اقتحام مستشفى حُميّات أسوان بسلاح أبيض يكشف انهيار المنظومة الصحية في زمن السيسي    بيل جيتس يخطط للتبرع بكل ثروته البالغة نحو 200 مليار دولار    اعرف أسعار الأسماك بأسواق كفر الشيخ اليوم... البلاميطا ب100 جنيه    لقاء خارج عن المألوف بين ترامب ووزير إسرائيلي يتجاوز نتنياهو    إصابة 5 أشخاص بحالات اختناق بينهم 3 اطفال في حريق منزل بالقليوبية    مروان موسى عن ألبومه: مستوحى من حزني بعد فقدان والدتي والحرب في غزة    الهيئة العامة للرعاية الصحية تُقرر فتح باب التقدم للقيد بسجل الموردين والمقاولين والاستشاريين    طريقة عمل العجة المقلية، أكلة شعبية لذيذة وسريعة التحضير    «دمياط للصحة النفسية» تطلق مرحلة تطوير استثنائية    افتتاح وحدة عناية مركزة متطورة بمستشفى دمياط العام    وزيرة البيئة: تكلفة تأخير العمل على مواجهة التغير المناخى أعلى بكثير من تكلفة التكيف معه    المهمة الأولى ل الرمادي.. تشكيل الزمالك المتوقع أمام سيراميكا كليوباترا    ستحدث أزمة لتعدد النجوم.. دويدار يفاجئ لاعبي الأهلي بهذا التصريح    مواعيد مباريات اليوم الجمعة 9- 5- 2025 والقنوات الناقلة    أسعار الدولار أمام الجنيه المصري.. اليوم الجمعة 9 مايو 2025    «أوقاف شمال سيناء»: عقد مجالس الفقه والإفتاء في عدد من المساجد الكبرى غدًا    التنمر والتحرش والازدراء لغة العصر الحديث    زعيم كوريا الشمالية يشرف على تجارب لأنظمة صواريخ باليستية قصيرة المدى    تكريم حنان مطاوع في «دورة الأساتذة» بمهرجان المسرح العالمي    الخارجية الأمريكية: لا علاقة لصفقة المعادن بمفاوضات التسوية الأوكرانية    حبس المتهمين بسرقة كابلات كهربائية بالطريق العام بمنشأة ناصر    أسرة «بوابة أخبار اليوم» تقدم العزاء في وفاة زوج الزميلة شيرين الكردي    في ظهور رومانسي على الهواء.. أحمد داش يُقبّل دبلة خطيبته    حملات تفتيش مكثفة لضبط جودة اللحوم والأغذية بكفر البطيخ    في أجواء من الفرح والسعادة.. مستقبل وطن يحتفي بالأيتام في نجع حمادي    تبدأ 18 مايو.. جدول امتحانات الترم الثاني 2025 للصف الرابع الابتدائي بالدقهلية    تسلا تضيف موديل «Y» بنظام دفع خلفي بسعر يبدأ من 46.630 دولارًا    طريقة عمل الآيس كوفي، الاحترافي وبأقل التكاليف    خبر في الجول - أحمد سمير ينهي ارتباطه مع الأولمبي.. وموقفه من مباراة الزمالك وسيراميكا    الأهلي يقترب من الإتفاق مع جوميز.. تفاصيل التعاقد وموعد الحسم    طلب مدرب ساوثهامبتون قبل نهاية الموسم الإنجليزي    رئيس الطائفة الإنجيلية مهنئا بابا الفاتيكان: نشكر الله على استمرار الكنيسة في أداء دورها العظيم    سعر الفراخ البيضاء والساسو وكرتونة البيض بالأسواق اليوم الجمعة 9 مايو 2025    عاجل- مسؤول أمريكي: خطة ترامب لغزة قد تطيح بالأغلبية الحكومية لنتنياهو    موجة شديدة الحرارة .. الأرصاد تكشف عن حالة الطقس اليوم الجمعة 9 مايو 2025    الجثمان مفقود.. غرق شاب في ترعة بالإسكندرية    في المقابر وصوروها.. ضبط 3 طلاب بالإعدادية هتكوا عرض زميلتهم بالقليوبية    جامعة المنصورة تمنح النائب العام الدكتوراه الفخرية لإسهاماته في دعم العدالة.. صور    وسائل إعلام إسرائيلية: ترامب يقترب من إعلان "صفقة شاملة" لإنهاء الحرب في غزة    بوتين وزيلينسكى يتطلعان لاستمرار التعاون البناء مع بابا الفاتيكان الجديد    زيلينسكي: هدنة ال30 يومًا ستكون مؤشرًا حقيقيًا على التحرك نحو السلام    المخرج رؤوف السيد: مضيت فيلم نجوم الساحل قبل نزول فيلم الحريفة لدور العرض    غزو القاهرة بالشعر.. الوثائقية تعرض رحلة أحمد عبد المعطي حجازي من الريف إلى العاصمة    تفاصيل لقاء الفنان العالمي مينا مسعود ورئيس مدينة الإنتاج الإعلامي    «ملحقش يتفرج عليه».. ريهام عبدالغفور تكشف عن آخر أعمال والدها الراحل    موعد نهائى الدورى الأوروبى بين مانشستر يونايتد وتوتنهام    «إسكان النواب»: المستأجر سيتعرض لزيادة كبيرة في الإيجار حال اللجوء للمحاكم    كيفية استخراج كعب العمل أونلاين والأوراق المطلوبة    أيمن عطاالله: الرسوم القضائية عبء على العدالة وتهدد الاستثمار    إلى سان ماميس مجددا.. مانشستر يونايتد يكرر سحق بلباو ويواجه توتنام في النهائي    سالم: تأجيل قرار لجنة الاستئناف بالفصل في أزمة القمة غير مُبرر    حكم إخفاء الذهب عن الزوج والكذب؟ أمين الفتوى يوضح    مصطفى خليل: الشراكة المصرية الروسية تتجاوز الاقتصاد وتعزز المواقف السياسية المشتركة    عيسى إسكندر يمثل مصر في مؤتمر عالمي بروما لتعزيز التقارب بين الثقافات    محافظة الجيزة: غلق جزئى بكوبري 26 يوليو    ب3 مواقف من القرآن.. خالد الجندي يكشف كيف يتحول البلاء إلى نعمة عظيمة تدخل الجنة    علي جمعة: السيرة النبوية تطبيق عملي معصوم للقرآن    "10 دقائق من الصمت الواعي".. نصائح عمرو الورداني لاستعادة الاتزان الروحي والتخلص من العصبية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عن المعجم الاشتقاقي المؤصل لألفاظ القرآن الكريم
نشر في شموس يوم 03 - 09 - 2016

لي حكاية مع هذا المعجم اللغوي أود أن أرويها باختصار. في عام 1980 للميلاد، وتحديدا في شهر يونيو قررت قراءة القرآن الكريم كله لا لحصد الحسنات؛ بل كانت هذه المرة للدراسة والتفكر فيه. كنت أريد أن أخرج بعدها بقرار يحدد صلة هذا الكتاب المكنون بالله سبحانه وتعالى. كنت ساعتها في سنواتي الأولى للهجرة، وكنت لأول مرة أعيش بين من يسميهم القرآن الكريم "أهل الكتاب"، وهم الذين كانوا – ومازالوا- التشكيك في القرآن ونسبته إلى محمد صلى الله عليه وسلم ديدنهم. أتممت قراءة القرآن الكريم كاملا لأول مرة، فإذا بإحساس يتولد داخلي يقول إن القرآن الكريم يتحدث بلغة خاصة، لغة نصفها بأنها السهل الممتنع. والسهل الممتنع من الكلام هو ما تفهم ظاهر نصه بسهولة ويسر، لكنك لا تستطيع الإحاطة بكل مكنونه. وهو الذي لو أردت إعادة بلورة معانيه فلا تستطيع، ويبقى في داخلك إحساس بأن هناك بعدا دلاليا آخر تتمنى أن تدركه. أعدت القراءة مرة ومرات فازداد ذلك الشعور، وعندها تولدت عندي عقيدة بأن هذا الكتاب الكريم، بالرغم من أنه بلسان البشر، إلا أننا لا يمكن نسبة علوم محتواه إلى البشر، إن قائله عليم بكل شيء، عليُّ حكيم. وتولد عندي عقيدة مفادها إن هذا الكتاب كتاب علوم، ليست هي ما يسمونه علوم الدين؛ بل إنها علوم الحياة الدنيا. كل العلوم التي يحتاجها بنو آدم ليحيوا حياة طيبة في الحياة الدنيا، وتكون حياتهم الآخرة، بعد الموت ثم البعث؛ حياة أبدية خالدة هنيئة. وصدق العزيز الحكيم عندما عَلّم محمد صلى الله عليه وسلم ألا يعجل بقراءة القرآن من قبل أن يقضى إليه وحيه فقال عز من قائل " ۗ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَىٰ إِلَيْكَ وَحْيُهُ ۖ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا".
