تعد الصحافة ظاهرة اجتماعية حضارية تواكب تطور المجتمعات وتعكس صورها مؤثرة ومتأثرة بحركة هذا التطور، وخلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر شهدت مصر تطورات سياسية وثقافية ، تمثلت في ظهور بعض المؤسسات السياسية التي لم تكن موجودة من قبل مما أدي إلي تعدد القوي السياسية في المجتمع وتوزيعا بين الخديو والنظارة المصرية ومجلس شوري النواب والأجانب . بدأ تاريخ الصحف المصرية الخالصة – كانت بدايات معرفة المصريين بالصحف في أثناء الحملة الفرنسية علي مصر -عندما أصدر محمد علي والي مصر أمرًا سنة 1827 بإصدار جريدة "الخديو" ولكن محمد علي لم يلبس أن لمس الحاجة إلي توسيع الاطلاع علي أعمال الحكومة فأمر بتوسيع نطاق الجريدة لتصبح جريدة "الوقائع المصرية" اعتبارًا من 1828 ، وظلت الصحف حتى عصر الخديو إسماعيل بمثابة نشرات رسمية بدون أن تعبر عن وجهات نظر مختلفة ، وكانت الصحف المصرية تعوض ما يحدث لديها من نقص في الأخبار الداخلية ، بنشر المزيد من الأخبار الخارجية المتعلقة بنفس النشاط ، فأكدت بذلك حرصها علي إحاطة القراء بقدر المستطاع علي مختلف الأنشطة داخل البلاد وخارجها . آمن الخديو إسماعيل أن الصحافة وسيلة هامة في الدعاية لأعماله ومساندته في تحقيق مشروعه بإقامة دولة عصرية متقدمة مستقلة عن الدولة العثمانية ، وكان جزء من الأموال والهدايا التي كان يقدمها للسلطان العثماني وحاشيته للحصول علي امتيازات تحقق له الاستقلال السياسي يذهب لصحف الأستانة في هذا الوقت ، بالإضافة إلي استخدامه نفس الأسلوب نفسه مع الصحف الأوروبية لتكون أداة ضغط علي الدولة العثمانية ولكن بعد الأزمة الاقتصادية انخفضت المنح للصحف إلي أن توقفت تماماً في نهايات حكمه . شهد عصر الخديو إسماعيل تعدد في أشكال الصحف منها الصحف الرسمية التي تصدرها الدولة وكان علي رأسها الوقائع المصرية ، والصحف الأهلية أو الخاصة التي يصدرها الأهالي المصريون والتي تنوعت بين صحف مؤيدة وأخري معارضة للدولة بالإضافة إلي الصحف والمجلات التي نشأت تعبيرًا عن النهضة الثقافية والعلمية . وتعددت الصحف في عصر الخديو إسماعيل لتعبر عن تطور المجتمع في هذا الوقت فعلي مستوي التعليم جاءت مجلة "روضة المدارس " التي أناشئها علي مبارك باشا عام 1870 وكان الهدف منها إحياء الآداب العربية ونشر المعرف الحديثة وكان من أبرز الكُتاب في تلك الفترة (علي باشا مبارك – محمود باشا الفلكي –محمد قدري باشا) وغيرهم من أعلام الفكر والثقافة ، وتعبيرًا عن تطور الطب جاءت مجلة "يعسوب الطب" أولي المجلات الطبية المصرية وتأسست عام 1865 وكانت تصدر بصورة شهرية وكان يحررها محمد علي الحكيم باشا كبير الأطباء المصريين في ذلك الوقت . وفي المجال السياسي تنوعت الصحف لتعبر عن مختلف التوجهات السياسية الموالية والمعارضة للتدخلات الأجنبية ومنها جريدة مصر وأصدرها أديب اسحق وساندت مجلس شوري النواب وشجعت كل ما اتخذوه من قرارات لمقاومة التدخلات الأجنبية ، كما دافعت عن حرية الصحافة وهاجمت إغلاق الصحف أو تعطيلها حتى صدر قرار إيقافها نهائيًا في 1879 ، وجريدة الوطن كانت جريدة سياسية أسبوعية أصدرها ميخائيل عبد السيد في نوفمبر 1877 ، ورحبت في بداياتها بوزارة نوبار باشا الأولي التي كانت تشمل وزيرين أجنبيين احدهما فرنسي والأخر انجليزي ثم عدلت عن توجهها وهاجمت الوزارة المختلطة وساندت مجلس شوري النواب ضد الوزارة المختلطة،بالإضافة إلي جريدة أبو نظارة التي أصدرها يعقوب صنوع 1877 ، وتعد أول صحيفة كاريكاتورية سياسية تصدر باللغة العربية ، وصدر العدد الأول منها باسم "أبو نظارة زرقاء" في 21 أغسطس 1877. واعتمد فيها علي الأسلوب الساخر اللاذع في الهجوم علي الموظفين والأفراد ، كما انتقدت الخديو بأسلوب ساخر ملتو ،ثم تم إصدار قرار بإغلاقها ، فهاجر يعقوب صنوع إلي باريس عام 1878 حيث استأنف إصدارها لتصبح أولي الصحف العربية المهاجرة . ويتضح مما سبق أن الصحافة المصرية قامت بدور وطني عظيم في تلك الفترة ، فقد ساهمت في نشر الثقافة السياسية للشعب المصري فهي تشرح وتفسر معني الحرية والوطن والوطنية وأهمية الحكم النيابي وواجب كلاً من الحاكم والمحكوم تجاه الوطن كما سعت لإيقاظ الشعور القومي البعيد عن الدولة العثمانية عن طريق عرض أمجاد تاريخ مصر القديم فكانت هذه المرحلة بمثابة النشأة الحقيقية للصحافة المصرية .