودية تحذر الحجاج من ارتكاب هذا الفعل: فاعله مذنب (تفاصيل)    حسام البدري: أنا أفضل من كولر وموسيماني.. ولم أحصل على فرصتي مع منتخب مصر    هل مرض الكبد وراثي؟.. اتخذ الاحتياطات اللازمة    بشرى للموظفين.. 4 أيام إجازة مدفوعة الأجر    متحدث الكنيسة: الصلاة في أسبوع الآلام لها خصوصية شديدة ونتخلى عن أمور دنيوية    الآن.. سعر الدولار مقابل الجنيه المصري للبيع والشراء اليوم الأحد 28 إبريل 2024 (آخر تحديث)    تحولات الطاقة: نحو مستقبل أكثر استدامة وفاعلية    إصابة 8 أشخاص في حادث انقلاب سيارة ربع نقل بالمنيا    بعد جريمة طفل شبرا، بيان عاجل من الأزهر عن جرائم "الدارك ويب" وكيفية حماية النشء    حسام غالي: كوبر كان يقول لنا "الأهلي يفوز بالحكام ولو دربت ضدكم (هقطعكم)"    وفاة الفنان العراقي عامر جهاد    عمرو أديب: مصر تستفيد من وجود اللاجئين الأجانب على أرضها    غادة إبراهيم بعد توقفها 7 سنوات عن العمل: «عايشة من خير والدي» (خاص)    نيكول سابا تحيي حفلا غنائيا بنادي وادي دجلة بهذا الموعد    نصف تتويج.. عودة باريس بالتعادل لا تكفي لحسم اللقب ولكن    ملف يلا كورة.. أزمة صلاح وكلوب.. رسالة محمد عبدالمنعم.. واستبعاد شيكابالا    ما حكم سجود التلاوة في أوقات النهي؟.. دار الإفتاء تجيب    الأردن تصدر طوابعًا عن أحداث محاكمة وصلب السيد المسيح    اليوم، أولى جلسات دعوى إلغاء ترخيص مدرسة ران الألمانية بسبب تدريس المثلية الجنسية    هل يمكن لجسمك أن يقول «لا مزيد من الحديد»؟    أناقة وجمال.. إيمان عز الدين تخطف قلوب متابعيها    «الأزهر للفتاوى الإلكترونية»: دخول المواقع المعنية بصناعة الجريمة حرام    23 أكتوبر.. انطلاق مهرجان مالمو الدولي للعود والأغنية العربية    دهاء أنور السادات واستراتيجية التعالي.. ماذا قال عنه كيسنجر؟    السيسي لا يرحم الموتى ولا الأحياء..مشروع قانون الجبانات الجديد استنزاف ونهب للمصريين    ما هي أبرز علامات وأعراض ضربة الشمس؟    دراسة: تناول الأسبرين بشكل يومي يحد من الإصابة بهذا المرض    " يكلموني" لرامي جمال تتخطى النصف مليون مشاهدة    رئيس جامعة أسيوط يشارك اجتماع المجلس الأعلى للجامعات بالجامعة المصرية اليابانية للعلوم    شرايين الحياة إلى سيناء    هيئة كبار العلماء بالسعودية: لا يجوز أداء الحج دون الحصول على تصريح    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أحمد رجب.. حدوتة مصرية

أحمد رجب هو أحمد رجب ، هو أفكاره ، هو ذاته التي لم تنفصل عنه يوما ، هو مؤسسة فكرية متحدة مستقلة ، أدواته لا يعيرها لأحد ، يقلد من يشاء ، ولكن من المستحيل أن يوجد كاتب واحد في العالم يستطيع تقليده. هو رجل حياته في الكتابة وليست الدعاية.
استطاع أن يقود قلوب أمة بأكملها يعبر أن أحزانها وأفراحها بكلمات بسيطة قليلة عندما ترص فوق سطور مقالاته تقلب كل المعايير والموازين ، يضحكنا حتى البكاء .عطاؤه المميز كان سببا في ترشيحه لجائزة النيل والحصول عليها بأغلبية الأصوات، لا يختلف عليه أحد ولكنه يختلف مع كثيرين. له العديد من المؤلفات الساخرة، ورسائل من الدكتوراه والماجستير أقيمت علي ضفاف أعماله.
أحمد رجب مشوار طويل وجميل من العطاء والنجاح الذي صنعه بنفسه ، وهو الذي لم يتقلد يوما منصبا صحفيا ورغم ذلك أمتلك قلوب ملايين القراء والمعجبين والمريدين، أنه أسطورة الكتابات الساخرة .
لو حكيت حكاية الكاتب الكبير أحمد رجب مع الكتابة والصحافة لا أدري من أين أبدأ لان بداياته كلها كانت بدايات عملاقة في كل مشاريعه الإبداعية ، ولكن البداية الأولي كانت هناك في الإسكندرية التي شهدت مولده في 20 نوفمبر 1928 وحصوله على ليسانس الحقوق في جامعة الإسكندرية وأثناء دراسته بالكلية أصدر مع آخرين مجلة »أخبار الجامعة«، كانت طريقه للتعرف على مصطفى وعلى أمين، عمل فى مكتب «أخبار اليوم» فى الإسكندرية، ثم انتقل إلى القاهرة، ليتولى سكرتارية التحرير وهو فى مطلع حياته المهنية، وهو منذ هذا التاريخ يرفض أن يلتحق بمكان آخر غير الأخبار التى يعتبرها بيته ويُرجع إليها الفضل فى تعلق الملايين به، ويرفض أيضاً أن يتكلم عن نفسه فلا حوارات ولا تصريحات ولا ظهور تليفزيونى ولا ندوات، فالقناص الماهر يدرك جيداً أن مكانه الحقيقى فى الظل لأن طلقاته يمكنها أن تعبر العالم متحدثة عنه. لكن عبقرية أحمد رجب الحقيقية تجلت منذ بدأ يكتب عام 1968 عموده الشهير 2/1 كلمة. ثم بعد أن بدأ يقدم أفكار كاريكاتير مصطفي حسين الشهير.
أصل الحكاية
من بين الأوراق القديمة عثرت علي مقال بقلم الكاتب الكبير مصطفي أمين يروي فيه كيف كانت بداية مقال "نصف كلمة" للكاتب الصحفي الكبير أحمد رجب ، وكان مقال مصطفي أمين تحت عنوان "السخرية في حياتنا من رخا إلي احمد رجب" كتب يقول : أحمد رجب هو تلميذى، ومنذ اليوم الذي عرفته فيه تنبأت له بدور كبير سوف يلعبه في حياة المجتمع المصري، فقلمه ساخر، وأسلوبه جذاب، استطاع أن يضحك المصريين لأكثر من عشرين عاماً، ويرسم الابتسامة على شفاههم.،
ويستطرد الراحل مصطفي أمين قصة الكتابات الساخرة إلي أن يصل إلي حكاية احمد رجب ومصطفي حسين معا وتقول سطور المقال:
فى سنة 1974 صدر قرار من الرئيس السادات بالعفو عنى بعد أن ظللت بالسجن لمدة تسع سنوات، وعيننى مشرفاً على صحف أخبار اليوم.. ولكننى لاحظت أن الأخبار تنقصها الصور الكاريكاتيرية، وعلى الفور فكرت فى عمل صورة بالصفحة الأخيرة وصورة على عمود بالصفحة الأولى من أجل تنشيطها.. ولم يطل تفكيرى كثيراً فى الفنان الذى سوف يحقق لى الهدف الذى أنشده.. إنه أحمد رجب تلميذى الذى بدأ محرراً فى مجلة الجيل وكان أسلوبه الساخر لافتاً للنظر للوهلة الأولى.. وقد شجعته فى البداية أن يقوم برسم الكاريكاتير لكنه لم يكن مستعداً لذلك، وأكد لى أنه مستعد لإعطاء الأفكار للرسامين وهم يقومون بتنفيذها.. لكننى بدأت أفكر فى رسام موهوب ينفذ أفكار أحمد رجب وعرفت أن عندنا رساماً يعمل بالأخبار اسمه مصطفى حسين يقوم برسم القصص واخترته لكى ينفذ الفكرة.. وفوجئت فى نهاية الشهر الأول بأن توزيع الأخبار قد زاد 100 ألف نسخة وجاءنى تقرير التوزيع ليؤكد بأن سبب الزيادة هو الكاريكاتير الذى ينشر فى الصفحتين الأولى والأخيرة.. وعلى الفور قررت إعطاء مائة جنيه زيادة فى مرتب أحمد رجب ومصطفى حسين.. وعلى الفور ثار المحررون وغضبوا وأرسلوا شكاوى وقتها إلى الرئيس السادات وقالوا له أن مصطفى أمين أعطى لمحرر مائة جنيه علاوة.. واتصل بى الرئيس السادات وسألنى: هل صحيح أنك أعطيت زيادة لمحرر فى مرتبه تصل إلى مائة جنيه شهرياً ؟.. قلت له: لقد حدث هذا فعلاً.. ولكن لاثنين من المحررين وليس لواحد فقط.. قال الرئيس السادات: كيف يحدث ذلك؟.. قلت: حينما طلبت منى أن أتولى الإشراف على أخبار اليوم قلت بالحرف الواحد تولى أخبار اليوم وقم بعملك الذى كنت تؤديه قبل أن تدخل السجن.. قال: أليس من الأفضل لو أنك أعطيت لكل محرر وعامل 50 قرشاً فى الشهر وبالتالى تسعد جميع العاملين.. قلت: لا.. إننى كنت سأسعد الفاشلين.. إننى فقط أكافئ المجتهدين!
وإثر تلك الحادثة الشهيرة بدأ الرسامون فى كل الصحف يحصلون على مبالغ جيدة نظير عملهم.. فقد كان رخا وهو رسام فى مجلة الاثنين يحصل على ثمانى جنيهات وهناك رسامون يحصلون على جنيهين وثلاثة جنيهات.. وبعد أن ارتفع راتب أحمد رجب ومصطفى حسين ارتفعت جميع مرتبات الرسامين فى كل الصحف..
وبعد حرب عام 1973 بدأ السادات يعطى الحرية.. وكان المجال مفتوحاً أمام أحمد رجب ليسخر.. فقد كانت الصحف قبل ذلك ترسم بشكل جدى.. وحينما تجرأ أحمد رجب وسخر من الحكام بدأت الصحف الأخرى تسخر وتحاول أن تقلد أحمد رجب.. رسم أحمد رجب السادات فى كاريكاتيره بما يتفق مع المهابة التى كانت موجودة لرئيس الجمهورية وكان السادات سعيداً بذلك.. وعلى العكس من ذلك فى أيام الرئيس الراحل جمال عبد الناصر فلم يكن أى رسام يجرؤ على رسم جمال عبد الناصر أو ينتقده.. وكانت هناك بعض الرسوم لا تعجب الرئيس السادات ولكنه كان قد بدأ يعرف أحمد رجب ويتعرف على شخصيته ويقتنع بالجهد الذى يؤديه..
وأذكر أنه كان يتناول شخصية أحد الرؤساء وكان الرئيس السادات معجباً بفكرته، وحينما احتجت هذه الشخصية على الرسم طلب من أحمد رجب أن يتوقف عن جزئية معينة فى رسم الكاريكاتير، وتم ذلك بالفعل، وقد التقى هذا الرئيس بالفعل مع أحمد رجب ومصطفى حسين فى إحدى زياراته للقاهرة.
لقد أعطيت حرية النشر لأحمد رجب لكى يكتب ما يريد، فلا رقيب عليه أبداً، وحينما أرى أن الهجوم قد بدأ عليه، كنت أنبهه إلى ما يحدث من اعتراضات عليه، ولم أكن أطلب منه أن يعرض علىَ ما يكتبه أو يرسمه مصطفى حسين، لأن تجربتى السابقة فى الكاريكاتير علمتنى بأنه لو وضع أى قيد على الكاريكاتير فإنه سوف يفقد قيمته على الفور.. وإننى أعتبر أن مصطفى حسين امتداد للفنان محمد عبد المنعم رخا، وأحمد رجب يعد امتداداً لى، فهو الذى يضع الابتسامة الآن على شفتى الشعب المصرى من خلال سخرياته اللاذعة فى الكاريكاتير اليومى، ومن خلال "نص كلمة" والتى قالها على أمين ومنذ ذلك اليوم ظل أحمد رجب يكتب سخرياته إلى أن أصبحت كتاباً صدر له..
والظاهرة النى نشهدها هذه الأيام كاريكاتير "فلاح كفر الهنادوة" والذى أعرفه شخصياً أن رئيس الوزراء الحالى سعيد جداً بهذا النقد وفى رأيى أنه أول رئيس وزراء منذ بداية الثورة لا يحتج على هذا الرسم وما يتناوله من سخرية لاذعة أحياناً ولم يشكو أبداً، بل إنه أبدى رغبته فى مقابلة أحمد رجب وأبدى سعادته، وهذه أول مرة تحدث بالنسبة للكاريكاتير أن يكون الحاكم سعيداً به..
إننى معجب جداً بأحمد رجب لأنه يجعلنى أضحك كل يوم، والشخص الذى لديه الكفاءة حينما يكون الإنسان منا مهموماً ثم يجعله يضحك فهو بلا شك شخصية عبقرية.. وأحمد رجب لا يضحك طبقة دون الأخرى، ولكنه يضع الابتسامة على شفاه كل الطبقات.. إن كلماته المختصرة والتى تضحك الشعب المصرى كله تحتاج إلى كفاءة كبيرة، لأننى أذكر خطاباً من سعد زغلول إلى الشيخ محمد عبده يقول فيه "اغفر لى الإطالة فلا وقت عندى للاختصار"! فالاختصار يحتاج إلى وقت ومجهود.. فمن السهل جداً أن يسرد الشخص منا لكن من الصعب الاختصار!
الغرفة رقم 53
وعن رحلته فى أخبار اليوم يقول الكاتب أحمد رجب : «قضيت نصف عمري في الغرفة رقم 53، أول من اتخذها مكتباً هو توفيق الحكيم، كنت أحملق في أجواء الغرفة 53 وأتساءل: كيف لم أحظ من هذه الغرفة بإشعاعات الفكر والفن التي تركها توفيق الحكيم.. فأفكر مثله وأبدع مثله؟ وتبين لى أن السبب أننى غيرت موضع مكتبى من حيث كان يجلس توفيق الحكيم ونقلته إلى حيث كان مربط حمار الحكيم». ورغم ما تعكسه هذه الكلمات الساخرة من تواضع شديد لكاتبنا الكبير إلا انه لم ينجو هو نفسه منها ، وهو ما يؤكد علي عبقريته التلقائية التي لا يستطيع تذويقها حتى مع نفسه وهذا شئ نادر الحدوث خاصة مع الأدباء والفنانين الذين تقتلهم الأنا
داخل هذه الغرفة تولد كل يوم فكرة جديدة وأحيانا أكثر من فكرة وتستغرق كتابة نصف كلمة كل يوم حوالي ساعة زمنية ، ولكن لا أحد يعرف كم من الزمن تستغرق هذه النصف كلمة بداخل عقل وفكر كاتبنا الكبير
هذه الغرفة شهدت علي مدي سنوات طويلة الاجتماع اليومي الذي كان يعقد بين كل من الكاتب الكبير أحمد رجب والفنان مصطفي حسين من الساعة الثانية وحتى الواحدة ظهرا الذي ابتكرا بداخلها أهم الشخصيات الكاريكاتيرية بدءا من عبد الروتين إلي عباس العرسة
لقد اخترع عدداً من الشخصيات تفوق في رسم ملامحها مصطفى حسين التي ما زالت تقوم بأدوارها في الحياة إلى اليوم، بعد أن أطلق لها العنان لتتجول في شوارعنا وتحتمي بمؤسساتنا وتجلس على مقاهينا وتنام تحت أسقف بيوتنا، ومازالت يُضرب بها المثل إذا أراد أحد التعبير عن أوضاع مقلوبة.
