الشر لا تحكمه إلا قناعاته، يمارس الجذب والإبهار، ويهاجم ويداهم ويتجاوز كل المعلوم، قد يأتى مبرمجًا مبطنًا أو محجوبًا، لكن رهانه أن يتحاشى العقل ويناوره ولا يحاوره، ويطرح تزييفًا لأوهام واعتقادات للسيطرة على الاستحقاقات، التى ينظمها ويحميها المنطق والأخلاق؛ بل يتبدى الشر عنفًا ليفصل بين المعرفة والواقع، ليمنع عدالة الاستحقاق، حيث تغطى وجوه الشر أقنعة متعددة لمواجهة كل إقصاء، ليظل ماثلاً فاعلاً، تحميه ألاعيب المحرفين التى تمارس إعفاء الشر من مسئولياته كافة. صحيح أن انحسار مسئولية المواطن عن الشر الناتج من تقصيره وتجاهله له، ينفى عنه استحقاق المواطنة؛ بل كل اكتساب غيره، بوصف المواطنة نظامًا للعيش المشترك للأفراد والجماعات تكافلاً وتضامنًا، والصحيح كذلك أن ممارسة المواطن لمبادرات الحرية الإيجابية، دفاعًا عن استحقاقات الآخرين، هى ما يعزز المجتمع فى مواجهة الشر؛ إذ يمارس الشر وسائل تعجيز متعددة، تمسك بمفاتيح الاستحقاقات فى أشكالها المختلفة، ليسلب أصحابها اقتدارهم، حيث بالتعمية والتضليل يسلب الشر من ضحاياه حريتهم الحقيقية فى ممارسة حق الفهم، وبالتجويع ينهى الرغبة فى المعرفة، وباستبداد الجهل تموت فكرة المضاهاة بين البشر التى ترسخ مبدأ المساواة، ليصبح الطابع الإرغامى للشر هو الخيار الوحيد للبشر؛ لذا غدا الشر سائحًا بينهم. ترى كيف نواجهه؟ تأتى فعالية ممارسات المواطنين الشرفاء للمبادرات الإيجابية الحرة دفاعًا عن استحقاقات الآخرين المهانين، لتؤسس لهم إمكانية امتلاك قدرات ذاتية تمثل نقلة معرفية، فتضع حدًا للمعوقات، حتى يتخطى المهانون بوعيهم تاريخ امتهانهم، ويعد الكاتب الروسى ليف تولستوى ( 1830 -1910 ) نموذجًا لهؤلاء المواطنين الشرفاء الذين واجهوا بفعالية الشر دفاعًا عن الحق الإنساني؛ إذ كان مسكونًا بتغيير واقعه ومحيطه اجتماعيًا وفكريًا وأخلاقيًا، خلاصًا من متعارضات الواقع، فقد انتقلت إلى «تولستوي» ملكية أراض شاسعة وافرة الإنتاج، ومعها أيضًا عبيد من الفلاحين الذين يكدحون، كى يزداد هو ثراءً وليظلوا هم عبيدًا، لا يحصلون على ثمن مقابل عملهم وطاعتهم. لم يكتف «تولستوي» بقدرة الإبداع على الإشعاع بدلالته النهضوية، كمساحة لاشتغاله، حيث حالة الاستعصاء التى تبدت فى انتشار الجهل بالقراءة والكتابة والمعرفة لدى العبيد من حوله، شكلت ضغطًا إلى حد الاختناق الطوعى والإكراهى فحرمت العبيد من تغيير واقعهم، فوزًا بحرياتهم والتمتع بحقوقهم، فراح يبحث عن تحقيق جنة الاستحقاقات الإنسانية لهؤلاء العبيد، فمارس استنهاض مجتمعه من حصونه وجزره واعتقاداته العازلة، بنشر مقالاته الداعية إلى المساواة بين الناس لتنمية قابلية المتقبل لعدالة الاستحقاقات الإنسانية، لكن لأن حوامل تلك الاستحقاقات تتبدى فى تواصل أجيال متراكضة، من المستحقين المسلحين بالمعرفة والوعي، ويقين المقاومة العنيدة لأهدافهم، وليس تجليات الثرثرة؛ لذا وضع زتولستويس برنامجًا عقلانيًا، دون ربطه بتوجه المجتمع المتحقق بالفعل، متمثلاً فى العون الفكري، والأخلاقي، والتربوى للعبيد الفلاحين الأميين أصحاب الاستحقاقات الضائعة، فأسس فى البداية بمنزله مدرسة لتعليم الفلاحين العبيد وأولادهم، الذين يعملون فى ضيعته، ثم تبعها مدارس أخرى متعددة خارج منزله، إذ شهدت حياة زتولستويس سنوات طويلة من الانهماك تركيزًا على