رحلة عسيرة
نظرا لخلفيتي في العلوم التي يسمونها العلوم الطبيعية، ويفرقون بينها وبين ما أسموه العلوم الإنسانية أو الأدبية؛ لمست الحاجة الملحة لمعرفة معاني ودلالات ألفاظ هذا الكتاب المجيد؛ وكان عليّ أن أبدأ رحلة عسيرة في البحث عن الأفضل والأعمق من كتب التفسير. نعم؛ ساعدتني هذه الكتب – من الطبري وما بعده؛ في فهم الكثير. ولكن بقي الكثير من الدلالات التي كنت أحس بها ولا أدركها من أقوالهم، وخاصة تعبيرات القرآن العلمية. عند ذلك بدأت في البحث عن كتب في مفردات لسان القرآن حتى أستطيع بلورة الدلالة العلمية بنفسي. وانتهت الرحلة الطويلة الشاقة بكثير من الكتب الورقية منها على سبيل المثال: القاموس المحيط للفيروز أبادي، أساس البلاغة للزمخشري، مختار الصحاح للرازي، المعجم الوجيز لمجمع اللغة العربية في القاهرة، مفردات ألفاظ القرآن الكريم للراغب الأصفهاني، عمدة الحفاظ في تفسير أشرف الألفاظ للسمين الحلبي، وغيرهم كثير. انتهيت من رحلتي المضنية هذه بنتيجة مفادها إن أفضل ما كتب في هذا المجال هو مفردات القرآن الكريم للعلامة الراغب الأصفهاني، وبدأت في الاعتماد عليه كأفضل المتاح، وباقي الكتب كعامل مساعد يعينني على بلورة المعنى الذي أريده. وتعلمت من هذا الكتاب، وغيره من التفاسير؛ إن أفضل وسيلة لفهم ألفاظ القرآن الكريم هو فهم دلالة أصل اللفظة الكريمة. ويقصدون بالأصل أصل استعمال العرب للفظ الذي يمكن معرفته من المعاجم اللغوية، ولاحظت أيضا إن الأفضل من ذلك التعرف على أصل الاستعمال من القرآن نفسه، فالقرآن يدلك على ما يريد لك أن تفهم من دلالات معانيه. ويتم هذا الفهم بأن تجمع جميع الآيات المحتوية على الجذر اللغوي للكلمة، ثم تتأمل في كيفية استعمالها في الكتاب الحكيم، بعدها ستجد آية واحدة متفردة تحتوي على أصل الاستعمال. وعلى سبيل المثال لا الحصر؛ الجذر قَلَمَ: فعل القْلَمُ الذي هو قطع بعضا من الشيء هو الأصل المراد، والقلم الذي نكتب به كاستخدام شائع لأداة الكتابة أصله أنهم كانوا يقطعون من فروع الأشجار ليكتبوا به. تفهم ذلك من الآية الكريمة: "وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴿لقمان: 27﴾، ثم تفهم الاشتقاق الأهم من الآية الكريمة: " ذَٰلِكَ مِنْ أَنبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ ﴿آل عمران: 44﴾. إذا فأصل القلم هو قطع طرف الشيء.
الانترنت والانفجار المعلوماتي
على التوازي مع الكتب الورقية؛ تطور استعمالي للشبكة الالكترونية المسماة بالانترنت، وبذلك زاد عدد المتاح من كتب التفسير، ومعاجم اللغة، وصنوف لا حصر لها من كتب اللغة العربية والتراث الإسلامي. ورغما عن هذه المكتبة التي كان عدد الكتب فيها يزداد يوما بعد يوم، حتى وصلت إلى عدد صعب إحصائه؛ لم تفي بحاجتي إلى المزيد. وظل في نفسي نفس الإحساس السابق: هناك دلالة علمية للفظة القرآنية لا أستطيع بلورتها. وتولدت عندي حاجة لم أستطع التعبير عنها لأهل اللغة والتفسير حتى يساعدونني في إيجاد المطلوب. كنت دائم المقارنة بين البعد العلمي للفظة القرآنية الكريمة، ونتائج البحوث العلمية التي تصدر في المجالات المختلفة، وازداد يقيني بأننا مازلنا نقف على عتبات معاني القرآن الكريم، وأننا لم نسبر أغواره بعد.
الوصول إلى ضالتي
ظللت ابحث في الانترنت لعل وعسى أن أجد ضالتي. وذات يوم في عام 2011 من الميلاد، وبينما كنت أبحث في الإنترنت عن كتاب – لا أذكر اسمه الآن – استوقفني عنوان كتاب:" الدلالة المحورية في معجم مقاييس اللغة" – دراسة تحليلية نقدية، والكتاب صادر عن دار الفكر بدمشق، والمؤلف د. عبد الكريم محمد حسن حسن جبل. وجدت نبذة عن الكتاب تشرح محتواة بلغة لم أفهم مصطلحاتها بشكل واضح (دلالة محورية، مقاييس اللغة)، وكان أهم ما فيها وصف الدراسة بأنها: "دراسة لفكرة ( مهمة) في ( أهم) مراجعها. فأما الفكرة فهي ( الدلالة المحورية للجذر اللغوي)، أي الدلالة التي تدور حولها كل استعمالاته. وأما أهم مراجعها، فهو ( معجم مقاييس اللغة) لابن فارس". سارعت في التقاط اسم الكاتب الكريم، وبحثت عنه عن طريق الباحث جوجول فإذا بي أجد "سيرة ذاتية" له، بها كل ما أريده من معلومات للاتصال به. وفي أول رحلة لمصر تم التواصل، وجاءت المفاجئة الكبرى. لقد أخبرني الدكتور الكريم عبد الكريم أن والدة وأستاذه الكريم قد ألف معجما جمع فيه أصول (أو جذور) الألفاظ الكريمة للقرآن الكريم، وأنه اتبع أسلوبا جديدا في تفسير الألفاظ الكريمة، وما هي إلا أيام معدودة فصلتني عن الكتاب. تصفحت الكتاب، ومرة أخرى استعصى عليّ فهم الكثير. ترتيب الجذور مختلف عما تعودت عليه، مصطلحات جديدة لم أفهمها جيدا: "معنى محوري"، "فصل معجمي"، حروف (أو أصوات ) لها دلالة، دلالة صوتية للفصل المعجمي، والتكييف والاشتقاق وغيرها.