ومن أبرز هذه الشخصيات المنافق عباس العرسة في الحكومة والسياسية، وعبد الروتين للبيروقراطية، وعبده مشتاق لانتظار المنصب بأي ثمن، ولا يمكن أن ننسي ديالوجات عزيزبيه المليونير المنعزل مع الكحيت المدعي، وكمبورة السياسي الفاسد وجنجح البرلماني الجاهل الغبي، وعقدة واضع الامتحانات وقاهر التلاميذ.
كان عباس العرسة رمز النفاق الذي يراه أحمد رجب أكبر أعداء الإنسان يقول: عن هذه الشخصية: لوكانت الحيوانات في حدائق الحيوان تنافق الإداريين فيها لقرأنا في حركة الترقيات أن القرد رقي إلي نمر، والنمر إلي أسد، والأرنب إلي ذئب!
أما أشهر الشخصيات التي قدمها أحمد رجب فشخصية فلاح كفر الهنادوة الكاريكاتيرية الذي يعبر بدقة عن الشخصية المصرية الصامتة المسحوقة والصابرة ولكن في سكوتها بلاغة، أراد بها أن يعبر عن الفلاح المصري المطحون وعما يدور في ذهنه وما يثار من تساؤلات في المجتمع، فيظهر بطاقيته الشهيرة المائلة علي صلعة لامعة وبلسان لاهث وعيون ذكية يجلس أمام المسئولين لينقل لهم ما يحدث في كفر الهنادوة وكأنه يحكي لهم مشاكل مصر .
حضرة صاحب الحصانة
وعندما أراد أن يعبر عما طرأ من تغييرات علي الشارع السياسي والاجتماعي والتجاري في مصر في عصر الانفتاح اخترع شخصية حضرة صاحب الحصانة كمبورة بيه، أراد بتلك الشخصية أن يعبر عن هؤلاء الأثرياء الذين كانوا يحسبون علي الصعاليك قبل عصرالانفتاح، مما أثر بالسلب علي منظومة الأخلاق والقيم في المجتمع.
فكمبورة يتحدث بألفاظ عصر الانفتاح مثل الأرنب، الباكو، التمساحة والخنزيرة، كما أن الناس في نظره مجموعة من الكروديات والبلهاء الذيدن مكنوه من أن يتحول من مجرم صعلوك إلي مجرم وجيه ذي جاه وسلطان، وقد فات أوان محاسبته أو استعادة الحقوق منه بعد أن أصبح ذا حصانة يسعي للفوز في الانتخابات بأي ثمن وبأي وسيلة، حتي لو كان عن طريق الادعاء بانتمائه إلي أصول طيبة من والديه اللذين أطلق عليهما "سيدي مدحت والسيدة رشا. "
وعندما بحث بين ثنايا فكره عن شخصية تعبر عن فكرة التطلع الطبقي والسخرية منها اخترع شخصية الكحيت فهو يرتدي ثوباً به ثقوب، بينما يحمل بين أصابعه سيجارته باعتزاز كبير جداً وكأنه ملياردير،
فالكحيت شخصية سلبية تماماً وتصرفاته أقرب إلي أحلام اليقظة والتطلع الطبقي، غير أنه لا يبذل أي جهد إيجابي أو يخطو خطوة واحدة عملية في اتجاه تحقيق تلك الأحلام، بالإضافة إلي أن تطلعاته الكبيرة قد تدفع به إلي جريمة إذا أتيحت له فرصة تحقيق ثراء سريع.
أما شخصية مطرب الأخبار فقد اخترعها أحمد رجب للتعبير عما وصل إليه الفن الغنائي من تدهور، فهو مطرب له رأس تمساح وشعر مجعد ويقف ممسكاً بعوده، وقد أراد بتلك الشخصية الكاريكاتيرية أن يقول للمستمعين إن الغناء لم يعد يتطلب صوتاً مميزاً أو لحناً جميلاً إنما فقط قدرة المطرب علي فرض نفسه لا غير.
وشخصية عبده مشتاق أراد بها أن يعبر عن ظاهرة الأشخاص الطامحين للسلطة الذين دوما يحلمون بتقلد منصب وزاري، وعلي الرغم من استعداداتهم الدائمة كلما سرت شائعة بتغيير وزاري هم دوماً مستبعدون.
أما (الفهامة) فلها فلسفة خاصة في فن الضحك، لم يستطع أحد تقليدها، أو الوقوف على سرها الذي يحتفظ به كاتبنا ولم يطلع عليه أحد.
وصل أحمد رجب إلي هذه المكانة عبر سنوات طويلة كان فيها صوتاً للأغلبية الصامتة من العمال والموظفين والطبقة الوسطي، لأنه كان يعبر باختصار عن آرائهم، انتقد البيروقراطية والادعاء والنفاق بكتابة ساخرة لا تهدف لإثارة الضحك، بل تنتقد بشكل لاذع ومكثف كل ما يضايقهم.
مقالب وقفشات
استطاع أحمد رجب إثبات تفوقه من خلال سخريته التي لاحقت الجميع ومقالبه وقفشاته التي لا تنتهي .
ولا يزال مجتمع الأدباء والنقاد يذكرون واقعة حدثت منه نال فيها منهم، وتهكم عليهم بما يكفي ليخلصهم من عقدة الخواجة بعد أن لقنهم درساً عظيماً
استطاع أحمد رجب في أقل من ساعة واحدة جلس فيها إلي الورق أن يكتب مسرحية باسم "الهواء الأسود" دفع بها إلي مجلة الكواكب في مارس 1963 باعتبار أنها من إبداع المؤلف العالمي السويسري "دورينمات "،وطلب من أربعة نقاد كبار هم: عبدالفتاح البارودي، ورجاء النقاش، وسعد أردش، وعبد القادر القط، رأيهم في قيمة العمل.. فتلاحقت تعليقاتهم تشيد بها إشادة قوية حتى إن البعض اعتبرها إضافة إلي التراث المسرحي، فيما كان من أحمد رجب إلا أن نشر تحقيقاً بعنوان "فضيحة الموسم.. أنا المؤلف الأوحد لمسرحية الهواء الأسود" وكتب عن عقدة الخواجة في العمل الأدبي .
احتوت المسرحية علي جمل وعبارات غير متناسقة وغير مترابطة ولا حتي تؤدي إلي معني مفيد، ودارت أحداثها حول 3 شخصيات بأسماء غريبة مبتكرة، سخر أحمد رجب من خلالها من تيارات العبث واللا معقول التي انتشرت في ذلك الوقت.
بينما صدق الجميع أن المسرحية تنتمي لهذا التيار واتفقوا علي أنها تنتمي لأعمال "داورين ماك" بالفعل، فكتب سعد أردش عنها يقول: إنها رواية عالمية، وبالغ عبد الفتاح البارودي وهو يشير إليها قائلا هذه هي الدراما ، في حين وصفها د. عبد القادر القط بأنها تعبر عن مأساة الإنسان في القرن العشرين، واتفق معه في الرأي رجاء النقاش الذي رأي أنها تشرح بوضوح أزمة الإنسان المعاصر.
وكانت الصدمة هي الشعور الطبيعي بعد إعلان أحمد رجب بأن المسرحية من بنات أفكاره ، اكتشف النقاد الكبار أنهم تعرضوا لمقلب من صناعة قلم يجيد صناعة المقالب وهو ما أثار حفيظتهم، ولكن خديعة أحمد رجب للنقاد الأربعة تثبت لنا أنه يمتلك مواهب متعددة من بينها كونه كاتباً مسرحياً عالمياً وبشهادة النقاد.
ظلت هذه الواقعة محل اهتمام عدد كبير من الأدباء ممن علقوا عليها علي صفحات الجرائد مثل توفيق الحكيم الذي اعتبرها مقلباً لطيفاً في حين قال إحسان عبد القدوس: "أتمني أن يصر النقاد علي رأيهم ويرفعوا أحمد رجب إلي منزلة الكتاب العالميين".. في حين قال صلاح عبد الصبور: "إن ده أعظم عمل نقدي للنقاد"."
أعماله الإبداعية
أحمد رجب حكاية طويلة في رحلة الإبداع والتفوق ، علي مدي خمسين عاما عشنا مع كلماته حالات من العطاء والبهجة والألم في كتابات ساخرة هو رائدها في مصر والعالم العربي. لديه العديد من الكتب التي سجل فيها تاريخا عميقا والتي كشفت بشكل أو بأخر عن قصور في جوانب حياتنا الاجتماعية والسياسية ، من هذه الكتب كتاب "أي كلام " و"نهارك سعيد " و" الفهامة " وصور مقلوبة " وتوتة توتة " والحب وسنينه " ويوميات حمار " ونصف كلمة " الذي اخترت منه هذه الكلمات القليلة التي تحمل فوق السطور معاني عميقة وتاريخ طويل من الأحداث والمواقف التي شهدتها مصر منذ بداية كتابة نصف كلمة في عام 1968وحتي يومنا هذا
كتب كاتبنا الكبير يقول في كلماته البسيطة المعبرة التي تلخص حالنا قائلا:
السحابة السوداء فوق رؤوسنا،والزبالة الغبراء تحت أقدامنا،وانفلونزا الخنازير أمامنا،وانفلونزا الطيور خلفنا،? ?وأمنا الغولة الحكومة تتربص بنا
اللهم لا نسألك رد القضاء بل اللطف فيه
بشرى عظيمة: سمعت أن اليابان افتتحت معهدا جديدا يتدرب فيه المبعوثون من العالم الثالث على الاستقالة عندما تحتم المسئولية على الموظف أن يستقيل بسبب التقصير أو الإهمال أو الخيبة القوية، ويمر المبعوث باختبارات وفحوصات خاصة تفيد خلوه من التلامة ويمنح في النهاية شهادة بأن عنده دم.
- الكلام نوعان: كلام فارغ، وكلام مليء بالكلام الفارغ.
- الغرام: أمر متبادل بين رجل وامرأة بتحديد إقامة كل منهما في قلب الآخر
- يبكي الرجل عند مولده بلا سبب وبعد زواجه يعرف السبب.
- قبل أن نتهم الغرب بعداء الإسلام علينا أولا أن نحسن صورتنا كمسلمين ونعطي الصورة الحقيقية للدين الإسلامي، فنحن نقتل فيما بيننا، نسأل الله أن يحفظ دين الإسلام من المسلمين.
- مع إدارة الكسب غير المشروع التي تصيد الحرامية أقترح إنشاء إدارة جديدة اسمها إدارة الكسب المشروع مهمتها أن تحقق مع الشرفاء في أمر محير كيف يعيشون بالكسب الحلال في هذا الغلاء؟.
- الشئ الباهر حقا في انتفاضة الضفة وغزة هو أن شباب وأطفال الجيل الجديد من الفلسطينيين يقاتلون الصهيونيين، وهو أمر يختلف تماما عن الجيل القديم من الزعماء الفلسطينيين الذين يقاتلون بعضهم بعضا.
- يسأل قارئ: لماذا ننفرد دون العالم كله بظهور شخصية العبيط في المسلسلات؟ البعض يا سيدي يرى أن ظهور العبيط ضروري جدا في بعض المسلسلات. إذ هو يردد كلاماً فيه مغزى ما يريد أن يقوله المؤلف. لكن في مسلسلات كثيرة لا يظهر العبيط اكتفاء بالمؤلف.
- هناك فكرة لتغيير اسم منصب وزير الكهرباء إلى: مطفي الديار المصرية.
- الدنيا اليوم تضحك مع الزهرة والوردة في عيد الربيع فابتسم واضحك للدنيا الجميلة مع هذا الصباح، والضحك ألوان إذ قال الحكيم الإسبرطي: ستكون سعيدا إذا ضحكت من قلبك، وستكون فيلسوفا إذا ضحكت من نفسك، وستكون مخادعا إذا ضحكت على الناس، وستكون مليونيرا إذا ضحكت على بنك.
- الحكومة لا ترد على ما نكتبه لأنها تعتقد أن لكل مواطن الحق في أن يتكلم، وأن للحكومة الحق في أن لا تتكلم.
- الذين يخالفون القانون ينقسمون إلى ثلاثة: واحد يخالف القانون ولا يضبط، وواحد يخالف القانون ويضبط ويعاقب، وواحد عنده حصانة.
- الذين نهبوا أموال البنوك ولا يزالون يستمتعون بسرقاتهم، والذين أثروا وتربحوا من المناصب دون أن يقوي عليهم قانون من اين لك هذا، يقيمون الدليل علي أن بلدنا يتسم بميزة فريدة عكس كل الدنيا وهي أن الجريمة فيه تفيد وغير صحيح أن الجريمة لا تفيد.
بين يوم وآخر يتم القبض علي صيادين مصريين لدخولهم المياه الإقليمية بالدول المجاورة رغم وجود بحرين في بلادنا وبحيرات عديدة، وبدلا من بهدلة الصيادين وتدخل السفارات للإفراج عنهم لماذا لا تدخل الحكومة في مفاوضات مع السمك لتعرف سبب هروبه من بحارنا هل له مطالب لم تحققها الوقفات الاحتجاجية أم انه طفش خوفا من التلوث الذي لحق بكل شيء ؟
صباح الحب ف عيد الحب. والحب كيمياء سحرية تمثل أجمل ضرورة للبشر، ففي حضور الحب لا يطيق كل من الرجل والمرأة أن يعيش بعيدا عن الآخر، وقربك نعيم الروح والعين، بينما في غياب الحب لا يطيق كل منهما أن يعيش مع الآخر، واسألك الرحيلا، وغور في ستين ألف سلامة. ولذلك علي الرجل أن يدعو الله ليل نهار اللهم اجعل من عشيقاتنا زوجاتنا وحوّل زوجاتنا إلي عشيقاتنا قادر يا كريم
أسرارا وخبايا
هناك صورة واحدة حاول كل من لم يعرف أحمد رجب تصديرها لنا، وهى أنه رجل عبوس ينتج الضحك ولا يستهلكه، ويتحدث عن البسطاء ولا يقترب منهم! ولكن الحقيقة شيء آخر .. بهذه المعلومة الحقيقية بدأ الكاتب الشاب محمد توفيق كتابه الذي صدر مؤخرا عن كاتبنا الكبير بعنوان " أحمد رجب ضحكة مصر " والذي تضمن كثير من الخبايا والأسرار التي لا يعرفها الكثيرين منها : أن أحمد رجب كان يتمني أن يصبح عازف "كمنجة" لكن بعد3 سنوات فى معهد الموسيقى قال له مدير المعهد "يا ابني أنت عمرك ما هتتعلم حاجة". وان أمه كانت تطلق الزغاريد وتوزع الشربات عندما يتوصل لحل مسألة فى الحساب! وكان له باب بعنوان"بختك هذا الأسبوع" رغم أن كل معلوماتي عن علم الفلك تنحصر في أن بالقاهرة شارعا اسمه الفلكي! وانه اتفق مع فنان كبير أن يقوم بنشر خبر وفاته وهو "عايش" ليقرأ ما سيكتبه عنه النقاد بعد رحيله لكنه تراجع فى آخر لحظة. وغيرها من الاسرار والمعلومات التي يضمها الكتاب ويقول الكاتب محمد توفيق في سطور كتابه عن أحمد رجب :
أنه لا يحب أن يذكر تاريخ ميلاده، فهو شاب حتى لو بلغ عمره ألف عام!
