في دراسة رصينة شاملة استوعبت ملاحقة نشوء الأفكار والأحداث، والتقاط منظوماتها الدلالية، إبرازًا لخصوصيتها، وبجهد لا يكف عن الانتقالات عبر الأزمنة وأحداثها، تحليلاً وشروحا واستيثاقًا، أصدر الكاتب البريطاني "أناتول ليفن" عام 2004 – بعد الهجمات الإرهابية في الحادي عشر من سبتمبر- كتابه "أمريكا بين الحق والباطل- تشريح القومية الأمريكية"، متتبعًا تاريخ تلك الروح المزدوجة للقومية الأمريكية، عارضا السجال الذي أظهر الاستقطاب المجتمعي بينهما، بوصفهما يتجليان كممارسة مجتمعية لوجهين متضادين للقومية الأمريكية، يسكن كل منهما تركيبة لتصورات وخصال مختلفة تشكل السلوكيات والسياسات الأمريكية، ويتبدى الوجه الأول منهما في قومية أمريكية نابعة من "العقيدة الأمريكية"، التي تتأسس على مجتمع ينتظم في قومية مدنية بقناعاتها الديمقراطية والفردانية، وسيادة القانون والدستور الأمريكي، أما الوجه الثاني الذي يسميه المؤلف "الأطروحة المضادة للقومية الأمريكية"، فيتجلى في قومية تمثل السكان البيض «المستوطنين» من الأنجلو سكسون، والأسكتلنديين، والأيرلنديين، الذين يحاولون استعادة ماض قومي، يرفضون تجاوزه بوصفه حضارة صنعها البيض المسيحيون، وغيابها يستدعي التهديد المستقبلي لسيطرتهم وامتيازاتهم؛ إذ يصبحون تحت تهديد الأقليات العرقية من المهاجرين؛ لذا ظل يسكنهم تجاه الأجانب تعصب شوفيني لا يبرحهم، ويتقهقر بهم حضاريًا إلى العنصرية وكراهية الآخر. يؤكد المؤلف أن الممارسات الأمريكية، بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر، قد عرضتها لمخاطر متزايدة، ويطرح متكأً لا يناله التنوير، يكشف السبب الأكثر أهمية في تلك المخاطر، ويتبدى في الطابع الخاص للقومية الأمريكية، بعناصرها المعقدة والمتعددة سياسيًا وثقافيًا، كتزاوج الأنانية القومية العنيفة، والجهل بالعالم الخارجي، والتعصب والكراهية للآخر، حيث سمحت هذه القومية لقتال فالت بامتداد كارثي، حربًا على الإرهاب، بالتجاوز للأهداف المشروعة، كما أدت تلك القومية الأمريكية بتنطعها دورًا مركزيًا في إقصاء أمريكا عن الاستفادة من اللحظة الفريدة، التي تلت سقوط الشيوعية لدعم الاستقرار العالمي، تخلصًا من الفقر المتمادي، والأمراض، والعجز الاجتماعي، لكن رهانها الأكبر كان توجيه أمريكا نحو السعي إلى إيجاد أعداء جدد، وكذلك تبنيها تغذية السياسات المحلية الأمريكية بمشاعر التعصب الشوفينية وافتراضات تفوقها. ويعترف الكاتب بأنه من المثير للكآبة أن ترتبط تلك الطروحات في الولاياتالمتحدة، بطروحات مشابهة جدًا من طرف إسرائيل، حيث يطرح الكاتب تفسيرًا كاشفًا للخداع الذي يعيد دمج ثنائية القومية الأمريكية، انطلاقًا من "أن سياسة الولاياتالمتحدة في الشرق الأوسط، هي محاولة الجمع بين الترويج للقيم وقواعد السلوك بين العرب، المبنية على أساس العقيدة الأمريكية، والقومية المدنية الأمريكية، وعلى التوازي ممارستها دعم إسرائيل التي تستند سياساتها إلى الأطروحة المضادة للقومية الأمريكية، بهيمنة القومية العرقية الدينية". ترى هل يعني ذلك ممارسة تقسيم العالم وتقاسمه؟ ويعاود الكاتب التأكيد «أن الولاياتالمتحدة في الشرق الأوسط مقيدة بشكل دائم، وبلا أمل، إذ ارتباطها بإسرائيل يورطها في صراع مع القومية العربية، والتطرف، وهو ما يبدو أنه سيستمر في المستقبل المنظور". صحيح أن الكاتب أشار إلى حقيقة تستهدف قطع الطريق أمام إحلال سلام عادل ومستقر بين إسرائيل والفلسطينيين، والصحيح أيضًا أنه بعد كشفها لم يتبد أي استبراء من فاعليها، والصحيح كذلك أنها تفضح تغلغل أساليب السيطرة داخل الكيانات الرسمية، إذ هذه الحقيقة قد تضمنتها ورقة بعنوان "الفرصة الطيبة"، أعدها عام 1996 عدد ممن أصبحوا لاحقًا من إدارة "بوش"، ومصدرها في اللوبي الإسرائيلي ومؤسسات الولاياتالمتحدة، وقد تضمنت الاستراتيجية المقترحة ل "دمقرطة" الشرق الأوسط، مع مقترح بأن تغزو الولاياتالمتحدةالعراق لإعادة المملكة الهاشمية إليه. ألا تسقط هذه الوثيقة زيف كل تاريخ الأوهام التي نسجت عن الرغبة في السلام؟ يروي الكاتب أنه عام 2002، شارك في مناقشة بوزارة الخارجية الأمريكية، حول موضوع الترويج "للديمقراطية والحرية"، وبالطبع فإن المعيار في تلك المناقشات لا يتحقق إلا بمدى ما تكشف عنه الشحنة الفكرية التي تثيرها الحقائق والأدلة في محيطها، وفي سياق الموضوع المطروح، التزم أحد المناقشين بطرح الأدلة الدامغة التي أفصحت عن قوة معارضة العرب سياسة الولاياتالمتحدة، تجاه إسرائيل والعراق؛ فإذ بأحد الحاضرين من أنصار إسرائيل في الولاياتالمتحدة، ومن أقوى ناقدي الموقف العربي، تصدى ليؤكد أن ما طرح غير ذي أهمية؛ إذ لدى الولاياتالمتحدة من القوة ما يكفي لسحق أي معارضة عربية، سواء من الأنظمة أو الشعوب، ثم ردد مقولة الإمبراطور-«كاليجولا»: "ليكرهونا، ما داموا يخشوننا". تراه يؤكد تسيد منطق هنري كيسنجر "بأن أمريكا إن كانت لا تريد لهيمنتها أن تتداعى، فعليها التعبير عن قوتها ونفوذها إلى أقصى حد"؟ هل يعني ذلك أن الاقتدار بالقوة يولد الخشية، التي تلغي كل طاقات الجذب للحقيقة، بوصفها قوة اجتماعية ضد الاحتيال وسرقة حقوق الآخرين، رغم أن هناك صراعًا يوميًا ضاجًا بالإصرار أن يلقي خارج التاريخ بمقولة "كاليجولا"، التي تغتصب الحقيقة، دفاعًا عن تلك الحقيقة دون يأس من بلوغها؟ لا خلاف المجهول ينتظر حينه من تطور المعرفة، لكن المؤكد أيضًا أن الرؤية الاستباقية الواعية، وسيلة الكشف عن حقيقة ما يتراءى أمامنا. لقد أكد الكاتب أنه في أواسط عام 2004، تقلصت أكثر طموحات إدارة "بوش" جنونًا؛ وذلك نتيجة الاضطراب العام حول ما تلا أحداث العراق، وأيضًا نتيجة العقلانية الأساسية في القسم الأكبر من المؤسسة الأمريكية؛ لذا تبدى لدى الكاتب مجال كبير للأمل أن تؤدي آلية التصحيح الذاتي دورها، لكن سرعان ما تراجع الكاتب معلنًا، أن ثمة أرضية للقلق من فشل الآلية في التصحيح الذاتي مستقبلاً، وأن تنجر أمريكا في اتجاه يزداد شوفينية. ويختتم "أناتول ليفن" كتابه بأنه "مع تقدم القرن الحادي والعشرين سوف تكون الأمة الأمريكية معرضة أكثر للعدوى بأمراض دولية شتى، وسوف تتفاقم إلى حد كبير بعض الخواص المعينة في القومية الأمريكية، وتذبذبها بين ازدواجيتها". ويعاود ليؤكد "أن الحصيلة الكارثية التي رسمت صورتها قابلة للتحاشي، لكن منع وقوعها يتطلب ليس الفكر وحده؛ بل الفعل الجاد من الطبقات السياسية، ففي الداخل لا بد من الحد من غلو الرأسمالية، وإعادة تشكيل الاقتصاد كي يخدم الشعب الأمريكي، وخارجيًا أن تقبل أمريكا صيغة التوافق" وليس فرض هيمنتها.