رحلة تثبُت لم تنتهي
وكباحث كيميائي وجدت إن أفضل طرق التأكد فحص نتائج التجارب المعملية مع الواقع، ولكن كيف يطبق هذا الكلام على شرح المفردات؟ بالطبع كانت خير وسيلة للتأكد هي مراجعة معاني الألفاظ القرآنية التي شرحها الكاتب الكريم على ما عندي من كتب سابقة ومعاجم مشهود لها كلسان العرب والقاموس المحيط والمفردات وغيرهم، فوجدت إن أسلوبه في التفسير يوصل إلى دلالات صحيحة ودقيقة للألفاظ القرآنية. هذه الدلالات تتفق – في كثير منها – مع من سبقه من المفسرين، وتتفق تماما مع أصل الاستعمال العربي للجذر ومشتقاته. وكان ميزاني لتقييم دقتها عرضها على السياق القرآني.
مفاجئة سعيدة
ووقعت مفاجئة أخرى، لقد وجدت إن ما كتبه مؤلف المعجم في كلا من المعنى المحوري للجذر الثنائي – الذي أسماه الفصل المعجمي، والمعنى المحوري للجذر الثلاثي يتفقا تمام الاتفاق مع الدلالة العلمية التي كنت قد فهمتها من دراسة النظرية العلمية في ذلك المجال. وحتى أطمئن إلى صحة ما توصلت إليه؛ انتقلت سريعا إلى كلمات معضلة أجهدت المفسرين، ولكن كانت لها نظريات علمية وصلت إلى درجة الحقيقة العلمية. على سبيل المثال: ما هو دحو الأرض وما هو طحوها؟ ما هو طمس النجوم وما الفرق بينه وبين انكدارها؟ ماذا يراد بالعلق الذي خلق منه الإنسان، ما هو؟ الضحي ما المقصود بالضحى الذي يقسم به العزيز الحكيم؟ الخ..؛ فإذا بي أجد شرح المعجم لها في استعمالاتها العربية شرحا يكاد يطابق ما يقوله العلم الحديث. وكأن العالم الجليل، واضع المعجم محمد حسن حسن جبل؛ ليس عالما في اللغة أو في التفسير فحسب، بل عالم في الفلك والفيزياء وعلوم الحياة وعلم النفس والاجتماع والفلسفة والتاريخ، إلى آخره. و انتهيت إلى قناعة مفادها إن هذا الكتاب يفوق بكثير كل ما سبقه من كتب في تفسير القرآن.
هل اللغة العربية متفردة الخصائص؟
المشكلة بالنسبة لي كباحث علمي مدقق هي: إن الكتاب وأسلوبه في التفسير ذو منهج جديد في التفسير، وبالتالي يكون لزاما عليّ أن أتعرف على ملامحه، وأحاول توثيق المنهج الجديد. لقد كان المنهج جديدا في استنباط الدلالة اللغوية للألفاظ القرآنية، لم يُتوافق عليه بعد. صحيح إن بعض أئمة اللغة من قبله قد اتبع هذا النظام لتفسير الألفاظ العربية، وأعني بالمقام الأول ابن فارس (توفي 395 ه)، إلا إن كثيرا من اللغويين لم يلق بالا لهذا الأسلوب. إن القاعدة التي اعتمد عليها الشيخ في التفسير كانت خصيصة للغة العربية أهملها الكثيرون، وكما قال الشيخ الكريم رحمه الله تعالى "ما كان يسوغ لي ولا لغيري أن يغفل هذه الخصيصة للعربية – (التي تتميز بها عن اللغات الأخرى)- فتدفن وتغيب عن أهلها، في حين أنها حق العربية، وحق لأهلها، وهي من ذِكِرهم الذي امتن الله به إذ أنزل القرآن الكريم بالعربية " وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ" ﴿الزخرف: 44﴾. وسوف أترك الحديث لتفصيل ذلك إلى المعجم نفسه لمن أراد أن يستزيد، حيث يمكن قراءة ذلك بتفصيل أكبر في كلا من المعجم الاشتقاقي المؤصل" (بين يدي المعجم)، وكتاب في الاشتقاق اللغوي والمعجم الاشتقاقي" للكاتب نفسه.
معنى الدلالة المحورية
في كتاب الدكتور عبد الكريم "الدلالة المحورية في معجم مقاييس اللغة يشرح فكرة الدلالة المحورية بتفصيل نسبي فيقول: "المقصود بالدلالة المحورية لجذر ما، هو المعنى الذي يتحقق تحققاً علمياً في كل الاستعمالات (= التراكيب) المصوغة من هذا الجذر". ثم يشرح الدكتور فوائد انتهاج هذا النهج في شرح وتفسير الجذور العربية فيقول: "ومن الواضح، بعد، أن هذا المعنى المحوري، يتميز بما يلي:
1 – أنه تجريديّ، بمعنى أنه يُسْتخلَص مِنْ كل استعمالات الجذر- أو من أكثرها – استخلاصاً ينهض على لَمْح صور هذا المعنى في تلك الاستعمالات.
2 – أنه من صُنع اللغويّ، أو الباحث، بمعنى أنه بصورته المحورية قد لا يكون مصرّحاً به في المعاجم اللغوية التي تُفسر المفردات.
3 – أن هذا المعنى قد يتحقَّق في بعض الاستعمالات بصورة صريحة مباشرة، وقد يتحقق في بعضها الآخر بصورة تحتاج إلى تأويل بدرجات مختلفة"(أه).
الدلالة العلمية
بدأت منذ اقتناء الكتاب إلى ضمه إلى مجموعة الكتب المذكورة آنفا لتفسير آيات الكتاب الحكيم، ولأني معنى بالألفاظ التي لها دلالة علمية، ساعدني هذا المعجم في تحرير اللفظة مما يسمح بالتعرف على الدلالة المطلقة، التي وجدتها في كثير من الحالات تتطابق مع ما يقول به أصحاب التخصص العلمي، والتي غالبا ما عجز عن تفسيرها السابقون كما ذكرت آنفا.