فلا تضع له قانونا، فهو رجل له قانونه الخاص، وليس أمامك إلا أن تعترف بعبقريته؛ لأنه ليس كسائر الرجال، تجده وقورًا، ووفيا، وصادقا، ويبعث على السرور، لكنه يميل إلى العزلة، ويفضل أن يراقب الأحداث عن بعد.
فقد ولد ليكون جاهزا للتحدي، لا يخاف ولا يتراجع، ويدافع عن مبادئه مهما كانت العواقب، ولا يهادن، ولا يحاول أن يلبس قناعا، ولا أن يستعير صفات ليست له، ولا يرتاح لمعاشرة أهل الثروات لأنه عفوي وغير متكلف.
إنها صفات مواليد برج العقرب التى لا تنطبق إلا على شخص واحد فقط – كما يؤكد علماء الفلك– هو الكاتب الفذ أحمد رجب الذى لم أجد سوى ورقة وحيدة فى أرشيف دار أخبار اليوم تحمل بياناته الشخصية رغم أنه عاش أكثر من نصف قرن داخل هذه المؤسسة!
ورقة واحدة فقط قام بتوقيعها بخط يده فى عام 1959 عندما كان مديرا لتحرير مجلة الجيل، وكتب فيها اسمه الثلاثى المسجل فى شهادة الميلاد أحمد إبراهيم رجب من مواليد منطقة الرمل بمحافظة الإسكندرية.
تعلم فى مدرسة رياض باشا الابتدائية، وكان يحب حصة الموسيقى ويكره علم الحساب وبسببه قضى طفولة سعيدة جدا كلها ضرب في ضرب -على حد تعبيره- وعندما كان المدرس الخصوصي يعلن أنه توصل إلى حل مسألة جبر، كانت أمه تطلق الزغاريد وتوزع الشربات على الجيران.
فى الوقت نفسه حاول أن يتعلم الموسيقى، فالتحق بمعهد جيوفانى ليتعلم آلة الكمان التى أحبها كثيرا، وبعد الدرس الرابع اشترط عليه الخواجة "جيوفانى" أن يشترى كمنجة إذا أراد الاستمرار فى دروس المعهد
أحب الكمنجة ولكنها لم تحبه
ويروى أحمد رجب ذكرياته فى هذه الأيام بقوله: كافحت طويلا من أجل اقتناء الكمنجة، إلا أن الرأي استقر على أن تلك الكمنجة ودروسها سوف تشغلني عن المذاكرة،وعن الدروس الخصوصية فى الجبر، وانتهت معركتي من اجل الكمنجة بوعد أكيد بأنني إذا نجحت فى الجبر آخر السنة فسوف تكون الكمنجة هدية النجاح، فبدأت جهودا أسطورية لكى أنجح فى الجبر، ورحت أسهر الليالى فى طلب المعالى، وطلب الكمنجة، عاكفا الليل بطوله فى محاولات مستميتة لحل المقادير الجبرية، حتى أصبحت –لكثرة الجهد- نحيلا شاحبا، كل شىء، فى جسمى صار رفيعا إلا مخى، فقد ظل تخينا لا يستطيع الجبر اقتحامه، فضاعفت الجهد لأحقق – فى النهاية- تفوقا رائعا إذ تمكنت من الحصول على أعلى درجة للنجاح فى الجبر أيامها: 4 على 20
وجاءت الكمنجة التى أحبها أحمد رجب لكنها لم تحبه!
فقد ظل طالبا فى معهد الموسيقى لمدة ثلاث سنوات إلى أن جاء له صاحب المعهد "جيوفانى" ذاته، وقال له: يا ابني أنت معنا منذ سنوات، ولم تتعلم شيئا، ولن تتعلم شيئا، لأن يديك ليست ميكانيكية.
لكن أحمد رجب لم يقتنع بما قاله جيوفانى إلا بعد سنوات طويلة، يتذكرها بقوله: تأكدت من صدق "جيوفانى" عندما كنت أحاول مساعدة زوجتى فى المطبخ فكنت أقوم "بتكسير" الأطباق بسبب عدم مرونة يدي فى الحركة! ومن هنا أصبحت مبهورا بأى شخص يعزف على آلة الكمان لأنها كانت أمنية حياتي التى لم استطع تحقيقها.
لم تكن عقدة الكمنجة وحدها التى تطارد أحمد رجب ففى سنوات الطفولة تعرض لواقعة جعلته يكره اليوم الذى يذهب فيه إلى الحلاق! ويروى تفاصيلها بقوله: ذهبت أحلق شعرى وأنا فى المدرسة الابتدائية فدخل رجل صالون الحلاقة وفى يده ابنه فى مثل عمرى، فقص الرجل شعره وحلق ذقنه، وجاء الدور على الولد الصغير فأجلسه الحلاق على منضدة ليقص شعره بينما ذهب الأب إلى الحانوت المجاور بعد أن نفدت سجائره، وجن جنون الأسطى رشوان عندما اكتشف أن الرجل ليس أبا الولد الصغير، وأنه اصطحبه من الطريق ليتركه رهينة عند الحلاق باعتباره ابنه ويفر دون أن يدفع الأجرة!
ولم يكتف الحلاق بضرب الولد المسكين الذى لا ذنب له، بل أمسك بى أنا أيضا وهو يصيح: وأنت كمان أبوك فين يا ولاد النصابين؟ ولم أدر فى مقاومتى أننى كسرت "قصرية" زرع فتحول الحلاق إلى القصرية المكسورة وتحولت أنا إلى الشارع أسابق الريح، ومن يومها أصبت بما يمكن أن يسمى ب" الحلاقة فوبيا"!
كان ذلك قبل أن يصل أحمد رجب إلى مدرسة "العباسية الثانوية" التى تخرج فيها توفيق الحكيم وعدد كبير من الوزراء والمسئولين وفى هذه المرحلة كان شديد الانبهار بنابليون بونابرت، ومن أجله دخل الجمعية التاريخية ليتعمق فى دراسته، ومن أجله أيضا شاهد كل فيلم سينمائى يروى قصة حياته أو جانبا منها.
وحصل أحمد رجب على شهادة التوجيهية، والتحق بكلية الحقوق جامعة الإسكندرية، وهناك ظهرت مواهبه وقدراته كصحفى فذ وساخر مبدع، فقد كان يقوم بعمل مجلة "أخبار الجامعة" وكانت ناجحة للغاية، فقد وصل توزيعها إلى 7 آلاف نسخة، وهو رقم كان يتعدى اشهر المجلات المصرية أيامها - ويتعدى توزيع
بعض صحف ومجلات هذه الأيام- وبسبب هذه المجلة تمت إحالته لمجلس التأديب
مرتين إحداها كانت بسبب موضوع كان ينتقد فيه عميد الكلية بأسلوب ساخر، ويومها أنقذه الدكتور حسن أبوالسعود - أستاذ القانون الجنائي وعم الفنانة صفاء أبوالسعود- حيث كان ضمن لجنة التحقيق، وقال: "لازم نعلم الشباب الديمقراطية فى الجامعة" وتركه دون أن يتخذ أى إجراء ضده.
ويعلق أحمد رجب على تلك الواقعة قائلا: "شفت الجامعة زمان كانت عاملة إزاى؟!"
ولم يكن الدكتور حسن وحده الذى يتعامل بهذه الطريقة الراقية التى اختفت من جامعاتنا، لكن كان هناك أساتذة كثيرون يؤمنون بنفس الأسلوب فى التعليم، منهم الشيخ فرج السنهورى - أستاذ الشريعة- كان رجلا مستنيرا عظيما واسع الأفق -على حد تعبير أحمد رجب- الذى يروى ذكرياته معه قائلا: أذكر أننى كتبت عنه مرة حديثا بعنوان "حديث لم يحدث" أى حديث من وحى خيالي، وسألته ما رأيك فيما يقال من أن قاضيا فى الجنة وقاضيان فى النار؟ (وكان من قبل رئيسا للمحكمة الشرعية العليا)، فرد فضيلته: صحيح، هذا صحيح، القاضى الذى فى الجنة هو القاضى الشرعى، أما القاضيان اللذان فى النار، فواحد "أهلى" والثانى "مختلط"(ويقصد به نادى الزمالك).. وكانت المحاكم المختلطة موجودة أيامها.
فى الجامعة التقى أحمد رجب، حسن شاه، وكانت طالبة فى الفرقة الأولى بينما كان هو فى الفرقة الثالثة، ووقتها كان واحدا من أشهر الطلاب وأكثرهم نشاطا، وتتذكر حسن شاه تلك الأيام بقولها: قابلت أحمد رجب لأول مرة عندما كان مسئولا عن الصحافة بالكلية، وكانت علامات النبوغ واضحة عليه، فكان يعرف من أول يوم فى كلية الحقوق انه سيصبح صحفيا، فكان يردد "إن ما يجرى فى عروقى ليس دماء وإنما حبر المطابع"! واستمرت علاقتى به وكان السبب فى اتجاهى للعمل فى الصحافة رغم أننى كنت أتمنى أن أصبح محامية.
لم تكن الكاتبة حسن شاه - التى كانت سببا فى تغيير قانون الأحوال الشخصية - الوحيدة من بين أصدقاء الجامعة الذين استمرت علاقة احمد رجب بهم، فهناك الدكتور على السمان والكاتب الصحفى عبد الفتاح الديب الذي اشترك معه فى فريق التمثيل، لكنه ترك التمثيل بعد أن اندمج "الديب"على المسرح متقلدا سيفه وهو يؤدى دور لويس الحادى عشر وأحمد رجب يلعب دور القسيس. والديب يقول له: فإذا سكن الليل يا أبتاه.. خيل إلىّ أننى أسبح فى بحيرة من الدماء
لكن أحمد رجب نسى الحوار وأخذ يرتجل قائلا:
هل قلت يا بنى أنه يخيل إليك أنت أنك تسبح فى بحر من الدماء؟
فرد الديب: نعم يا أبتاه
فقال رجب: وما لون هذه الدماء بالضبط يا بنى هل هى قرمزية أم وردية أم تميل إلى السواد؟
فهمس الديب " إيه ده؟.. الله يخرب بيتك" فرد عليه " أصلى نسيت الكلام ثم ارتفع صوت أحمد رجب فجأة: تكلم يا بنى ما لون هذه الدماء التى تراها فى المساء ونجوم الليل تنتشر.. فضحك الجمهور، وتقرر فصل أحمد رجب من فريق التمثيل.، فترك هواياته الفنية وقرر أن يتفرغ للعمل فى بلاط صاحبة الجلالة.
تخرج أحمد رجب فى كلية الحقوق عام 1951 قبل عام واحد من قيام ثورة يوليو، ليصبح محاميا للشعب المصرى بكل طوائفه، وليدافع عن البسطاء الذين لا يستطيعون الذهاب إلى ساحة القضاء، ولا يملكون الأموال التى تجعلهم يوكلون من يدافع عنهم، ويتحدث بلسانهم أمام المسئولين، فالتحق بدار أخبار اليوم وعمل مراسلا لمجلة الجيل فى الإسكندرية مع صديقه محسن محمد (رئيس تحرير الجمهورية فيما بعد)، وفى هذا التوقيت كانت الإسكندرية مدينة هادئة تنام فى السابعة مساء – على حد تعبير أحمد رجب- لذلك كان يبذل مجهودا كبيرا من أجل أن تصلح موضوعاته للنشر فى مجلة توزع فى كل المحافظات.
خطه الجميل لفت نظر موسي صبري
ونجح فيما أراد، وتفوق، ولفت الانتباه إليه، وذلك عندما ذهب موسى صبرى إلى مكتب أخبار اليوم بالإسكندرية فى صيف عام 1951 ويروى "صبرى" تفاصيل ما جرى بقوله: لفت نظري وأنا أراجع الأخبار المرسلة إلى القاهرة، أخبار مكتوبة بخط جميل، وبالحبر البنفسجي، وكلها أخبار جيدة عن الجامعة.. وسألت عن كاتب هذه الأخبار، فقدموا لي شابا متخرجا فى كلية الحقوق جامعة الإسكندرية وقدم هو لي مجلة كان يصدرها فى الجامعة، وبهرني أسلوبه الكاريكاتوري الساخر، وعندما عدت إلى القاهرة بعد رحلة الصيف، طلبت من على أمين استدعاء هذا الشاب اللامع إلى القاهرة ليعمل فى مجلة الجيل.. وكان هذا الشاب، هو أحمد رجب الذى أصبح ألمع كاتب ساخر فى مصر!
وبالفعل قرر التوءم مصطفى وعلى أمين نقله من مكتب الإسكندرية للعمل فى القاهرة، ليبدأ أولى خطواته نحو عالم الكبار.
صعد أحمد رجب القطار المتجه إلى القاهرة، وذهب إلى 6 شارع الصحافة ليبدأ رحلة البحث عن المتاعب داخل دار أخبار اليوم فى عام الثورة.
فى البداية كان يحرر بابا ثابتا بعنوان "هذه الجريمة لغز.. فتعالوا نحله معا"، وكان عبارة عن عرض وتحليل لإحدى الجرائم التى حدثت خلال الأسبوع ولم يستدل على مرتكبها، وظل يحرر هذا الباب لثلاث سنوات، انتقل بعدها لكتابة باب آخر بعنوان "أخبار الأسبوع" وكان عبارة عن رصد وتعليق على الأحداث التى وقعت خلال الأسبوع، لكن بعد فترة من كتابته المنتظمة فى هذا الباب قام بتغيير طريقة تقديمه، وأصبح يكتب فيه عن المشاهير، فكتب فى هذا الباب عن عدد كبير من نجوم الفن والفكر منهم "توفيق الحكيم"و "يحيى حقى" و"صلاح جاهين" و"صلاح أبوسيف".