صناعة الظروف التى تحقق ضالته فى تعليم العبيد، وحراسة مكتسباتهم خارج المطروح الراهن فى مجتمعه الذى يحاصر المواطنة بالعبودية، ويعجز أمام تحديه الأعظم فى مواجهة عقلنة فكرة شراء البشر وامتلاكهم. انفتح «تولستوي» على التجوال الرحب خارج روسيا، لاستكشاف ما لم يبد له بعد فى طرق التعليم والتربية، فسافر إلى باريس، ولندن، وبرلين، ودريسدن، وانخرط فى زيارات إلى مدارس عامة متعددة، مطلعًا على مناهجها، ثم عاد بعتاد من الكتب عن التربية بلغات مختلفة، مستعينًا بها فى مشروعه. صحيح أنه فى عام 1861، كان أول وأهم الإصلاحات فى روسيا، تحرير العبيد البالغ عددهم 23 مليون روسي، حيث حصلوا على حريتهم ومواطنتهم كاملتين، والصحيح كذلك أن «تولستوى» كان قد أتم مشروع مدرسته الجديدة لتعليم الأطفال، التى جوهرها تعليم «المساواة والحرية». لقد استمر الرجل مهمومًا بمشروعه بإحلال ما ليس واقعًا بعد، فأصدر مجلة تابع فيها نشر المقالات عن المشكلات التربوية، ثم أصدر «كتب القراءة الأربعة» المخصصة للأطفال التى أوصت وزارة التعليم العام بإقرارها على المدارس الابتدائية، إذ من خلال أجناس أدبية متنوعة، تتغنى حكاياتها بقيم فورية الحق، وآمرية الواجب، وأمن العقل، وإدراك المسئولية عن الجسد، وغيرها من القيم. ولأنها تجيب عن سؤالنا المطروح سابقًا، فقد انتقينا من «الكتب الأربعة للقراءة» إحدى الصياغات التخيلية الأسطورية التى تدور بين بشر وحيوانات، عنوانها زمن أين يأتى الشر؟ إذ حسم حجب الشر لا يتأتى إلا بمعرفة من أين يأتي؟ فهى تحكى عن ناسك كان يعيش وحيدًا مع الحيوانات، خارج لعبة العنف، وباقتدار التفاهم، وبينما كان الناسك نائمًا، اجتمع غراب، وحمامة، وأيل، وأفعى وانخرطوا فى تساؤل: لم وجد الشر فى العالم؟ فقد أكد «الغراب» أن الشر ناجم عن الجوع، فيصف بهجته عندما يشبع، وعندما الجوع يحضر يقصيه عن العالم كله، ويلتهم طعامًا ممجوجًا سبق أن رفضه، ومن يحاول انتزاعه منه لن يقوي. فما أكثر من ماتوا جوعًا، إن الشر كل الشر ناجم عن الجوع. أقرت زالحمامةس أن الشر كله ناجم عن الحب، إذ المأساة فى العيش زوجين، حيث يحب الزوج زوجه، ولأنه لا راحة مع الحب، نرى الزوج دائمًا قلقًا عليها، وإن فارقته يهاجمه الوهم أنها اختطفت؛ فينطلق بحثًا عنها، وإن أصابها مكروه فبعدها لن يحلو بعينيه العيش، وإن لم تعد يعيش حياته بحثًا عنها والبكاء عليها. إذن فالشر ناجم عن الحب. أما «الأفعي» فترى أن الشر ناجم عن الخبث الجماعى الذى ينتج عنه تعتيم الحقائق، ومواراتها، وطمسها، فيتولد الخصام والغضب، والدفع إلى الثأر، عندئذ يبدأ الزحف إلى الضحية، والاستعداد للعض ولا يهدأ الهياج إلا إذا قاد إلى الهلاك؛ لذا فإن كل ما فى العالم من شر ناجم عن الخبث. ويأتى دور «الأيل» ليؤكد أن الشر ناجم عن الخوف؛ الذى إذا استولى على ضحية تظل تركض لا تعرف إلى أين، وقد تندفع فتسقط وتتحطم، وإذا نامت فبعين واحدة، والأذن تظل منتصبة يحركها الخوف، فلا راحة إذن؛ لذا فكل الشر ناجم عن الخوف. وينتهى الحكى بما يقوله الناس: إن كل الشر الموجود فى العالم ناجم عن الجسد، فعنه ينجم الجوع، والحب، والخبث، والخوف. هل لأن الجسد هو الحامل لأعماق الإنسان، أى لذاته التى قد تجرفه بأطماعها إلى عواصف السلوك، عندما يضع ذاته دائمًا على حدة ممن حوله، ليطلق عليهم شروره المستترة أو المعلنة؟