الفصل المعجمي
اكتشفت سريعا إن فكرة المعنى المحوري هي التي كنت أبحث عنها، ولا أجد نفسي قادرا على التعبير لطلبها طوال هذه السنوات التي امتدت إلى عقود. وعندما اطلعت على المعجم وجدت إن فكرة المعنى المحوري لم تكن هي الفكرة الجديدة الوحيدة التي جاء بها المعجم، فقد جاء بفكرة أخرى، تبين لي لاحقا، أنها ذات أهمية قصوى؛ لو كانت معرفة الدلالة العلمية لألفاظ القرآن الكريم هي المرجوة. إنها فكرة – أو ظاهرة – ما أسماه العالم الجليل ب"الفصل المعجمي"، وخلاصتها، كما يقول الشيخ؛ " أن كل التراكيب المُبتدأه بحرفين بعينيهما وترتيبهما يكون في معنى كل منها قدر مشترك مع معاني سائرها. مثلا تراكيب ( بتت، بتر، بتع، بتك، بتل) فيها كلها معنى القطع، وقد ثبتت هذه الخصيصة بنحو 350 فصلا معجميا، فهي خصيصة مطردة في اللغة العربية لا تجحد" أه.
المفاجئة الكبرى
تأملت في المعاني المحورية للفصول المعجمية لألفاظ تحتوي على دلالات علمية، فإذا بي أجدها تتحدث عن أسلوب إيجاد (= خلق وابداع) ذلك الشيء، أو تصف الخصائص العلمية المكتشفة حديثا جدا لذلك الشيء. لقد كنت دائما أحس بأني في حاجة ملحة لتجريد دلالة المفردة القرآنية الكريمة وذلك لإيماني المطلق في إن القرآن الكريم قد تجاوز معرفة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ومعرفة كل ذلك الجيل المبارك الذي صاحب الرسول الكريم، بل تجاوز معارف البشرية قديمها وحديثها؛ فعندما تتحرر دلالات ألفاظ القرآن الكريم ستظل متجددة، تعطي كل جيل المزيد والمزيد من دلالات علمية إضافية؛ فالقرآن يتكلم عن الماضي والحاضر والمستقبل. وذلك طبيعي جدا لأن القرآن هو الرسالة النهائية الخاتمة من رب العالمين لبشر خلقهم بيده. ولكونه الرسالة الخاتمة كان لزاما أن يحتوي على آيات كريمة كثيرة تصف الكون، ويكون معناها يسير على الفهم ويقبله كل جيل بما توفرت لهم من معارف، بما فيها جيلنا والأجيال القادمة، من أجيال ما بعد الثورة العلمية والتقنية الحديثة.
الواجب تعلمه لتفسير الدلالة العلمية القرآنية
بعد تجربة وتفكير عميقين في سؤال واجهني به المنكرون للقول إن القرآن كتاب علوم. كان السؤال يقول، إن كان القرآن الكريم يحتوي على نظريات علمية كما يدعي من أصطلح على تسميتهم بالمفسرين العلميين للقرآن الكريم، فلماذا لا تصرحون بها؟ وبذلك نتقدم الأمم قاطبة، ونوفر على الإنسانية طائل الأموال التي ننفقها على البحوث العلمية. كانت محاولة الإجابة عن هذا السؤال تشغلني كثيرا منذ أن كتبت كتابا في التفسير العلمي للقرآن ونشرته عام 2009 م تحت اسم " والذاريات ذروا"، وخصصت الجزء الأول منه للرد على من ينكرون مقولة إن القرآن كتاب علوم. صحيح إن القرآن يصف نفسه في أوائل سورة البقرة بأنه كتاب هداية، ولكن المنطق والواقع يقول أنه لا هداية دون تعليم، فالتعليم هو الوسيلة الوحيدة لهداية الإنسان. ولكن يبقى السؤال دون إجابة، لماذا لا نفهم النظريات العلمية الواردة في القرآن إلا بعد شرح العلماء لها؟ الإجابة في الحقيقة في غاية البساطة ولكنها صعبة الفهم على من لم يخض تجربة الموائمة بين أسلوب القرآن في تقديم الحقائق العلمية وأسلوب الباحثين في كل فروع العلم. القرآن يقدم لنا المعلومة العلمية في أسلوب مبسط يلبس ثيابا غير شفافة، ويحتاج إلى تدبر وفكر وعلم مسبق، من يستطيع أن يفهم – مثلا – حقيقة أن قطع السحاب في السماء تسيرها الرياح فتلقح بعضها بعضا؟ والتلقيح هنا يعني اتحاد الشحنة السالبة المتولدة في بعض قطع السحاب مع الشحنة الموجبة في بعضها الآخر، فهل ما اكتشفناه بعد نزول القرآن يشابه قوله عز وجل "وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ" ﴿الحجر: 22﴾. إن الموائمة بين ما يقوله العلماء وما يقوله القرآن تحتاج إلى عنصرين مهمين:
الأول المعرفة الدقيقة للنظرية العلمية، و
الثاني تحرير دلالة اللفظة القرآنية من تفسير من سبقونا، حتى لا يسيطر ويوجه طريقة تفكيرنا في التعرف على الدلالة القرآنية المحكمة.
إذن؛ فإن ما فعله عالِمُنا الجليل الدكتور محمد حسن حسن جبل رحمه الله تعالى (توفي في مارس 2015 م) يعتبر من الأعمال العظيمة التي تساعد على كشف أسرار القرآن الكريم العلمية.
خصائص متفردة للغة العربية
لم يقم هذا المعجم بشرح القرآن فحسب، بل كشف وأثبت بالدليل العملي بعض خواص لغتنا العربية المتفردة. المعجم يثبت بأسلوب علمي مقبول وجود علاقة بين (الصوت والدلالة). هذا يعني إن أصوات الحروف العربية ليست عشوائية، أو أنها مجرد أصوات توافق عليها أصحاب اللسان العربي في بدايات نشأة اللغة. وكذلك فإن التعرف على أساليب الاشتقاق الدلالي للمفردات القرآنية التي لها دلالة علمية سوف يساعدنا على تحسين فهمنا لكل من النظرية العلمية واللفظة القرآنية، فكثيرا ما يحمل اللفظ القرآني دلالة جديدة تتجاوز معارف الأجيال السابقة، وهذا الكلام موجه بالدرجة الأولى للباحثين في مختلف العلوم الطبيعية. ولذا فإني أدعو المتخصصين في اللغة أن ينكبوا على دراسة هذا المنهج وتوثيقه بأسلوب لا يدع مجالا لشك؛ حتى يصبح منهجا راسخا نعلمه لطلبة تفسير القرآن في المعاهد الجامعية المختلفة. وعندي فإن الدكتور جبل قد قدم من الأدلة العلمية العملية الكافية وبرهن على صحة هذا الأسلوب، فقد قدم عمليا تحليلا دلاليا للجذور العربية التي استخدمها القرآن الكريم. ولذا نستطيع القول إن هذا المنهج الذي اعتمده ابن فارس ومن بعده الدكتور جبل أفضل منهاج لمعرفة الدلالة العلمية واللغوية. ونكرر لقد استطاع الدكتور جبل أن يستخرج ، بأسلوب مقبول علميا؛ دلالات الحروف من الاستعمالات العربية، وبين وجود الارتباط الاشتقاقي والبنائي بين مختلف أعضاء أسرة الفصل المعجمي، في لسان القرآن الكريم. ونقتبس من المعجم قول الشيخ الكريم: " إن تبين صحة فكرتي: المعنى المحوري، و الفصل المعجمي، وتحققهما باطِّراد في آلاف التراكيب ومئات الفصول المعجمية؛ لا يفسر إلا بوجود ارتباط علمي يقيني بين الألفاظ ومعانيها بصورة مجملة، ثم بين مكونات الألفاظ ومعانيها بصورة مفصَّلة. ومكونات الألفاظ هي الحروف الألف بائية" اه.