فى هذا التوقيت جاء إلى احمد رجب أحد العاملين بالإعلانات وقال له "عندى قصة حلوة ينفع تنشرها" وأخرج له صورة أحد أقاربه، وقال له: هذا الرجل يعمل مقرئا وهناك سيدة سورية تحبه وتطارده، وبالفعل أعجب أحمد رجب بالقصة واطلق على المقرئ الشاب لقب "الشيخ براندوا" ونشر صورته التى تشبه الممثل العالمى "مارلون براندوا" واشتهر المقرئ وارتفع اجره من 30 جنيه إلى 300 جنيه وصار واحدا من علامات قراءة القرآن فى مصر إنه الشيخ عبد الباسط عبد الصمد لكن بعد أن وصل الشيخ إلى قمة مجده طلب من الرئيس جمال عبد الناصر أن يقرر وقف نشر هذه الحلقات وبالفعل تم وقفها.
لكن أطرف الأبواب التى كان يحررها احمد رجب فى هذه الفترة هو باب "بختك هذا الأسبوع" الذى يروى قصته قائلا: أعترف أنني لا أفهم شيئا مطلقا في علم الفلك، فكل معلوماتي عن هذا العلم تنحصر في أن بالقاهرة شارعا اسمه شارع الفلكي. كذلك لا أفهم شيئا في النجوم والتنجيم وقراءة الطالع غير أن هذا لا يمنع من الاعتراف بأنني اشتغلت منجما ذات يوم، إذ كنت أحرر باب بختك هذا الأسبوع، وفي كتابة باب البخت لم أكن أشتغل بالتنجيم بقدر ما كنت أحاول بث التفاؤل في نفوس قراء البخت، فما دامت المسألة كذب المنجمون ولو صدقوا، فما الذي يمنعني أن أقول لمواليد برج العقرب: مفاجأة سارة في انتظارك، وأن أقول لمواليد برج الحوت: سعادة تامة في محيط الأسرة، وأن أبشر مواليد برج الميزان بفلوس زي الرز.
وصحيح أن المفاجأة السارة لواحد عقربي – من مواليد العقرب – قد تكون إيقافه عن العمل وإحالته إلى النيابة الإدارية، وبالنسبة لواحد حوتي قد تكون السعادة التامة في محيط الأسرة هي خناقة لرب السما تنتهي بالعبارة المأثورة: والله مانا قاعدة لك في البيت، وفي الوقت الذي أبشر فيه واحد ميزاني البرج بفلوس زي الرز، قد يكون هذا الميزاني دايخ على جنيه سلف لأول الشهر.
ولكنه لا يمنع من أن أعطي القارئ الأمل الحلو، وأن أملأ صدره بالتفاؤل، فما دام المنجمون كذابين ولو صدقوا، وما دامت المسألة مفترضاً فيها الكذب في النهاية، أليس هذا إذن أفضل من أن أقول للقارئ: مصيبة محترمة في انتظارك أو ضائقة مالية تنتهي بفضيحتك والحجز على هدومك؟، وكانت هذه تعليمات على أمين: بث التفاؤل فى كتابة البخت.
موهبة أحمد رجب كانت أكبر من حصرها فى باب بعينه، لذلك تدرج فى المناصب حتى وصل إلى منصب نائب رئيس تحرير مجلة الجيل - وكان أنيس منصور يتولى منصب رئيس التحرير- وفى الوقت نفسه تم اختياره ليكون مديرا لتحرير مجلة "هى" التابعة لدار أخبار اليوم، وكان مشهودا له بالكفاءة والحزم.
فى هذا التوقيت كان مسرح اللا معقول يسيطر على العقول، وكان مريدوه أغلبهم من نجوم المجتمع وكبار النقاد الذين يرون فيه النموذج لما يجب أن يكون عليه المسرح، وقتها قرر أحمد رجب أن يثبت أنه لا يوجد شىء اسمه مسرح اللامعقول، وأن "اللا معقول"هو ما يفعله النقاد الذين يروجون لهذا المسرح!
الهواء الأسود .. أول خبطة صحفية
وبالفعل، وضع الخطة لأكبر خبطة صحفية عرفتها مصر، وقام بتنفيذها فى مجلة الكواكب - التى انتقل للعمل فيها بصحبة مصطفى وعلى أمين - فى مارس 1963عندما نشر مسرحية أطلق عليها "الهواء الأسود" وقال إنها مسرحية لم تنشر من قبل للكاتب المسرحى السويسرى الشهير "فردريك دورنيمات" ودعا كبار النقاد للتعليق عليها باعتبارها إحدى روائع مسرح "اللا معقول"!
وبالفعل علق عليها النقاد وأشادوا بروعتها، وبعبقرية مؤلفها، وبالدلالات المهمة التى تحملها وبعد أن انتهت تعليقاتهم خرج عليهم أحمد رجب ليؤكد أن ما يفعله هؤلاء النقاد هو اللا معقول ذاته!، وكشف أنه هو مؤلف هذه المسرحية العبثية قائلا: أنا الموقع أدناه أحمد رجب أقر واعترف بأننى كاتب مسرحية (الهواء الأسود) وأننى مؤلفها (الأوحد).. وأن الخواجة فردريك دورنيمات الكاتب المسرحى السويسرى لا علاقة له إطلاقاً بهذه المسرحية.. وأنه ليس له أى إنتاج مسرحى بهذا الأسم!
وأنا الموقع أدناه أحمد بن رجب أقر وأعترف أننى كتبت هذه المسرحية فى مكتبى بالغرفة رقم 406 بمبنى دار الهلال بالسيدة زينب.. وأن هذه المسرحية لم تكتب إطلاقا فى لوزان ولا جنيف ولا زيورخ، وأننى كنت أكتب هذه المسرحية الخالدة وأنا مصاب بنوبة ضحك شديدة .. فلست أدرى لماذا كان يضحكنى جداً اسم (شتاتلر ) كلما كتبته .. ولا أعرف لماذا كنت افطس على نفسى من الضحك كلما كتبت عبارة حوار لا معنى لها .. أو كلما خط قلمى جملة منطلقة على السجية بلا أى تفكير ولا تدبير !
وفى أثناء انهماكى فى كتابة هذه المسرحية الخالدة .. دخل مكتبى الزميل حلمى سلام وسألنى ماذا اكتب، فقلت له : مسرحية لمسرح اللا معقول ، وتناول حلمى الأوراق التى كتبتها وراح يقرأ وهو فطسان من الضحك !
والظاهرة التى هى فى منتهى العجب أن كتابة هذه المسرحية كلها لم تستغرق أكثر من ساعة ونصف ساعة !
فقد كنت اكتبها بلا أى تفكير ولا منطق .. الأمر الذى سهل مهمتى كثيرا! فمادام مسرح اللا معقول لا يحكمه أى منطق أو مألوف .. فمش ضرورى منطق ولا مألوف .
وعندما انتهيت من كتابتها جلست أهرش رأسى بحثاً عن عنوان خطير للمسرحية الخالدة .. وفى هذه الاثناء دخل مكتبى صديقى مرسى الشافعى مدير تحرير (المصور ).. وإذا به يقرؤها ثم يكاد يقع من الضحك، واقترح علىَّ مرسى الشافعى أن أسمى المسرحية (الهواء الأسود ).. فكتبت الاسم فوراً لأنه فعلاً اسم يحمل رائحة اللا معقول : وقد تحيرت فى توقيع المسرحية هل أوقعها باسم أحمد فريدريك أم أحمد يونسكو أم أحمد بيكيت .. أم رجب دورنيمات .. وانتهى الأمر بموقيعها باسم (فريدريك دورنيمات ).. باعتبار أن إنتاجه لم يصل إلينا بعد، وممكن الحكاية تفوت !
وأضاف قوله: وقبل أن أدفع بالمسرحية الخالدة إلى يد سعد الدين توفيق رئيس تحرير الكواكب .. دفعت بها إلى زوجتي !
فزوجتنا ساخطة أشد السخط على مسرح اللا معقول .. وإذا أبدت سخطها على ما كتبت .. على معنى ذلك أن المسرحية قد نجحت فعلاً !
قلت لها : اقرئى يا زوجتنا هذه المسرحية وقولى لى رأيك ! فهذا الإنتاج العظيم من تأليفنا ..!
وعندما انتهت زوجتى من قراءتها ضربت صدرها بيدها وهى تقول لي : أنت بتسكر من ورايا يا راجل؟ ايه الكلام الفاضى ده اللى مالوش لا رأس ولا رجلين !
ده كلام سكرانين ومساطيل،دى الرواية دى زى ما يكون حلم مزعج يشوفه واحد فى منامه بعد ما يتعشى بحلة مسقعة .
وقالت لى زوجتى إننى إذا كنت مصمماً على الكتابة كده على طول، فأحسن افتح لى دكان فول وطعمية .
وكان معنى كلام زوجتى هذا أن (الهواء الأسود ) قد نجحت كمسرحية لمسرح اللا معقول .. وأن النقاد سوف يشبعون مدحاً وتقريظاً لها !
وأعطيت المسرحية بمنتهى الاطمئنان إلى سعد الدين توفيق .. وانتهى دورى عند هذا الحد والله العظيم !
واختتم كلامه قائلا: والآن .. شكراً لهؤلاء النقاد على مدحى وتقريظي .. طبعاً هذا شرف عظيم أن يجمعوا على أننى مؤلف مسرحى عالمى خطير الشأن وبعد تعليقهم هذا هناك أمر من اثنين : إما أننى مؤلف مسرحى خطير فعلاً برغم أننى لم اكتب للمسرح أى إنتاج حتى الآن ، وأما أنهم يرجعون فى كلامهم بعد أن عرفوا الحقيقة وهى أن مؤلف (الهواء الأسود ) ليس خواجة وإنما هو أحمد بن رجب ، ولذلك اعتبرت نفسى مؤلفاً مسرحياً عالمياَ أضع اسمى بكل فخر إلى جوار الخواجات : بيكيت ويونسكو وأوزبورن .. وكوكتو .. ومن له اعتراض من النقاد فليتقدم .
بعد أن كشف أحمد رجب عن فضيحة الموسم الثقافية، التى أنهت أسطورة نقاد "اللا معقول"، علق طه حسين بقوله: إنها عقدة الخواجة فعلاً.
أما عباس العقاد فقال: وفق الكاتب الصحفى أحمد رجب إلى حملة ناجحة على أسلوب (النقد اليدوي) منذ أيام فلفق رواية خنفشارية باسم (الهواء الأسود ) ونسبها إلى مؤلف خنفشارى فى إحدى الديار الأوروبية فاهتزت لها أعطاف النقاد المحترمين إعجاباً وطرباً وارتفعوا بها إلى قمم العبقرية فناً وأدباً وقارنوا بينها وبين بدائع المنثور والمنظوم التى فاضت بها قريحة المؤلف المعدوم، وهنأوا العربية بهذه التحفة النادرة من السحر المفهوم وغير المفهوم، ولو أمهلهم الصحفى الماكر أسبوعاً واحداً لاحتدمت بينهم المعارك، ودارت بينهم الدوائر فيما هو أفضل من تلك الفصول والمناظر.
وأضاف بقوله: هؤلاء النقاد المحترمون أولى من ينبغى أن يساق إلي (محكمة التزييف ) لحماية هذه الأمة من وبال دعواهم.
أما توفيق الحكيم فقد دافع عن أحمد رجب، ورد على النقاد الذين هاجموه قائلا: هذا "مقلب ظريف ولطيف" بينما قال الأديب الكبير إحسان عبد القدوس: " كل ما نرجوه من السادة النقاد أن يصروا على رأيهم الخطأ .. وأن يرفعوا أحمد رجب إلى مرتبة الكتاب العالميين "، اتفق معه الشاعر الكبير صلاح عبد الصبور، وأضاف قوله: إن هذا أعظم عمل نقدى للنقاد قامت به الصحافة طوال السنوات الأخيرة !
أما الشاعر أحمد عبدالمعطى حجازي فعلق قائلا: إن وقوع أربعة من النقاد المعروفين فى هذا الخطأ الفادح يجب أن ينبهنا إلى أن الإحساس بالمسئولية واحترام الثقافة شيئان نفتقر إليهما فى كثير من نشاطنا ، بينما علق الكاتب الصحفى موسى صبري على هذه الفضيحة الثقافية قائلا: إن درجة الأستاذية الفخرية التى منحها البارودى- أحد النقاد الأربعة- لأحمد رجب هى أول درجة من نوعها يجود بها الناقد الكبير خلال عشر سنوات ضرب فيها جميع كتاب المسرح بالشلاليت وكوى ظهورهم بالكرابيج وهو يصرخ بأعلى صوته (تعلموا يا جهلة .. اقرأوا ارسطو يا حمر .. افهموا الدراما يا بجم )، ثم فجأة هدأت أعصاب البارودى عندما قرأ مسرحية عبقرية اسمها (الهواء الأسود ) لكاتب عبقرى اسمه أحمد رجب .. كتبها لمجرد التريقة !
لكن الغريب أن أحمد رجب فكر فى عمل خبطة صحفية أخرى لا تقل قوة عن فضيحة "الهواء الأسود"، وهى أنه اتفق مع فنان كبير صاحب موهبة عظيمة لكنه كان يعانى من قلة العمل أن يكتب خبر نعيه وهو حى يرزق! ويوضح فيه أن جنازته قد شيعت من بلدته فى الصعيد، ثم يختفى لمدة شهرين على أن تتحمل دار الهلال مصاريفه خلال تلك الفترة، لكن بعد أن تم ترتيب كل شىء تراجع الفنان لتشاؤمه من الفكرة.
ويعلق أحمد رجب على عدم اكتمال هذه الفكرة قائلا: ضاعت عليه فرصة قراءة وسماع برامج تمجيده والإشادة بعبقريته، فقد كنت أنوى أن أظهر به بعد أن تكتب عنه كل الصحف ويتحدث عنه المخرجون والنقاد وأقول لهم "طيب الفنان أهه.. طلع عايش.. ياريت بقى تشغلوه عشان هو مش لاقى ياكل"
لسوء حظنا لم تكتمل هذه الفكرة الفذة، لكن "الهواء الأسود" كانت كافيه لترفع من أسهم احمد رجب المهنية وتجعله من نجوم الصف الأول فى بلاط صاحبة الجلالة، فبعد أن كان يكتب باب "أخبار الأسبوع" فى مجلة "الجيل" أصبح يكتب أكثر من باب فى أكثر من مجلة، منها باب "س وج" فى مجلة "آخر ساعة"، وهو عبارة عن سؤال يتوجه به لإحدى الشخصيات العامة ويجيب عنه بطريقة ساخرة.