مزيد من خصائص العربية
وفي كتاب آخر للكاتب الكريم عنوانه "في الاشتقاق اللغوي والمعجم الاشتقاقي"، يشرح بعضا من خصائص العربية، وفيه يعرض لخمس خصائص للغة العربية منها المعنى المحوري والفصل المعجمي وتصاقب (= تقارب) الألفاظ لتصاقب المعاني ثم قال: "إن ذلك دال على إحكام العربية، وأن ألفاظها ليست عشوائية، وإنما لكل منها أصله الذي أُسْس عليه معناه المتعامَلُ به. وأردف: إن اللغة العربية لها أسرار، وليست كاللغات الأخرى تؤدي وظيفتها فحسب، وأنا قلت كل ما قلته – عن مميزات اللغة العربية- بناء على دراسة علمية بحته. وكل الخصائص الخمس المذكورة هي كَشْفُ لا اختراع، أي أنها متحققة في اللغة من أول الشعر الجاهلي إلى الآن، ونحن كشفناها ولم نخترعها وشأن هذه الخصائص كشأن قواعد النحو والصرف كُشفت ولم تخترع. فإذا سألتني عن سر هذا قلت لك ليس عندي جواب. وإنما هذه خصائص متحققة في اللغة أسهمت مع الأئمة في كشفها وتوضيحها، وليس لي علم بسر وجودها في العربية. وإنما أقول إن هذه اللغة العربية أَنفَسُ اللغات البشرية وتستحق أن نهتم بها بأقصى إمكاناتنا. ودعك من قول الأوربيين وتلاميذهم ليس هناك لغة أفضل من لغة. فإن اللغات تتفاضل في وظيفة اللغة وهي القدرة على التعبير. وما نراه من تقدم الإنجليزية والفرنسية والألمانية في انتشارهن واستعمال العالم لهن أكثر من العربية؛ فذلك من تقصيرنا تقصيرا فاحشا في حق لغتنا في تعليمها وفي الالتزام بها، مقابل دأبهم في الكد لخدمة لغتهم. ولله الأمر من قبل ومن بعد (أه، ص 74).
مزيد من خواص الفصل المعجمي
سبق أن ألمحت أنه أثناء دراستي لبعض المفردات القرآنية التي لها دلالة علمية؛ لاحظت إن الدلالة العلمية للفظة القرآنية يمكن استنباطها من كلا من المعنى المحوري للفصل المعجمي (= الأصل الثنائي للفظة)، والمعنى المحوري للتركيب الثلاثي (= الجذر الثلاثي)، وبذلك يمكننا تأصيل المصطلحات العلمية وترجمتها من الإنجليزية إلى العربية، بل وتصحيح وتعديل بعض الدلالات، أو شرحا لبعض النظريات العلمية، وربما توضيح نظريات ما زالت لم يحسمها العلم بعد، وبذلك نقف على أرض صلبة عند ترجمة الكتب العلمية وأوراق البحوث العلمية، ولكن كل ذلك يحتاج إلى سرعة وحشد للهمم. لا يجب أن يأخذ كلامي هذا على محمل رفض البحوث العلمية والاعتماد على التحليلات اللغوية فحسب، ولكني أقول بمزاوجة البحث العلمي مع التقصي عن الدلالة العلمية في اللفظة القرآنية. كل ما نحتاجه هو إعداد المفسر المدقق الذي يملك زمام لغة القرآن مع معرفة صحيحة للنظريات والمكتشفات العلمية الحديثة. ولاحقا سوف أعطي بعض الأمثلة التي تبين كيفية استنباط الدلالة العلمية من كلا من المعنى المحوري للفصل المعجمي والمعنى المحوري للجذر الثلاثي المشتق منه. قد يبدو هذا الكلام وكأنه "خيال علمي" يتأتى من الشوق الشديد إلى اللحاق بركب العلم والعلماء بعدما مرت علينا – نحن العرب – قرونا من التخلف، ولكن على كل مؤمن ألا يتعجب من كتاب كان الله سبحانه وتعالى هو المخرج، فها هو يقول، عز من قائل: " كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ" ﴿110 آل عمران﴾، فإلى جانب كمال وجمال مضمون الرسالة، دقة وإبداع في الإخراج. ولكن كيف كان هذا؟
وَلِتُصْنَعَ عَلَىٰ عَيْنِي
في بحثي عن طبيعة اللغة العربية وجدت شبه إجماع بين كثير من المتخصصين الغربيين والعرب بأن اللغة العربية التي نطقت بها قريش هي أقرب اللهجات السامية إلى ما يطلق عليه اللغويون مصطلح "اللغة الأصل" ( Pro – Language) وهم يعنون بذلك أن لكل أسره من أسر اللغات توجد لغة ابتدائية تطورت منها اللغات اللاحقة. وبالنسبة لأسرة اللغات السامية يقولون بأن اللغة العربية هي أقرب اللغات السامية إلى هذه اللغة الأم ( Proto – semitic). ويعزون ذلك إلى عزلة الجزيرة العربية عن باقي المحيط المليء باللهجات واللغات الأخرى، مما يفسر نقاء اللغة العربية " ومن ثم احتفاظها بأكبر قدر من مقومات اللسان السامي الأول، وبقي من تراث هذا اللسان ما تجردت منه أخواتها، فتميزت عنها بفضل ذلك بخواص كثيرة يرجع أهمها إلى أمور ثلاثة هي: 1. إنها أكثر أخواتها احتفاظا بالأصوات السامية، وزادت عليها بأصوات كثيرة. 2. أنها – أي العربية – أوسع أخواتها جميعا وأدقها في قواعد النحو والصرف. 3. أنها أوسع أخواتها ثروة في أصول الكلمات والمفردات." (منقول بتصرف يسير من كتاب فقه اللغة، د. علي عبد الواحد وافي، النسخة الالكترونية ص 129). وفيما يلي رسمان توضيحيان، أولهما يبين العلاقة بين "اللغة الأصل" (proto- afro-asiatic) لكل اللغات السامية واللغة التي بدأت بها اللغات السامية. أما الشكل التالي فيبين العلاقة بين "اللغة الأصل، أو اللغة الأم" للغات السامية (Proto-semitic) واللغة العربية. والرسمان يوضحان إن اللغة العربية لم يدخلها الكثير من التغيير والتطورات التي تحدث تقريبا لكل اللغات نتيجة لاختلاط البشر، وتطورت وزادات مفرداتها بمعزل (نسبي) عن اللغات الأخرى.
الرسم التوضيحي أعلاه يبين علاقة اللغة السامية الأصلية (600 – 5000 سنة ق.م) بالنسبة لأسرة لغات المنشأ، وهي ما تسمي باللغات الأفرو- آسيوية (15000 – 9000 سنة ق.م) ويبدو بوضوح نقاء اللغة السامية الأولى مما أدى فيما بعد إلى نقاء العربية وثبات دلالاتها نسبيا.
شكل يبين تطور اللغة العربية بصورة منعزلة تقريبا عن اللغات السامية الأخرى فكانت أقربها إلى اللغة السامية الأولى . والمعروف إن لغة قريش قد جمعت اللهجات الأخرى.
وطبعا لا ننسى رقي هذه اللغة المتمثل في الشعر العربي في القرون التي سبقت نزول القرآن الكريم، والذي أعطى اللسان العربي مزيدا من المفردات ومزيدا من أساليب التعبير. و بذلك تمت صناعة اللسان العربي القديم منذ آلاف السنين لنطق معبر عن الواقع العملي. وهكذا نستطيع القول بالمنطق العلمي إن تطور اللسان العربي كان بعناية من الله تعالى، أراده الله كذلك حتى يخرج لنا كتابه الخاتم، وفيه يضع أساسيات لوضع لغة علمية، يتمثل معانيها في المرحلة الثنائية للغة، والتي اشتقت منها الجذور الثلاثية التي تمثل أكثر من 80% من جذور المعجم العربي.
وننقل قول عالم لغوي مشهود له بالدقة العلمية: " الجذر في اللغة السامية الأم ( The Proto – Semitic Root) في اللغات السامية الموثقة تاريخيا تؤلف الجذور السواكن الثلاثية الجمهرة العظيمة…. ونظرة فاحصة في المعجم تكشف الظاهرة الآتية: ثمة مجموعات كثيرة لجذور لها صوتان أصليان (= الفصل المعجمي) مشتركان يعبران عن معان متماثلة أو متشابهة… ثم يتابع ويضرب بعض الأمثلة ويصل إلى نتيجة: " هذه الظاهرة واسعة الانتشار في المعجم السامي وتثير التساؤل الآتي: أليس كثير من الجذور الثلاثية السواكن في حقيقة أمرها مشتقة من الجذور الثنائية السواكن؟ ثم ألم يكن نظام الجذور الثنائية السواكن، فيما يمكن، سابقا للصيغة الثلاثية السواكن في السامية؟ … ثم يصل العالم اللغوي إلى نتيجة في غاية الأهمية يقول: " إن هيكل الجذر السامي كله كان في الأصل ثنائيا. وأكثر المزاعم احتمالا أن جذورا موجودة في الأصل مع ساكنين أو ثلاثة (وكذلك عدد أصغر مع ساكن واحد فقط أو مع أكثر من ثلاثة) وأن في مرحلة ما من تطور اللغات السامية ساد النظام الثلاثي – متوسعا بالقياس، جاعلا بذلك الجذور الثنائية متعاونة من خلال استعمال صوت أصلي ثالث". (ص 125- 127 في كتاب "مدخل إلى نحو اللغات السامية المقارن" تاليف سباتينو موسكاتي، ترجمة د. مهدي المخزومي ، ود. عبد الجبار المطبليي، 1993 م عالم الكتب:
www.alkottob.com-Introduction_to_Comparative_Nhallgat_High.pdf)
ويذكر المستشرق الألماني كارل بروكلمان عن ظاهرة أخرى للعربية كاحدى اللغات السامية في كتابه فقه اللغات السامية، ترجمة د. رمضان عبد التواب، صادر عن جامعة الرياض 1977 : "وما يميز اللغات السامية عن غيرها من الفصائل الأخرى، يتمثل قبل كل شيء في الأصوات، وهو رجحان الأصوات الصامتة على الأصوات المتحركة، ويرتبط المعنى الرئيسي في الكلمة، في ذهن الساميين، بالأصوات الصامتة فيها، أما الأصوات المتحركة فهي لا تعبر في الكلمة، إلا عن تحوير هذا المعنى وتعديله، ولهذا السبب نفسه يقع الثقل الرئيسي في النطق، على الأصوات الصامتة مطلقا، أما الأصوات المتحركة فإنها تتأثر في صفاتها بتلك الأصوات الصامتة" (ص 12). ويتحدث عن اللغة العربية فيما قبل الإسلام فيكتب: " وتمتاز هذه اللغة الشعرية بالوفرة الهائلة في الصيغ كما تدل طريقتها في تكوين الجملة، على درجة من التطور أعلى منها في اللغات السامية الأخرى. هذا إلى أن مفرداتها تفوق الحصر، لأنها التهمت كل اللهجات المحيطة بها".(أه، ص 27) .
وإن كان لنا من إضافة فإننا نقول: كل دارسي العلوم الطبيعية والطب وكثير من العلوم التي نسميها إنسانية؛ يعلمون إن المصطلحات التي نتعلمها في تلك العلوم مأخوذة من أصول يونانية أو لاتينية. والسؤال لماذا اختار العلماء التعبير عن أنفسهم بمصطلحات وأسماء من لغات ميتة؟ والإجابة هي: إن اللغة كائن حي يتغير ويتطور بمرور الزمن، ولكي نُثَبِتْ دلالة المصطلحات يجب على العلماء استخدام مصطلحات لغوية لن تتغير بتغير الزمان والمكان، وكان الاختيار ألفاظ لاتينية ويونانية قديمة لن تتغير على مر الزمان، وعلى كل من يريد أن يتعلم العلوم الحديثة فعليه أن يتعلم هذه المصطلحات ودلالتها. ويبقى السؤال هل هكذا أراد الله تعالى إخراج كتابة التعليمي بهذا الأسلوب؟ والجواب عندي هو إن هذا الكلام منطقي جدا وبين أيدينا من قرآن ومعاجم لغوية ونتائج علوم تصدقه.
شرح وتحليل وأمثلة
نأتي مرة أخرى للحديث عن المعجم المؤصل وعلاقته باللغة العلمية الحديثة. المعروف في البحوث العلمية أنه عندما يلحظ الباحث ظاهرة طبيعية فعليه أولا أن يتأكد من تكرارها وثباتها على مر الزمن، ثم يبلور في وصف دقيق ما يعبر عنها، ثم يجري تجارب ليثبت رتابتها، ثم يبلور النتائج ويعرضها على المهتمين لمن شاء منهم أن يتثبت. ولذا فلم يبق علينا الآن إلا أعطاء أمثلة تثبت إن ألفاظ القرآن، سواء الفعل الثلاثي أو الأصل الثنائي، يراد منها التعبير عن الدلالة العلمية لكثير من الظواهر الطبيعية، التي لم نكتشفها إلا في القرن الماضي، القرن التاسع عشر الميلادي، أي بعد نزول القرآن الكريم بقرون عديدة. لقد وجدت إن المعنى المحوري للفصل المعجمي يعبر عن الدلالة العلمية للفعل الثلاثي منه ولكنه يصف الأصل التكويني للشيء. ذلك بمعني: عندما نجد لفظة الشمس في القرآن الكريم فإن هذه اللفظة الكريمة تتكون من ثلاثة حروف هي (ش م س)، الحرفان الأولان (ش م) يمثلان الفصل المعجمي، ولو نظرنا في معناه المحوري الذي وضعه المعجم؛ فسنجد إن المعنى هذا يعبر عن كيفية تكون (خلق) الشمس. أما المعني المحوري للفعل الثلاثي (شَ مَ سَ) فهو يعطي الدلالة العلمية للفعل. ومن هنا نستطيع أن نستنبط باطمئنان أن الفعل الثنائي كان أصلا للفعل الثلاثي. وان الحديث عن تطور اللغة العربية الذي يقول بثنائية الفعل مرجح، هذا إن أثبتنا اطراد هذه الظاهرة. هذا الكلام لن يكون مفهوما بدون ضرب أمثلة، ولذا فسوف أحاول في الفقرة القادمة ذكر بعض قليل من الأمثلة.