وبعد "س وج" ابتكر بابا آخر، هو "حديث لم يحدث" وهو عبارة عن حديث مع مسئول كبير أو نجم شهير فى مجاله، ويدير فى هذا الحديث الذى لم يحدث مع المسئول عن كل ما يدور فى ذهن الناس ويجيب بطريقة ساخرة عن الأسئلة التى طرحها، لكن بعد فترة توقف "حديث لم يحدث" وحل محله مقالا ساخرا فى الصفحة الأخيرة دون أن يكون له اسم ثابت، وكان من أوائل المقالات التى كتبها فى هذا المكان مقال بديع بعنوان "مع السلامة يا شباب" يقول فيه: شىء لطيف جدا أن يكون الإنسان عنده شباب، وعنده صحة، وعنده علبة كبريت بتولع!
عن الصحة فالحمد لله، عن الكبريت فمازلت أعيش على أمل أن أشترى ذات يوم علبة تولع، أما الشباب فلا أملك – فى سن الأربعين- إلا أن أستعد لكى ألوح له بيدى مودعا: مع ألف سلامة!
ولست نادما على أن الشباب يستعد للرحيل، ولست أيضا كوالدى جليل البندراى الذى يتمحك فى الشباب، فيحاول أن يحتفظ بشبابه متبعا أربع قواعد: النوم كفاية، والأكل الصحى، ولعب الرياضة، والكذب على أى واحد يسأله سنك كام!
ولقد سئلت مرة فى برنامج إذاعى، هل تتمنى أن تعود إلى أيام الصبا والشباب،
فرفضت هذه الأمنية، وقلت: أعتقد أن الشعر الأبيض الذى غطى رأسى هو شىء مفيد جدا، إذ يوحى للناظرين- كذبا- بأننى فى منتهى العقل والحكمة، تماما كما توحى النظارة الطبية فوق عينى بأننى مثقف، وممكن أتكلم كلاما لا يفهمه أى حد ولا حتى أنا!
أحمد رجب هو أحمد رجب ، هو أفكاره ، هو ذاته التي لم تنفصل عنه يوما ، هو مؤسسة فكرية متحدة مستقلة ، أدواته لا يعيرها لأحد ، يقلد من يشاء ، ولكن من المستحيل أن يوجد كاتب واحد في العالم يستطيع تقليده. هو رجل حياته في الكتابة وليست الدعاية.
استطاع أن يقود قلوب أمة بأكملها يعبر أن أحزانها وأفراحها بكلمات بسيطة قليلة عندما ترص فوق سطور مقالاته تقلب كل المعايير والموازين ، يضحكنا حتى البكاء .عطاؤه المميز كان سببا في ترشيحه لجائزة النيل والحصول عليها بأغلبية الأصوات، لا يختلف عليه أحد ولكنه يختلف مع كثيرين. له العديد من المؤلفات الساخرة، ورسائل من الدكتوراه والماجستير أقيمت علي ضفاف أعماله.
أحمد رجب مشوار طويل وجميل من العطاء والنجاح الذي صنعه بنفسه ، وهو الذي لم يتقلد يوما منصبا صحفيا ورغم ذلك أمتلك قلوب ملايين القراء والمعجبين والمريدين، أنه أسطورة الكتابات الساخرة .
لو حكيت حكاية الكاتب الكبير أحمد رجب مع الكتابة والصحافة لا أدري من أين أبدأ لان بداياته كلها كانت بدايات عملاقة في كل مشاريعه الإبداعية ، ولكن البداية الأولي كانت هناك في الإسكندرية التي شهدت مولده في 20 نوفمبر 1928 وحصوله على ليسانس الحقوق في جامعة الإسكندرية وأثناء دراسته بالكلية أصدر مع آخرين مجلة »أخبار الجامعة«، كانت طريقه للتعرف على مصطفى وعلى أمين، عمل فى مكتب «أخبار اليوم» فى الإسكندرية، ثم انتقل إلى القاهرة، ليتولى سكرتارية التحرير وهو فى مطلع حياته المهنية، وهو منذ هذا التاريخ يرفض أن يلتحق بمكان آخر غير الأخبار التى يعتبرها بيته ويُرجع إليها الفضل فى تعلق الملايين به، ويرفض أيضاً أن يتكلم عن نفسه فلا حوارات ولا تصريحات ولا ظهور تليفزيونى ولا ندوات، فالقناص الماهر يدرك جيداً أن مكانه الحقيقى فى الظل لأن طلقاته يمكنها أن تعبر العالم متحدثة عنه. لكن عبقرية أحمد رجب الحقيقية تجلت منذ بدأ يكتب عام 1968 عموده الشهير 2/1 كلمة. ثم بعد أن بدأ يقدم أفكار كاريكاتير مصطفي حسين الشهير.
أصل الحكاية
من بين الأوراق القديمة عثرت علي مقال بقلم الكاتب الكبير مصطفي أمين يروي فيه كيف كانت بداية مقال "نصف كلمة" للكاتب الصحفي الكبير أحمد رجب ، وكان مقال مصطفي أمين تحت عنوان "السخرية في حياتنا من رخا إلي احمد رجب" كتب يقول : أحمد رجب هو تلميذى، ومنذ اليوم الذي عرفته فيه تنبأت له بدور كبير سوف يلعبه في حياة المجتمع المصري، فقلمه ساخر، وأسلوبه جذاب، استطاع أن يضحك المصريين لأكثر من عشرين عاماً، ويرسم الابتسامة على شفاههم.،
ويستطرد الراحل مصطفي أمين قصة الكتابات الساخرة إلي أن يصل إلي حكاية احمد رجب ومصطفي حسين معا وتقول سطور المقال:
فى سنة 1974 صدر قرار من الرئيس السادات بالعفو عنى بعد أن ظللت بالسجن لمدة تسع سنوات، وعيننى مشرفاً على صحف أخبار اليوم.. ولكننى لاحظت أن الأخبار تنقصها الصور الكاريكاتيرية، وعلى الفور فكرت فى عمل صورة بالصفحة الأخيرة وصورة على عمود بالصفحة الأولى من أجل تنشيطها.. ولم يطل تفكيرى كثيراً فى الفنان الذى سوف يحقق لى الهدف الذى أنشده.. إنه أحمد رجب تلميذى الذى بدأ محرراً فى مجلة الجيل وكان أسلوبه الساخر لافتاً للنظر للوهلة الأولى.. وقد شجعته فى البداية أن يقوم برسم الكاريكاتير لكنه لم يكن مستعداً لذلك، وأكد لى أنه مستعد لإعطاء الأفكار للرسامين وهم يقومون بتنفيذها.. لكننى بدأت أفكر فى رسام موهوب ينفذ أفكار أحمد رجب وعرفت أن عندنا رساماً يعمل بالأخبار اسمه مصطفى حسين يقوم برسم القصص واخترته لكى ينفذ الفكرة.. وفوجئت فى نهاية الشهر الأول بأن توزيع الأخبار قد زاد 100 ألف نسخة وجاءنى تقرير التوزيع ليؤكد بأن سبب الزيادة هو الكاريكاتير الذى ينشر فى الصفحتين الأولى والأخيرة.. وعلى الفور قررت إعطاء مائة جنيه زيادة فى مرتب أحمد رجب ومصطفى حسين.. وعلى الفور ثار المحررون وغضبوا وأرسلوا شكاوى وقتها إلى الرئيس السادات وقالوا له أن مصطفى أمين أعطى لمحرر مائة جنيه علاوة.. واتصل بى الرئيس السادات وسألنى: هل صحيح أنك أعطيت زيادة لمحرر فى مرتبه تصل إلى مائة جنيه شهرياً ؟.. قلت له: لقد حدث هذا فعلاً.. ولكن لاثنين من المحررين وليس لواحد فقط.. قال الرئيس السادات: كيف يحدث ذلك؟.. قلت: حينما طلبت منى أن أتولى الإشراف على أخبار اليوم قلت بالحرف الواحد تولى أخبار اليوم وقم بعملك الذى كنت تؤديه قبل أن تدخل السجن.. قال: أليس من الأفضل لو أنك أعطيت لكل محرر وعامل 50 قرشاً فى الشهر وبالتالى تسعد جميع العاملين.. قلت: لا.. إننى كنت سأسعد الفاشلين.. إننى فقط أكافئ المجتهدين!
وإثر تلك الحادثة الشهيرة بدأ الرسامون فى كل الصحف يحصلون على مبالغ جيدة نظير عملهم.. فقد كان رخا وهو رسام فى مجلة الاثنين يحصل على ثمانى جنيهات وهناك رسامون يحصلون على جنيهين وثلاثة جنيهات.. وبعد أن ارتفع راتب أحمد رجب ومصطفى حسين ارتفعت جميع مرتبات الرسامين فى كل الصحف..
وبعد حرب عام 1973 بدأ السادات يعطى الحرية.. وكان المجال مفتوحاً أمام أحمد رجب ليسخر.. فقد كانت الصحف قبل ذلك ترسم بشكل جدى.. وحينما تجرأ أحمد رجب وسخر من الحكام بدأت الصحف الأخرى تسخر وتحاول أن تقلد أحمد رجب.. رسم أحمد رجب السادات فى كاريكاتيره بما يتفق مع المهابة التى كانت موجودة لرئيس الجمهورية وكان السادات سعيداً بذلك.. وعلى العكس من ذلك فى أيام الرئيس الراحل جمال عبد الناصر فلم يكن أى رسام يجرؤ على رسم جمال عبد الناصر أو ينتقده.. وكانت هناك بعض الرسوم لا تعجب الرئيس السادات ولكنه كان قد بدأ يعرف أحمد رجب ويتعرف على شخصيته ويقتنع بالجهد الذى يؤديه..
وأذكر أنه كان يتناول شخصية أحد الرؤساء وكان الرئيس السادات معجباً بفكرته، وحينما احتجت هذه الشخصية على الرسم طلب من أحمد رجب أن يتوقف عن جزئية معينة فى رسم الكاريكاتير، وتم ذلك بالفعل، وقد التقى هذا الرئيس بالفعل مع أحمد رجب ومصطفى حسين فى إحدى زياراته للقاهرة.
لقد أعطيت حرية النشر لأحمد رجب لكى يكتب ما يريد، فلا رقيب عليه أبداً، وحينما أرى أن الهجوم قد بدأ عليه، كنت أنبهه إلى ما يحدث من اعتراضات عليه، ولم أكن أطلب منه أن يعرض علىَ ما يكتبه أو يرسمه مصطفى حسين، لأن تجربتى السابقة فى الكاريكاتير علمتنى بأنه لو وضع أى قيد على الكاريكاتير فإنه سوف يفقد قيمته على الفور.. وإننى أعتبر أن مصطفى حسين امتداد للفنان محمد عبد المنعم رخا، وأحمد رجب يعد امتداداً لى، فهو الذى يضع الابتسامة الآن على شفتى الشعب المصرى من خلال سخرياته اللاذعة فى الكاريكاتير اليومى، ومن خلال "نص كلمة" والتى قالها على أمين ومنذ ذلك اليوم ظل أحمد رجب يكتب سخرياته إلى أن أصبحت كتاباً صدر له..
والظاهرة النى نشهدها هذه الأيام كاريكاتير "فلاح كفر الهنادوة" والذى أعرفه شخصياً أن رئيس الوزراء الحالى سعيد جداً بهذا النقد وفى رأيى أنه أول رئيس وزراء منذ بداية الثورة لا يحتج على هذا الرسم وما يتناوله من سخرية لاذعة أحياناً ولم يشكو أبداً، بل إنه أبدى رغبته فى مقابلة أحمد رجب وأبدى سعادته، وهذه أول مرة تحدث بالنسبة للكاريكاتير أن يكون الحاكم سعيداً به..
إننى معجب جداً بأحمد رجب لأنه يجعلنى أضحك كل يوم، والشخص الذى لديه الكفاءة حينما يكون الإنسان منا مهموماً ثم يجعله يضحك فهو بلا شك شخصية عبقرية.. وأحمد رجب لا يضحك طبقة دون الأخرى، ولكنه يضع الابتسامة على شفاه كل الطبقات.. إن كلماته المختصرة والتى تضحك الشعب المصرى كله تحتاج إلى كفاءة كبيرة، لأننى أذكر خطاباً من سعد زغلول إلى الشيخ محمد عبده يقول فيه "اغفر لى الإطالة فلا وقت عندى للاختصار"! فالاختصار يحتاج إلى وقت ومجهود.. فمن السهل جداً أن يسرد الشخص منا لكن من الصعب الاختصار!
الغرفة رقم 53
وعن رحلته فى أخبار اليوم يقول الكاتب أحمد رجب : «قضيت نصف عمري في الغرفة رقم 53، أول من اتخذها مكتباً هو توفيق الحكيم، كنت أحملق في أجواء الغرفة 53 وأتساءل: كيف لم أحظ من هذه الغرفة بإشعاعات الفكر والفن التي تركها توفيق الحكيم.. فأفكر مثله وأبدع مثله؟ وتبين لى أن السبب أننى غيرت موضع مكتبى من حيث كان يجلس توفيق الحكيم ونقلته إلى حيث كان مربط حمار الحكيم». ورغم ما تعكسه هذه الكلمات الساخرة من تواضع شديد لكاتبنا الكبير إلا انه لم ينجو هو نفسه منها ، وهو ما يؤكد علي عبقريته التلقائية التي لا يستطيع تذويقها حتى مع نفسه وهذا شئ نادر الحدوث خاصة مع الأدباء والفنانين الذين تقتلهم الأنا
داخل هذه الغرفة تولد كل يوم فكرة جديدة وأحيانا أكثر من فكرة وتستغرق كتابة نصف كلمة كل يوم حوالي ساعة زمنية ، ولكن لا أحد يعرف كم من الزمن تستغرق هذه النصف كلمة بداخل عقل وفكر كاتبنا الكبير
هذه الغرفة شهدت علي مدي سنوات طويلة الاجتماع اليومي الذي كان يعقد بين كل من الكاتب الكبير أحمد رجب والفنان مصطفي حسين من الساعة الثانية وحتى الواحدة ظهرا الذي ابتكرا بداخلها أهم الشخصيات الكاريكاتيرية بدءا من عبد الروتين إلي عباس العرسة
لقد اخترع عدداً من الشخصيات تفوق في رسم ملامحها مصطفى حسين التي ما زالت تقوم بأدوارها في الحياة إلى اليوم، بعد أن أطلق لها العنان لتتجول في شوارعنا وتحتمي بمؤسساتنا وتجلس على مقاهينا وتنام تحت أسقف بيوتنا، ومازالت يُضرب بها المثل إذا أراد أحد التعبير عن أوضاع مقلوبة.
ومن أبرز هذه الشخصيات المنافق عباس العرسة في الحكومة والسياسية، وعبد الروتين للبيروقراطية، وعبده مشتاق لانتظار المنصب بأي ثمن، ولا يمكن أن ننسي ديالوجات عزيزبيه المليونير المنعزل مع الكحيت المدعي، وكمبورة السياسي الفاسد وجنجح البرلماني الجاهل الغبي، وعقدة واضع الامتحانات وقاهر التلاميذ.