أمثلة تبين الدلالة العلمية لكل من الفصل المعجمي والفعل الثلاثي
في هذه الأمثلة سوف أختار ألفاظ قرآنية بعينها، مما أعلم أن لها دلالة علمية، ثم استعين بالمعجم في إيجاد جذورها، ثم أنقل ما يذكره المعجم الاشتقاقي المؤصل بدون أي تصرف أو تغيير، ثم أنقل كلا من:
1. المعنى المحوري للجذر الثنائي،
2. المعنى المحوري مستنبطا من دلالة كل صوت على حدة (وهو منفصل عن المتن ومكتوب في الهامش المصاحب لكل أسرة)،
3. المعني المحوري للجذر الثلاثي المكون للكلمة القرآنية.
وأنبه القارئ الكريم أنه سوف يجد تطابقا بين المعني المحوري للجذر الثنائي المستنبط من الاستعمالات العربية، والمعنى المحوري المستنبط من دلالات الحروف التي استنبطها صاحب المعجم، وشرحها بتفصيل نسبي في بداية المعجم. وعليه فلا يجب أن يمل القارئ من هذا التكرار. إننا بصدد استكشاف صحة أسلوب جديد في تفسير المفردات. وأنبه أيضا إلى إن كثير من الألفاظ يتشابه المعنى المحوري للفصل المعجمي والمعنى المحوري للجذر الثلاثي، أو توجد إضافة قليلة لا تغير المعنى العام للفصل المعجمي. و أثناء الكتابة والنقل من المعجم وبغرض التسهيل للقارئ غير المتخصص في العلوم الكونية؛ فسوف أحيط بعض كلام المعجم بأقواس هكذا {…} حتى يتذكرها القارئ الكريم، ثم أترك له مقارنة الكلام المحصور بالقوسين والوصف العلمي كما يقوله المتخصصون في النظريات والحقائق العلمية التي تم اكتشافها في شتى العلوم. وسوف يتبين للقارئ – إن شاء الله – مدى التوافق بين الاثنين.
و بالطبع سوف اتبع نفس منهج المعجم في عرض الكلمات، فهو يصنف جذور الكلمات العربية إلى أسر كل فرد في الأسرة يبدأ بنفس الحرفين اللذان يبدأ بهما العضو الآخر ( وهذا هو الفصل المعجمي). وعلى سبيل المثال؛ فإن فصل الباء والتاء (بت) هو فصل معجمي يحمل دلالة القطع، ويكون الحرف الثالث (ما يُثلِثهٌما) هو الذي يزيد دلالة ما على دلالة القطع، التي حملها الفصل المعجمي. و يكون المعنى المحوري لل(بت) هو ضغط يتولد منه القطع ، كما في بتَّ الحبل أي قطعه، والبتر قطع خاص بالذنب كما في الأ(بت) + ر) أي الأبتر، وهو مقطوع الذيل ( قطع الذيل في الحيوان، وفي الإنسان مجاز يدل على انقطاع خلف الذكور، وكان العرب يعتبرون أن الرجل الذي لا تولد له ذكور ينقطع نسبه وذكره، أي أبتر). أما في ال (بت ك) فهو قطع بدقة وحدة، كما في بتك آذان الأنعام، وكان العرب يشقون أذن النعم لوسمها ووضع علامة لها لتميزها عن القطيع. وهو ما نقرأه في الآية الكريمة " وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ" ﴿النساء: 119﴾. (ونظن إن هذا الفعل يحمل دلالة علمية يريد الله بها أن ينبهنا لخطر التلاعب (بالبتك) في الحامض النووي (الدقيق) الذي يغير من صفات المخلوقات، وهو ما نسميه اليوم بتقنية الجينات، أو الهندسة الوراثية).
أمثلة
ما المقصود بدحو الأرض؟
الدال والحاء ومايُثلِثهٌما
(انظر المعجم المؤصل)
(دحح – دحدح) (= الفعل الثنائي المشدد)
رجل دَحْدَح : قصير غليظ البطن/ سمين/ {مستدير مٌلمْلَم}
الدح: الضرب بالكف منشورة، والدحُّ: {الدفع وإلصاق الشيء بالأرض}.
دَحَّهُ : وضعه على الأرض ثم { دَسَّه حتى لزق بها}.
المعنى المحوري (للفعل الثنائي المشدد دَحّ):
صدم أو {ضغط بعرض على جرم الشيء حتى يتداخل بعضه في بعض ململما } دون أن يرتفع كالدح بمعانيه المذكورة.
وننقل من هامش المعجم: (صوتيا):
الدال للضغط الممتد والحبس، والحاء تعبر عن احتكاك بعرض وجفاف. والفصل منهما يعبر عن {انضغاط الجرم}، كما في الدح، وهو {ضغط الشيء حتى يلصق بالأرض}. وفي ( دحو دحى) أضافت الواو معنى {الاشتمال} والياء معنى {الاتصال والتماسك}؛ فعبر التركيبان عن نوع من { كف الانبساط بجعل الشيء كالقرص}، وهذا كالجمع في الاشتمال وفيه معنى الاتصال بالاستدارة أي عدم الانقطاع مع البسط المحدود.
( دحو – دحي) (= الفعل الثلاثي):
في القرآن الكريم: "وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَٰلِكَ دَحَاهَا" ﴿30 النازعات﴾
الأُدحُوة – بالضم: مبيض النعام في الرمل. ودحا الخباز الفَرَزْدَقة ( والفرزدقة هي القطعة من العجين): بسطها ومدها ووسعها [الاستعمال العربي مأخوذ من أساس البلاغة للزمخشري ]. والمداحي: حجارة أمثال القِرَصة كانوا يحفرون حفرة ويدحون فيها بتلك الأحجار، فإن وقع الحجر فيها غلب صاحبها وإلا قٌمِرَ[ وهذا الاستعمال مأخوذ من حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم كان يلعب في مكة وهو صبي صغير بالمساحي والمداحي]. والدحو: استرسال البطن إلى أسفل وعِظَمه.
المعنى المحوري ( للفعل الثلاثي):
{ بسط الشيء بسطا جزئيا بنحو الضغط مع كف أطرافه (فتستدير ولا تنتشر متسيبة)}.
كما يفعل الخباز بالفرزدقة، وكالأدحِيّ وهو فجوة في الرمل تحدثها النعامة بجثومها وإزاحتها ما تحتها من الرمل لتَحُوز البيض. ولعبة المداحي، سميت لوضع الحجارة المذكورة في الحفر الغائرة التي تشبه المداحي، أو لأن الحجارة كالقِرَصة المبسوطة المستديرة. وكالبطن المتدلية مع استدارة. ومنه: "تَدَحَّى: اضطجع في سعة من الأرض (انبسط)، "وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَٰلِكَ دَحَاهَا" أي بسطها، وهي فعلا مبسوطة بالقدر الذي يتعايش فيه أهل كل قطر، وهذا لا يمنع أن تكون في مجملها كالكرة. وفعل (دحو) يعبر عن الأمرين. و الدَحْية – بالفتح: رئيس القوم" { يجمعهم ويمسكهم كتلة واحدة} (كالحاكم) فهو من {إمساك المنبسط}. أي { لّمه فلا يتسيب}.
وباختصار نقول معنى دحاها أي بسطها، كما يبسط الخباز قطعة العجين فيجعلها مستديرة ولكن منبسطة.