كان عباس العرسة رمز النفاق الذي يراه أحمد رجب أكبر أعداء الإنسان يقول: عن هذه الشخصية: لوكانت الحيوانات في حدائق الحيوان تنافق الإداريين فيها لقرأنا في حركة الترقيات أن القرد رقي إلي نمر، والنمر إلي أسد، والأرنب إلي ذئب!
أما أشهر الشخصيات التي قدمها أحمد رجب فشخصية فلاح كفر الهنادوة الكاريكاتيرية الذي يعبر بدقة عن الشخصية المصرية الصامتة المسحوقة والصابرة ولكن في سكوتها بلاغة، أراد بها أن يعبر عن الفلاح المصري المطحون وعما يدور في ذهنه وما يثار من تساؤلات في المجتمع، فيظهر بطاقيته الشهيرة المائلة علي صلعة لامعة وبلسان لاهث وعيون ذكية يجلس أمام المسئولين لينقل لهم ما يحدث في كفر الهنادوة وكأنه يحكي لهم مشاكل مصر .
حضرة صاحب الحصانة
وعندما أراد أن يعبر عما طرأ من تغييرات علي الشارع السياسي والاجتماعي والتجاري في مصر في عصر الانفتاح اخترع شخصية حضرة صاحب الحصانة كمبورة بيه، أراد بتلك الشخصية أن يعبر عن هؤلاء الأثرياء الذين كانوا يحسبون علي الصعاليك قبل عصرالانفتاح، مما أثر بالسلب علي منظومة الأخلاق والقيم في المجتمع.
فكمبورة يتحدث بألفاظ عصر الانفتاح مثل الأرنب، الباكو، التمساحة والخنزيرة، كما أن الناس في نظره مجموعة من الكروديات والبلهاء الذيدن مكنوه من أن يتحول من مجرم صعلوك إلي مجرم وجيه ذي جاه وسلطان، وقد فات أوان محاسبته أو استعادة الحقوق منه بعد أن أصبح ذا حصانة يسعي للفوز في الانتخابات بأي ثمن وبأي وسيلة، حتي لو كان عن طريق الادعاء بانتمائه إلي أصول طيبة من والديه اللذين أطلق عليهما "سيدي مدحت والسيدة رشا. "
وعندما بحث بين ثنايا فكره عن شخصية تعبر عن فكرة التطلع الطبقي والسخرية منها اخترع شخصية الكحيت فهو يرتدي ثوباً به ثقوب، بينما يحمل بين أصابعه سيجارته باعتزاز كبير جداً وكأنه ملياردير،
فالكحيت شخصية سلبية تماماً وتصرفاته أقرب إلي أحلام اليقظة والتطلع الطبقي، غير أنه لا يبذل أي جهد إيجابي أو يخطو خطوة واحدة عملية في اتجاه تحقيق تلك الأحلام، بالإضافة إلي أن تطلعاته الكبيرة قد تدفع به إلي جريمة إذا أتيحت له فرصة تحقيق ثراء سريع.
أما شخصية مطرب الأخبار فقد اخترعها أحمد رجب للتعبير عما وصل إليه الفن الغنائي من تدهور، فهو مطرب له رأس تمساح وشعر مجعد ويقف ممسكاً بعوده، وقد أراد بتلك الشخصية الكاريكاتيرية أن يقول للمستمعين إن الغناء لم يعد يتطلب صوتاً مميزاً أو لحناً جميلاً إنما فقط قدرة المطرب علي فرض نفسه لا غير.
وشخصية عبده مشتاق أراد بها أن يعبر عن ظاهرة الأشخاص الطامحين للسلطة الذين دوما يحلمون بتقلد منصب وزاري، وعلي الرغم من استعداداتهم الدائمة كلما سرت شائعة بتغيير وزاري هم دوماً مستبعدون.
أما (الفهامة) فلها فلسفة خاصة في فن الضحك، لم يستطع أحد تقليدها، أو الوقوف على سرها الذي يحتفظ به كاتبنا ولم يطلع عليه أحد.
وصل أحمد رجب إلي هذه المكانة عبر سنوات طويلة كان فيها صوتاً للأغلبية الصامتة من العمال والموظفين والطبقة الوسطي، لأنه كان يعبر باختصار عن آرائهم، انتقد البيروقراطية والادعاء والنفاق بكتابة ساخرة لا تهدف لإثارة الضحك، بل تنتقد بشكل لاذع ومكثف كل ما يضايقهم.
مقالب وقفشات
استطاع أحمد رجب إثبات تفوقه من خلال سخريته التي لاحقت الجميع ومقالبه وقفشاته التي لا تنتهي .
ولا يزال مجتمع الأدباء والنقاد يذكرون واقعة حدثت منه نال فيها منهم، وتهكم عليهم بما يكفي ليخلصهم من عقدة الخواجة بعد أن لقنهم درساً عظيماً
استطاع أحمد رجب في أقل من ساعة واحدة جلس فيها إلي الورق أن يكتب مسرحية باسم "الهواء الأسود" دفع بها إلي مجلة الكواكب في مارس 1963 باعتبار أنها من إبداع المؤلف العالمي السويسري "دورينمات "،وطلب من أربعة نقاد كبار هم: عبدالفتاح البارودي، ورجاء النقاش، وسعد أردش، وعبد القادر القط، رأيهم في قيمة العمل.. فتلاحقت تعليقاتهم تشيد بها إشادة قوية حتى إن البعض اعتبرها إضافة إلي التراث المسرحي، فيما كان من أحمد رجب إلا أن نشر تحقيقاً بعنوان "فضيحة الموسم.. أنا المؤلف الأوحد لمسرحية الهواء الأسود" وكتب عن عقدة الخواجة في العمل الأدبي .
احتوت المسرحية علي جمل وعبارات غير متناسقة وغير مترابطة ولا حتي تؤدي إلي معني مفيد، ودارت أحداثها حول 3 شخصيات بأسماء غريبة مبتكرة، سخر أحمد رجب من خلالها من تيارات العبث واللا معقول التي انتشرت في ذلك الوقت.
بينما صدق الجميع أن المسرحية تنتمي لهذا التيار واتفقوا علي أنها تنتمي لأعمال "داورين ماك" بالفعل، فكتب سعد أردش عنها يقول: إنها رواية عالمية، وبالغ عبد الفتاح البارودي وهو يشير إليها قائلا هذه هي الدراما ، في حين وصفها د. عبد القادر القط بأنها تعبر عن مأساة الإنسان في القرن العشرين، واتفق معه في الرأي رجاء النقاش الذي رأي أنها تشرح بوضوح أزمة الإنسان المعاصر.
وكانت الصدمة هي الشعور الطبيعي بعد إعلان أحمد رجب بأن المسرحية من بنات أفكاره ، اكتشف النقاد الكبار أنهم تعرضوا لمقلب من صناعة قلم يجيد صناعة المقالب وهو ما أثار حفيظتهم، ولكن خديعة أحمد رجب للنقاد الأربعة تثبت لنا أنه يمتلك مواهب متعددة من بينها كونه كاتباً مسرحياً عالمياً وبشهادة النقاد.
ظلت هذه الواقعة محل اهتمام عدد كبير من الأدباء ممن علقوا عليها علي صفحات الجرائد مثل توفيق الحكيم الذي اعتبرها مقلباً لطيفاً في حين قال إحسان عبد القدوس: "أتمني أن يصر النقاد علي رأيهم ويرفعوا أحمد رجب إلي منزلة الكتاب العالميين".. في حين قال صلاح عبد الصبور: "إن ده أعظم عمل نقدي للنقاد"."
أعماله الإبداعية
أحمد رجب حكاية طويلة في رحلة الإبداع والتفوق ، علي مدي خمسين عاما عشنا مع كلماته حالات من العطاء والبهجة والألم في كتابات ساخرة هو رائدها في مصر والعالم العربي. لديه العديد من الكتب التي سجل فيها تاريخا عميقا والتي كشفت بشكل أو بأخر عن قصور في جوانب حياتنا الاجتماعية والسياسية ، من هذه الكتب كتاب "أي كلام " و"نهارك سعيد " و" الفهامة " وصور مقلوبة " وتوتة توتة " والحب وسنينه " ويوميات حمار " ونصف كلمة " الذي اخترت منه هذه الكلمات القليلة التي تحمل فوق السطور معاني عميقة وتاريخ طويل من الأحداث والمواقف التي شهدتها مصر منذ بداية كتابة نصف كلمة في عام 1968وحتي يومنا هذا
كتب كاتبنا الكبير يقول في كلماته البسيطة المعبرة التي تلخص حالنا قائلا:
السحابة السوداء فوق رؤوسنا،والزبالة الغبراء تحت أقدامنا،وانفلونزا الخنازير أمامنا،وانفلونزا الطيور خلفنا،? ?وأمنا الغولة الحكومة تتربص بنا
اللهم لا نسألك رد القضاء بل اللطف فيه
بشرى عظيمة: سمعت أن اليابان افتتحت معهدا جديدا يتدرب فيه المبعوثون من العالم الثالث على الاستقالة عندما تحتم المسئولية على الموظف أن يستقيل بسبب التقصير أو الإهمال أو الخيبة القوية، ويمر المبعوث باختبارات وفحوصات خاصة تفيد خلوه من التلامة ويمنح في النهاية شهادة بأن عنده دم.
- الكلام نوعان: كلام فارغ، وكلام مليء بالكلام الفارغ.
- الغرام: أمر متبادل بين رجل وامرأة بتحديد إقامة كل منهما في قلب الآخر
- يبكي الرجل عند مولده بلا سبب وبعد زواجه يعرف السبب.
- قبل أن نتهم الغرب بعداء الإسلام علينا أولا أن نحسن صورتنا كمسلمين ونعطي الصورة الحقيقية للدين الإسلامي، فنحن نقتل فيما بيننا، نسأل الله أن يحفظ دين الإسلام من المسلمين.
- مع إدارة الكسب غير المشروع التي تصيد الحرامية أقترح إنشاء إدارة جديدة اسمها إدارة الكسب المشروع مهمتها أن تحقق مع الشرفاء في أمر محير كيف يعيشون بالكسب الحلال في هذا الغلاء؟.
- الشئ الباهر حقا في انتفاضة الضفة وغزة هو أن شباب وأطفال الجيل الجديد من الفلسطينيين يقاتلون الصهيونيين، وهو أمر يختلف تماما عن الجيل القديم من الزعماء الفلسطينيين الذين يقاتلون بعضهم بعضا.
- يسأل قارئ: لماذا ننفرد دون العالم كله بظهور شخصية العبيط في المسلسلات؟ البعض يا سيدي يرى أن ظهور العبيط ضروري جدا في بعض المسلسلات. إذ هو يردد كلاماً فيه مغزى ما يريد أن يقوله المؤلف. لكن في مسلسلات كثيرة لا يظهر العبيط اكتفاء بالمؤلف.
- هناك فكرة لتغيير اسم منصب وزير الكهرباء إلى: مطفي الديار المصرية.
- الدنيا اليوم تضحك مع الزهرة والوردة في عيد الربيع فابتسم واضحك للدنيا الجميلة مع هذا الصباح، والضحك ألوان إذ قال الحكيم الإسبرطي: ستكون سعيدا إذا ضحكت من قلبك، وستكون فيلسوفا إذا ضحكت من نفسك، وستكون مخادعا إذا ضحكت على الناس، وستكون مليونيرا إذا ضحكت على بنك.
- الحكومة لا ترد على ما نكتبه لأنها تعتقد أن لكل مواطن الحق في أن يتكلم، وأن للحكومة الحق في أن لا تتكلم.
- الذين يخالفون القانون ينقسمون إلى ثلاثة: واحد يخالف القانون ولا يضبط، وواحد يخالف القانون ويضبط ويعاقب، وواحد عنده حصانة.
- الذين نهبوا أموال البنوك ولا يزالون يستمتعون بسرقاتهم، والذين أثروا وتربحوا من المناصب دون أن يقوي عليهم قانون من اين لك هذا، يقيمون الدليل علي أن بلدنا يتسم بميزة فريدة عكس كل الدنيا وهي أن الجريمة فيه تفيد وغير صحيح أن الجريمة لا تفيد.
بين يوم وآخر يتم القبض علي صيادين مصريين لدخولهم المياه الإقليمية بالدول المجاورة رغم وجود بحرين في بلادنا وبحيرات عديدة، وبدلا من بهدلة الصيادين وتدخل السفارات للإفراج عنهم لماذا لا تدخل الحكومة في مفاوضات مع السمك لتعرف سبب هروبه من بحارنا هل له مطالب لم تحققها الوقفات الاحتجاجية أم انه طفش خوفا من التلوث الذي لحق بكل شيء ؟
صباح الحب ف عيد الحب. والحب كيمياء سحرية تمثل أجمل ضرورة للبشر، ففي حضور الحب لا يطيق كل من الرجل والمرأة أن يعيش بعيدا عن الآخر، وقربك نعيم الروح والعين، بينما في غياب الحب لا يطيق كل منهما أن يعيش مع الآخر، واسألك الرحيلا، وغور في ستين ألف سلامة. ولذلك علي الرجل أن يدعو الله ليل نهار اللهم اجعل من عشيقاتنا زوجاتنا وحوّل زوجاتنا إلي عشيقاتنا قادر يا كريم
أسرارا وخبايا
هناك صورة واحدة حاول كل من لم يعرف أحمد رجب تصديرها لنا، وهى أنه رجل عبوس ينتج الضحك ولا يستهلكه، ويتحدث عن البسطاء ولا يقترب منهم! ولكن الحقيقة شيء آخر .. بهذه المعلومة الحقيقية بدأ الكاتب الشاب محمد توفيق كتابه الذي صدر مؤخرا عن كاتبنا الكبير بعنوان " أحمد رجب ضحكة مصر " والذي تضمن كثير من الخبايا والأسرار التي لا يعرفها الكثيرين منها : أن أحمد رجب كان يتمني أن يصبح عازف "كمنجة" لكن بعد3 سنوات فى معهد الموسيقى قال له مدير المعهد "يا ابني أنت عمرك ما هتتعلم حاجة". وان أمه كانت تطلق الزغاريد وتوزع الشربات عندما يتوصل لحل مسألة فى الحساب! وكان له باب بعنوان"بختك هذا الأسبوع" رغم أن كل معلوماتي عن علم الفلك تنحصر في أن بالقاهرة شارعا اسمه الفلكي! وانه اتفق مع فنان كبير أن يقوم بنشر خبر وفاته وهو "عايش" ليقرأ ما سيكتبه عنه النقاد بعد رحيله لكنه تراجع فى آخر لحظة. وغيرها من الاسرار والمعلومات التي يضمها الكتاب ويقول الكاتب محمد توفيق في سطور كتابه عن أحمد رجب :
أنه لا يحب أن يذكر تاريخ ميلاده، فهو شاب حتى لو بلغ عمره ألف عام!
فلا تضع له قانونا، فهو رجل له قانونه الخاص، وليس أمامك إلا أن تعترف بعبقريته؛ لأنه ليس كسائر الرجال، تجده وقورًا، ووفيا، وصادقا، ويبعث على السرور، لكنه يميل إلى العزلة، ويفضل أن يراقب الأحداث عن بعد.
فقد ولد ليكون جاهزا للتحدي، لا يخاف ولا يتراجع، ويدافع عن مبادئه مهما كانت العواقب، ولا يهادن، ولا يحاول أن يلبس قناعا، ولا أن يستعير صفات ليست له، ولا يرتاح لمعاشرة أهل الثروات لأنه عفوي وغير متكلف.
إنها صفات مواليد برج العقرب التى لا تنطبق إلا على شخص واحد فقط – كما يؤكد علماء الفلك– هو الكاتب الفذ أحمد رجب الذى لم أجد سوى ورقة وحيدة فى أرشيف دار أخبار اليوم تحمل بياناته الشخصية رغم أنه عاش أكثر من نصف قرن داخل هذه المؤسسة!
ورقة واحدة فقط قام بتوقيعها بخط يده فى عام 1959 عندما كان مديرا لتحرير مجلة الجيل، وكتب فيها اسمه الثلاثى المسجل فى شهادة الميلاد أحمد إبراهيم رجب من مواليد منطقة الرمل بمحافظة الإسكندرية.
تعلم فى مدرسة رياض باشا الابتدائية، وكان يحب حصة الموسيقى ويكره علم الحساب وبسببه قضى طفولة سعيدة جدا كلها ضرب في ضرب -على حد تعبيره- وعندما كان المدرس الخصوصي يعلن أنه توصل إلى حل مسألة جبر، كانت أمه تطلق الزغاريد وتوزع الشربات على الجيران.
فى الوقت نفسه حاول أن يتعلم الموسيقى، فالتحق بمعهد جيوفانى ليتعلم آلة الكمان التى أحبها كثيرا، وبعد الدرس الرابع اشترط عليه الخواجة "جيوفانى" أن يشترى كمنجة إذا أراد الاستمرار فى دروس المعهد
أحب الكمنجة ولكنها لم تحبه
ويروى أحمد رجب ذكرياته فى هذه الأيام بقوله: كافحت طويلا من أجل اقتناء الكمنجة، إلا أن الرأي استقر على أن تلك الكمنجة ودروسها سوف تشغلني عن المذاكرة،وعن الدروس الخصوصية فى الجبر، وانتهت معركتي من اجل الكمنجة بوعد أكيد بأنني إذا نجحت فى الجبر آخر السنة فسوف تكون الكمنجة هدية النجاح، فبدأت جهودا أسطورية لكى أنجح فى الجبر، ورحت أسهر الليالى فى طلب المعالى، وطلب الكمنجة، عاكفا الليل بطوله فى محاولات مستميتة لحل المقادير الجبرية، حتى أصبحت –لكثرة الجهد- نحيلا شاحبا، كل شىء، فى جسمى صار رفيعا إلا مخى، فقد ظل تخينا لا يستطيع الجبر اقتحامه، فضاعفت الجهد لأحقق – فى النهاية- تفوقا رائعا إذ تمكنت من الحصول على أعلى درجة للنجاح فى الجبر أيامها: 4 على 20
وجاءت الكمنجة التى أحبها أحمد رجب لكنها لم تحبه!
فقد ظل طالبا فى معهد الموسيقى لمدة ثلاث سنوات إلى أن جاء له صاحب المعهد "جيوفانى" ذاته، وقال له: يا ابني أنت معنا منذ سنوات، ولم تتعلم شيئا، ولن تتعلم شيئا، لأن يديك ليست ميكانيكية.
لكن أحمد رجب لم يقتنع بما قاله جيوفانى إلا بعد سنوات طويلة، يتذكرها بقوله: تأكدت من صدق "جيوفانى" عندما كنت أحاول مساعدة زوجتى فى المطبخ فكنت أقوم "بتكسير" الأطباق بسبب عدم مرونة يدي فى الحركة! ومن هنا أصبحت مبهورا بأى شخص يعزف على آلة الكمان لأنها كانت أمنية حياتي التى لم استطع تحقيقها.
لم تكن عقدة الكمنجة وحدها التى تطارد أحمد رجب ففى سنوات الطفولة تعرض لواقعة جعلته يكره اليوم الذى يذهب فيه إلى الحلاق! ويروى تفاصيلها بقوله: ذهبت أحلق شعرى وأنا فى المدرسة الابتدائية فدخل رجل صالون الحلاقة وفى يده ابنه فى مثل عمرى، فقص الرجل شعره وحلق ذقنه، وجاء الدور على الولد الصغير فأجلسه الحلاق على منضدة ليقص شعره بينما ذهب الأب إلى الحانوت المجاور بعد أن نفدت سجائره، وجن جنون الأسطى رشوان عندما اكتشف أن الرجل ليس أبا الولد الصغير، وأنه اصطحبه من الطريق ليتركه رهينة عند الحلاق باعتباره ابنه ويفر دون أن يدفع الأجرة!
ولم يكتف الحلاق بضرب الولد المسكين الذى لا ذنب له، بل أمسك بى أنا أيضا وهو يصيح: وأنت كمان أبوك فين يا ولاد النصابين؟ ولم أدر فى مقاومتى أننى كسرت "قصرية" زرع فتحول الحلاق إلى القصرية المكسورة وتحولت أنا إلى الشارع أسابق الريح، ومن يومها أصبت بما يمكن أن يسمى ب" الحلاقة فوبيا"!
كان ذلك قبل أن يصل أحمد رجب إلى مدرسة "العباسية الثانوية" التى تخرج فيها توفيق الحكيم وعدد كبير من الوزراء والمسئولين وفى هذه المرحلة كان شديد الانبهار بنابليون بونابرت، ومن أجله دخل الجمعية التاريخية ليتعمق فى دراسته، ومن أجله أيضا شاهد كل فيلم سينمائى يروى قصة حياته أو جانبا منها.
وحصل أحمد رجب على شهادة التوجيهية، والتحق بكلية الحقوق جامعة الإسكندرية، وهناك ظهرت مواهبه وقدراته كصحفى فذ وساخر مبدع، فقد كان يقوم بعمل مجلة "أخبار الجامعة" وكانت ناجحة للغاية، فقد وصل توزيعها إلى 7 آلاف نسخة، وهو رقم كان يتعدى اشهر المجلات المصرية أيامها - ويتعدى توزيع
بعض صحف ومجلات هذه الأيام- وبسبب هذه المجلة تمت إحالته لمجلس التأديب
مرتين إحداها كانت بسبب موضوع كان ينتقد فيه عميد الكلية بأسلوب ساخر، ويومها أنقذه الدكتور حسن أبوالسعود - أستاذ القانون الجنائي وعم الفنانة صفاء أبوالسعود- حيث كان ضمن لجنة التحقيق، وقال: "لازم نعلم الشباب الديمقراطية فى الجامعة" وتركه دون أن يتخذ أى إجراء ضده.
ويعلق أحمد رجب على تلك الواقعة قائلا: "شفت الجامعة زمان كانت عاملة إزاى؟!"
ولم يكن الدكتور حسن وحده الذى يتعامل بهذه الطريقة الراقية التى اختفت من جامعاتنا، لكن كان هناك أساتذة كثيرون يؤمنون بنفس الأسلوب فى التعليم، منهم الشيخ فرج السنهورى - أستاذ الشريعة- كان رجلا مستنيرا عظيما واسع الأفق -على حد تعبير أحمد رجب- الذى يروى ذكرياته معه قائلا: أذكر أننى كتبت عنه مرة حديثا بعنوان "حديث لم يحدث" أى حديث من وحى خيالي، وسألته ما رأيك فيما يقال من أن قاضيا فى الجنة وقاضيان فى النار؟ (وكان من قبل رئيسا للمحكمة الشرعية العليا)، فرد فضيلته: صحيح، هذا صحيح، القاضى الذى فى الجنة هو القاضى الشرعى، أما القاضيان اللذان فى النار، فواحد "أهلى" والثانى "مختلط"(ويقصد به نادى الزمالك).. وكانت المحاكم المختلطة موجودة أيامها.
فى الجامعة التقى أحمد رجب، حسن شاه، وكانت طالبة فى الفرقة الأولى بينما كان هو فى الفرقة الثالثة، ووقتها كان واحدا من أشهر الطلاب وأكثرهم نشاطا، وتتذكر حسن شاه تلك الأيام بقولها: قابلت أحمد رجب لأول مرة عندما كان مسئولا عن الصحافة بالكلية، وكانت علامات النبوغ واضحة عليه، فكان يعرف من أول يوم فى كلية الحقوق انه سيصبح صحفيا، فكان يردد "إن ما يجرى فى عروقى ليس دماء وإنما حبر المطابع"! واستمرت علاقتى به وكان السبب فى اتجاهى للعمل فى الصحافة رغم أننى كنت أتمنى أن أصبح محامية.
لم تكن الكاتبة حسن شاه - التى كانت سببا فى تغيير قانون الأحوال الشخصية - الوحيدة من بين أصدقاء الجامعة الذين استمرت علاقة احمد رجب بهم، فهناك الدكتور على السمان والكاتب الصحفى عبد الفتاح الديب الذي اشترك معه فى فريق التمثيل، لكنه ترك التمثيل بعد أن اندمج "الديب"على المسرح متقلدا سيفه وهو يؤدى دور لويس الحادى عشر وأحمد رجب يلعب دور القسيس. والديب يقول له: فإذا سكن الليل يا أبتاه.. خيل إلىّ أننى أسبح فى بحيرة من الدماء
لكن أحمد رجب نسى الحوار وأخذ يرتجل قائلا:
هل قلت يا بنى أنه يخيل إليك أنت أنك تسبح فى بحر من الدماء؟
فرد الديب: نعم يا أبتاه
فقال رجب: وما لون هذه الدماء بالضبط يا بنى هل هى قرمزية أم وردية أم تميل إلى السواد؟
فهمس الديب " إيه ده؟.. الله يخرب بيتك" فرد عليه " أصلى نسيت الكلام ثم ارتفع صوت أحمد رجب فجأة: تكلم يا بنى ما لون هذه الدماء التى تراها فى المساء ونجوم الليل تنتشر.. فضحك الجمهور، وتقرر فصل أحمد رجب من فريق التمثيل.، فترك هواياته الفنية وقرر أن يتفرغ للعمل فى بلاط صاحبة الجلالة.
تخرج أحمد رجب فى كلية الحقوق عام 1951 قبل عام واحد من قيام ثورة يوليو، ليصبح محاميا للشعب المصرى بكل طوائفه، وليدافع عن البسطاء الذين لا يستطيعون الذهاب إلى ساحة القضاء، ولا يملكون الأموال التى تجعلهم يوكلون من يدافع عنهم، ويتحدث بلسانهم أمام المسئولين، فالتحق بدار أخبار اليوم وعمل مراسلا لمجلة الجيل فى الإسكندرية مع صديقه محسن محمد (رئيس تحرير الجمهورية فيما بعد)، وفى هذا التوقيت كانت الإسكندرية مدينة هادئة تنام فى السابعة مساء – على حد تعبير أحمد رجب- لذلك كان يبذل مجهودا كبيرا من أجل أن تصلح موضوعاته للنشر فى مجلة توزع فى كل المحافظات.
خطه الجميل لفت نظر موسي صبري
ونجح فيما أراد، وتفوق، ولفت الانتباه إليه، وذلك عندما ذهب موسى صبرى إلى مكتب أخبار اليوم بالإسكندرية فى صيف عام 1951 ويروى "صبرى" تفاصيل ما جرى بقوله: لفت نظري وأنا أراجع الأخبار المرسلة إلى القاهرة، أخبار مكتوبة بخط جميل، وبالحبر البنفسجي، وكلها أخبار جيدة عن الجامعة.. وسألت عن كاتب هذه الأخبار، فقدموا لي شابا متخرجا فى كلية الحقوق جامعة الإسكندرية وقدم هو لي مجلة كان يصدرها فى الجامعة، وبهرني أسلوبه الكاريكاتوري الساخر، وعندما عدت إلى القاهرة بعد رحلة الصيف، طلبت من على أمين استدعاء هذا الشاب اللامع إلى القاهرة ليعمل فى مجلة الجيل.. وكان هذا الشاب، هو أحمد رجب الذى أصبح ألمع كاتب ساخر فى مصر!
وبالفعل قرر التوءم مصطفى وعلى أمين نقله من مكتب الإسكندرية للعمل فى القاهرة، ليبدأ أولى خطواته نحو عالم الكبار.
صعد أحمد رجب القطار المتجه إلى القاهرة، وذهب إلى 6 شارع الصحافة ليبدأ رحلة البحث عن المتاعب داخل دار أخبار اليوم فى عام الثورة.
فى البداية كان يحرر بابا ثابتا بعنوان "هذه الجريمة لغز.. فتعالوا نحله معا"، وكان عبارة عن عرض وتحليل لإحدى الجرائم التى حدثت خلال الأسبوع ولم يستدل على مرتكبها، وظل يحرر هذا الباب لثلاث سنوات، انتقل بعدها لكتابة باب آخر بعنوان "أخبار الأسبوع" وكان عبارة عن رصد وتعليق على الأحداث التى وقعت خلال الأسبوع، لكن بعد فترة من كتابته المنتظمة فى هذا الباب قام بتغيير طريقة تقديمه، وأصبح يكتب فيه عن المشاهير، فكتب فى هذا الباب عن عدد كبير من نجوم الفن والفكر منهم "توفيق الحكيم"و "يحيى حقى" و"صلاح جاهين" و"صلاح أبوسيف".
فى هذا التوقيت جاء إلى احمد رجب أحد العاملين بالإعلانات وقال له "عندى قصة حلوة ينفع تنشرها" وأخرج له صورة أحد أقاربه، وقال له: هذا الرجل يعمل مقرئا وهناك سيدة سورية تحبه وتطارده، وبالفعل أعجب أحمد رجب بالقصة واطلق على المقرئ الشاب لقب "الشيخ براندوا" ونشر صورته التى تشبه الممثل العالمى "مارلون براندوا" واشتهر المقرئ وارتفع اجره من 30 جنيه إلى 300 جنيه وصار واحدا من علامات قراءة القرآن فى مصر إنه الشيخ عبد الباسط عبد الصمد لكن بعد أن وصل الشيخ إلى قمة مجده طلب من الرئيس جمال عبد الناصر أن يقرر وقف نشر هذه الحلقات وبالفعل تم وقفها.
لكن أطرف الأبواب التى كان يحررها احمد رجب فى هذه الفترة هو باب "بختك هذا الأسبوع" الذى يروى قصته قائلا: أعترف أنني لا أفهم شيئا مطلقا في علم الفلك، فكل معلوماتي عن هذا العلم تنحصر في أن بالقاهرة شارعا اسمه شارع الفلكي. كذلك لا أفهم شيئا في النجوم والتنجيم وقراءة الطالع غير أن هذا لا يمنع من الاعتراف بأنني اشتغلت منجما ذات يوم، إذ كنت أحرر باب بختك هذا الأسبوع، وفي كتابة باب البخت لم أكن أشتغل بالتنجيم بقدر ما كنت أحاول بث التفاؤل في نفوس قراء البخت، فما دامت المسألة كذب المنجمون ولو صدقوا، فما الذي يمنعني أن أقول لمواليد برج العقرب: مفاجأة سارة في انتظارك، وأن أقول لمواليد برج الحوت: سعادة تامة في محيط الأسرة، وأن أبشر مواليد برج الميزان بفلوس زي الرز.
وصحيح أن المفاجأة السارة لواحد عقربي – من مواليد العقرب – قد تكون إيقافه عن العمل وإحالته إلى النيابة الإدارية، وبالنسبة لواحد حوتي قد تكون السعادة التامة في محيط الأسرة هي خناقة لرب السما تنتهي بالعبارة المأثورة: والله مانا قاعدة لك في البيت، وفي الوقت الذي أبشر فيه واحد ميزاني البرج بفلوس زي الرز، قد يكون هذا الميزاني دايخ على جنيه سلف لأول الشهر.
ولكنه لا يمنع من أن أعطي القارئ الأمل الحلو، وأن أملأ صدره بالتفاؤل، فما دام المنجمون كذابين ولو صدقوا، وما دامت المسألة مفترضاً فيها الكذب في النهاية، أليس هذا إذن أفضل من أن أقول للقارئ: مصيبة محترمة في انتظارك أو ضائقة مالية تنتهي بفضيحتك والحجز على هدومك؟، وكانت هذه تعليمات على أمين: بث التفاؤل فى كتابة البخت.
موهبة أحمد رجب كانت أكبر من حصرها فى باب بعينه، لذلك تدرج فى المناصب حتى وصل إلى منصب نائب رئيس تحرير مجلة الجيل - وكان أنيس منصور يتولى منصب رئيس التحرير- وفى الوقت نفسه تم اختياره ليكون مديرا لتحرير مجلة "هى" التابعة لدار أخبار اليوم، وكان مشهودا له بالكفاءة والحزم.
فى هذا التوقيت كان مسرح اللا معقول يسيطر على العقول، وكان مريدوه أغلبهم من نجوم المجتمع وكبار النقاد الذين يرون فيه النموذج لما يجب أن يكون عليه المسرح، وقتها قرر أحمد رجب أن يثبت أنه لا يوجد شىء اسمه مسرح اللامعقول، وأن "اللا معقول"هو ما يفعله النقاد الذين يروجون لهذا المسرح!
الهواء الأسود .. أول خبطة صحفية
وبالفعل، وضع الخطة لأكبر خبطة صحفية عرفتها مصر، وقام بتنفيذها فى مجلة الكواكب - التى انتقل للعمل فيها بصحبة مصطفى وعلى أمين - فى مارس 1963عندما نشر مسرحية أطلق عليها "الهواء الأسود" وقال إنها مسرحية لم تنشر من قبل للكاتب المسرحى السويسرى الشهير "فردريك دورنيمات" ودعا كبار النقاد للتعليق عليها باعتبارها إحدى روائع مسرح "اللا معقول"!
وبالفعل علق عليها النقاد وأشادوا بروعتها، وبعبقرية مؤلفها، وبالدلالات المهمة التى تحملها وبعد أن انتهت تعليقاتهم خرج عليهم أحمد رجب ليؤكد أن ما يفعله هؤلاء النقاد هو اللا معقول ذاته!، وكشف أنه هو مؤلف هذه المسرحية العبثية قائلا: أنا الموقع أدناه أحمد رجب أقر واعترف بأننى كاتب مسرحية (الهواء الأسود) وأننى مؤلفها (الأوحد).. وأن الخواجة فردريك دورنيمات الكاتب المسرحى السويسرى لا علاقة له إطلاقاً بهذه المسرحية.. وأنه ليس له أى إنتاج مسرحى بهذا الأسم!
وأنا الموقع أدناه أحمد بن رجب أقر وأعترف أننى كتبت هذه المسرحية فى مكتبى بالغرفة رقم 406 بمبنى دار الهلال بالسيدة زينب.. وأن هذه المسرحية لم تكتب إطلاقا فى لوزان ولا جنيف ولا زيورخ، وأننى كنت أكتب هذه المسرحية الخالدة وأنا مصاب بنوبة ضحك شديدة .. فلست أدرى لماذا كان يضحكنى جداً اسم (شتاتلر ) كلما كتبته .. ولا أعرف لماذا كنت افطس على نفسى من الضحك كلما كتبت عبارة حوار لا معنى لها .. أو كلما خط قلمى جملة منطلقة على السجية بلا أى تفكير ولا تدبير !
وفى أثناء انهماكى فى كتابة هذه المسرحية الخالدة .. دخل مكتبى الزميل حلمى سلام وسألنى ماذا اكتب، فقلت له : مسرحية لمسرح اللا معقول ، وتناول حلمى الأوراق التى كتبتها وراح يقرأ وهو فطسان من الضحك !
والظاهرة التى هى فى منتهى العجب أن كتابة هذه المسرحية كلها لم تستغرق أكثر من ساعة ونصف ساعة !
فقد كنت اكتبها بلا أى تفكير ولا منطق .. الأمر الذى سهل مهمتى كثيرا! فمادام مسرح اللا معقول لا يحكمه أى منطق أو مألوف .. فمش ضرورى منطق ولا مألوف .
وعندما انتهيت من كتابتها جلست أهرش رأسى بحثاً عن عنوان خطير للمسرحية الخالدة .. وفى هذه الاثناء دخل مكتبى صديقى مرسى الشافعى مدير تحرير (المصور ).. وإذا به يقرؤها ثم يكاد يقع من الضحك، واقترح علىَّ مرسى الشافعى أن أسمى المسرحية (الهواء الأسود ).. فكتبت الاسم فوراً لأنه فعلاً اسم يحمل رائحة اللا معقول : وقد تحيرت فى توقيع المسرحية هل أوقعها باسم أحمد فريدريك أم أحمد يونسكو أم أحمد بيكيت .. أم رجب دورنيمات .. وانتهى الأمر بموقيعها باسم (فريدريك دورنيمات ).. باعتبار أن إنتاجه لم يصل إلينا بعد، وممكن الحكاية تفوت !
وأضاف قوله: وقبل أن أدفع بالمسرحية الخالدة إلى يد سعد الدين توفيق رئيس تحرير الكواكب .. دفعت بها إلى زوجتي !
فزوجتنا ساخطة أشد السخط على مسرح اللا معقول .. وإذا أبدت سخطها على ما كتبت .. على معنى ذلك أن المسرحية قد نجحت فعلاً !
قلت لها : اقرئى يا زوجتنا هذه المسرحية وقولى لى رأيك ! فهذا الإنتاج العظيم من تأليفنا ..!
وعندما انتهت زوجتى من قراءتها ضربت صدرها بيدها وهى تقول لي : أنت بتسكر من ورايا يا راجل؟ ايه الكلام الفاضى ده اللى مالوش لا رأس ولا رجلين !
ده كلام سكرانين ومساطيل،دى الرواية دى زى ما يكون حلم مزعج يشوفه واحد فى منامه بعد ما يتعشى بحلة مسقعة .
وقالت لى زوجتى إننى إذا كنت مصمماً على الكتابة كده على طول، فأحسن افتح لى دكان فول وطعمية .
وكان معنى كلام زوجتى هذا أن (الهواء الأسود ) قد نجحت كمسرحية لمسرح اللا معقول .. وأن النقاد سوف يشبعون مدحاً وتقريظاً لها !
وأعطيت المسرحية بمنتهى الاطمئنان إلى سعد الدين توفيق .. وانتهى دورى عند هذا الحد والله العظيم !
واختتم كلامه قائلا: والآن .. شكراً لهؤلاء النقاد على مدحى وتقريظي .. طبعاً هذا شرف عظيم أن يجمعوا على أننى مؤلف مسرحى عالمى خطير الشأن وبعد تعليقهم هذا هناك أمر من اثنين : إما أننى مؤلف مسرحى خطير فعلاً برغم أننى لم اكتب للمسرح أى إنتاج حتى الآن ، وأما أنهم يرجعون فى كلامهم بعد أن عرفوا الحقيقة وهى أن مؤلف (الهواء الأسود ) ليس خواجة وإنما هو أحمد بن رجب ، ولذلك اعتبرت نفسى مؤلفاً مسرحياً عالمياَ أضع اسمى بكل فخر إلى جوار الخواجات : بيكيت ويونسكو وأوزبورن .. وكوكتو .. ومن له اعتراض من النقاد فليتقدم .
بعد أن كشف أحمد رجب عن فضيحة الموسم الثقافية، التى أنهت أسطورة نقاد "اللا معقول"، علق طه حسين بقوله: إنها عقدة الخواجة فعلاً.
أما عباس العقاد فقال: وفق الكاتب الصحفى أحمد رجب إلى حملة ناجحة على أسلوب (النقد اليدوي) منذ أيام فلفق رواية خنفشارية باسم (الهواء الأسود ) ونسبها إلى مؤلف خنفشارى فى إحدى الديار الأوروبية فاهتزت لها أعطاف النقاد المحترمين إعجاباً وطرباً وارتفعوا بها إلى قمم العبقرية فناً وأدباً وقارنوا بينها وبين بدائع المنثور والمنظوم التى فاضت بها قريحة المؤلف المعدوم، وهنأوا العربية بهذه التحفة النادرة من السحر المفهوم وغير المفهوم، ولو أمهلهم الصحفى الماكر أسبوعاً واحداً لاحتدمت بينهم المعارك، ودارت بينهم الدوائر فيما هو أفضل من تلك الفصول والمناظر.
وأضاف بقوله: هؤلاء النقاد المحترمون أولى من ينبغى أن يساق إلي (محكمة التزييف ) لحماية هذه الأمة من وبال دعواهم.
أما توفيق الحكيم فقد دافع عن أحمد رجب، ورد على النقاد الذين هاجموه قائلا: هذا "مقلب ظريف ولطيف" بينما قال الأديب الكبير إحسان عبد القدوس: " كل ما نرجوه من السادة النقاد أن يصروا على رأيهم الخطأ .. وأن يرفعوا أحمد رجب إلى مرتبة الكتاب العالميين "، اتفق معه الشاعر الكبير صلاح عبد الصبور، وأضاف قوله: إن هذا أعظم عمل نقدى للنقاد قامت به الصحافة طوال السنوات الأخيرة !
أما الشاعر أحمد عبدالمعطى حجازي فعلق قائلا: إن وقوع أربعة من النقاد المعروفين فى هذا الخطأ الفادح يجب أن ينبهنا إلى أن الإحساس بالمسئولية واحترام الثقافة شيئان نفتقر إليهما فى كثير من نشاطنا ، بينما علق الكاتب الصحفى موسى صبري على هذه الفضيحة الثقافية قائلا: إن درجة الأستاذية الفخرية التى منحها البارودى- أحد النقاد الأربعة- لأحمد رجب هى أول درجة من نوعها يجود بها الناقد الكبير خلال عشر سنوات ضرب فيها جميع كتاب المسرح بالشلاليت وكوى ظهورهم بالكرابيج وهو يصرخ بأعلى صوته (تعلموا يا جهلة .. اقرأوا ارسطو يا حمر .. افهموا الدراما يا بجم )، ثم فجأة هدأت أعصاب البارودى عندما قرأ مسرحية عبقرية اسمها (الهواء الأسود ) لكاتب عبقرى اسمه أحمد رجب .. كتبها لمجرد التريقة !
لكن الغريب أن أحمد رجب فكر فى عمل خبطة صحفية أخرى لا تقل قوة عن فضيحة "الهواء الأسود"، وهى أنه اتفق مع فنان كبير صاحب موهبة عظيمة لكنه كان يعانى من قلة العمل أن يكتب خبر نعيه وهو حى يرزق! ويوضح فيه أن جنازته قد شيعت من بلدته فى الصعيد، ثم يختفى لمدة شهرين على أن تتحمل دار الهلال مصاريفه خلال تلك الفترة، لكن بعد أن تم ترتيب كل شىء تراجع الفنان لتشاؤمه من الفكرة.
ويعلق أحمد رجب على عدم اكتمال هذه الفكرة قائلا: ضاعت عليه فرصة قراءة وسماع برامج تمجيده والإشادة بعبقريته، فقد كنت أنوى أن أظهر به بعد أن تكتب عنه كل الصحف ويتحدث عنه المخرجون والنقاد وأقول لهم "طيب الفنان أهه.. طلع عايش.. ياريت بقى تشغلوه عشان هو مش لاقى ياكل"
لسوء حظنا لم تكتمل هذه الفكرة الفذة، لكن "الهواء الأسود" كانت كافيه لترفع من أسهم احمد رجب المهنية وتجعله من نجوم الصف الأول فى بلاط صاحبة الجلالة، فبعد أن كان يكتب باب "أخبار الأسبوع" فى مجلة "الجيل" أصبح يكتب أكثر من باب فى أكثر من مجلة، منها باب "س وج" فى مجلة "آخر ساعة"، وهو عبارة عن سؤال يتوجه به لإحدى الشخصيات العامة ويجيب عنه بطريقة ساخرة.
وبعد "س وج" ابتكر بابا آخر، هو "حديث لم يحدث" وهو عبارة عن حديث مع مسئول كبير أو نجم شهير فى مجاله، ويدير فى هذا الحديث الذى لم يحدث مع المسئول عن كل ما يدور فى ذهن الناس ويجيب بطريقة ساخرة عن الأسئلة التى طرحها، لكن بعد فترة توقف "حديث لم يحدث" وحل محله مقالا ساخرا فى الصفحة الأخيرة دون أن يكون له اسم ثابت، وكان من أوائل المقالات التى كتبها فى هذا المكان مقال بديع بعنوان "مع السلامة يا شباب" يقول فيه: شىء لطيف جدا أن يكون الإنسان عنده شباب، وعنده صحة، وعنده علبة كبريت بتولع!
عن الصحة فالحمد لله، عن الكبريت فمازلت أعيش على أمل أن أشترى ذات يوم علبة تولع، أما الشباب فلا أملك – فى سن الأربعين- إلا أن أستعد لكى ألوح له بيدى مودعا: مع ألف سلامة!
ولست نادما على أن الشباب يستعد للرحيل، ولست أيضا كوالدى جليل البندراى الذى يتمحك فى الشباب، فيحاول أن يحتفظ بشبابه متبعا أربع قواعد: النوم كفاية، والأكل الصحى، ولعب الرياضة، والكذب على أى واحد يسأله سنك كام!
ولقد سئلت مرة فى برنامج إذاعى، هل تتمنى أن تعود إلى أيام الصبا والشباب،
فرفضت هذه الأمنية، وقلت: أعتقد أن الشعر الأبيض الذى غطى رأسى هو شىء مفيد جدا، إذ يوحى للناظرين- كذبا- بأننى فى منتهى العقل والحكمة، تماما كما توحى النظارة الطبية فوق عينى بأننى مثقف، وممكن أتكلم كلاما لا يفهمه أى حد ولا حتى أنا!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.