أين الحقيقة: هل الأرض منبسطة، أم كروية كما يؤكد العلم؟:
يقول القرآن الكريم " وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَٰلِكَ دَحَاهَا" أي بسطها، ويقول العلم إن الأرض كروية الشكل فأيهما صحيح؟ من علماء التفسير واللغة من هو منفتح على العلم ويحترم العلماء لأنه واحد منهم، مثل شيخنا الكريم صاحب المعجم. يقول دفاعا عن العلم والقرآن في آن واحد في شرح الآية الكريمة: " دَحَاهَا" أي بسطها، وهي فعلا مبسوطة بالقدر الذي يتعايش فيه أهل كل قطر، وهذا لا يمنع أن تكون في مجملها كالكرة ". وهذا في الحقيقة تفسير صحيح لأن الأرض فعلا تبدو مسطحة لمن يمشون عليها، والحقيقة فإن هذه الآية الكريمة لا تصف حالة الأرض الحالية، إنما تصف كيفية تكون الأرض.
المتدبر في القرآن سوف يجد الكثير من الآيات التي تتحدث عن الأرض، ويمكن تصنيفها ثلاثة أقسام:
القسم الأول خاص بخلق وتكوين الأرض، و
القسم الثاني خاص بإعداد الأرض للإنسان والحياة. و
القسم الثالث يتحدث عن نهاية الأرض استعدادا ليوم القيامة.
والتفرقة بين هذه الأقسام تحتاج إلى الإطلاع على نتائج البحوث العلمية التي تعين الإنسان على معارف مراحل الخلق، وتحتاج بعض التأمل والتفكر. فالقسم الثاني نقرأ فيه أن الله تعالى أعد لنا الأرض للحياة، وهيأها لتكون مستقرا وقرارا لنا، وجعلها لنا مهدا، ووضعها للأنام، وجعلها لنا كفاتا( أي تضمنا وتجمعنا)، وبساطا، و ذلولا، وفراشا، وهو الذي مدها وسطحها لنا. وفى كل هذه الآيات تأتي الأفعال تتلوها كلمة لكم، أي بالنسبة لما يراه ويتصوره الإنسان. أما (ما دحاها)، و(ما طحاها)، فهي أفعال تدل على كيفية خلق الأرض. ولذا لا يجب أن نربط بين دحو الأرض وشكلها الحالي الذي يبدو لنا – نحن البشر. ولكي نفهم كيفية الخلق، بطريقة أعمق وأصوب وأكثر ملائمة للوصف القرآني، فمن الضروري الاطلاع على نتائج البحوث العلمية وفهمها فهما دقيقا؛ وبذلك تزداد معرفتنا للدلالات العلمية للألفاظ القرآنية.
القرآن يأمر بالبحث العلمي
إن الصانع عز وجل يريد أن يُعَلِم الإنسان كيف صنعت الأرض، فيختار أسلوبا تعليميا عَلِمَ سبحانه أننا نحن البشر سوف نكتشفه لاحقا. وعلم سبحانه أن الإنسان قادر على خلافة الأرض "وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَٰئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي 0لأَرْضِ خَلِيفَةً "، وهو سبحانه الذي علمه الأسماء كلها، وأمره بالتفكر في آياته والتحقق في طبيعة ظواهر الكون. إن رسالته الخاتمة تنطق بذلك، يقول جل من قائل: وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا ﴿الإسراء: 36﴾ ويقول تعالى، حاثا البشر على التحقق من كيفية الصنع، "أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ ﴿17﴾ وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ ﴿18﴾ وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ ﴿19﴾ وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ ﴿20 الغاشية﴾ إذا فالبحث العلمي فريضة قرآنية، ولا مشكلة إطلاقا أن تغيب عنا الحقيقة بعض الوقت، أثناءها لا يجب أن نفقد الإيمان بصدق القرآن، بل يجب أن يظل إيماننا ثابتا لا يتزعزع. وبالنسبة لفهمنا للقول الكريم " والأرض بعد ذلك دحاها" إن الله سبحانه وتعالى استعمل الجذر الذي له المعنى المحوري للفعل الثنائي الذي تكون في اللسان العربي، واستعمله العرب في مرحلة سابقة من مراحل تطور اللسان العربي للتعبير عن البسط بالفعل دحا، أي إن الأرض كانت في بدأ تكونها قطعة من غاز وغبار كقطعة العجين فبسطها رب العالمين كما يبسط الخباز الفرذدقة. هذا الوصف هو وصف الحالة الأولية، عندما بدأت الأرض في التشكل. وبعبارة أخرى فإن فعل (دح الأرض) يصف المرحلة الأولى للخلق، وليس المرحلة اللاحقة، والتي هي عليه الآن بعد ملايين السنين استغرقتها في التكون. إن شكل الأرض الذي نراه الآن هو كروي، و يبدوا ذلك جليا في الصور التي أخذت من الفضاء للأرض. ولقد ثبت أيضا كيف تكون النظام الشمسي، ويقصد بالنظام الشمسي؛ الشمس ومجموعة كواكبها التي تدور حولها بما فيهم الأرض.
وفيما يلي سوف أنقل من المعجم المؤصل المعنى المحوري للفصل المعجمي، والمعنى المحوري المستنبط من دلالات الحروف منفصلة ثم مجتمعة (من هامش المعجم)، والمعنى المحوري للجذر الثلاثي، ولكني هذه المرة أحاول تبسيط المقارنة بين ما يستنبط من التحليل اللغوي وما يقوله العلم، وسوف أستبعد الاستعمالات اللغوية هذه المرة وأركز على المعاني المستنبطة، وأضع خطا تحت بعض الدلالات التي سوف نقابلها لاحقا بالنظرية العلمية، وسوف يشاهد القارئ الكريم بنفسه مدى التطابق في الدلالات:
* المعنى المحوري (للفعل الثنائي المشدد دَحّ):
صدم أو{ضغط بعرض على جرم الشيء حتى يتداخل بعضه في بعض ململما }
* الدلالة الصوتية:
{انضغاط الجرم} ، {ضغط االشيء حتى يلصق بالأرض}، {الاشتمال} ، {الاتصال والتماسك}، { كف الانبساط بجعل الشيء كالقرص}،
* معنى الفصل المعجمي ( دح):
{الضغط القوي على الشيء}.{ دفع الشيء بعنف لإبعاده}.
* المعنى المحوري للفعل الثلاثي (دحو – دحى):
{بسط الشيء بسطا جزئيا بنحو الضغط مع كف أطرافه (فتستدير ولا تنتشر متسيبة)}.
سوف نلاحظ إن المعنى المحوري للفعل الثنائي المشدد له دلالة تكوينية أي في مرحلة الإيجاد بداية، فدح الشيء ضغط على جرمه حتى يتداخل في بعضه بعضا. والحديث هنا ليس عن الشكل النهائي للأرض، لكنه حديث عن السحابة السديمية التي تكونت منها الأرض. وواضح أيضا من سياق الآيات الكريمة أن الله تعالى يتحدث عن المرحلة التكوينية يقول " أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ ۚ بَنَاهَا ﴿27﴾ رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا ﴿28﴾ وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا ﴿29﴾ وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَٰلِكَ دَحَاهَا ﴿30﴾ أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا ﴿31﴾ وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا ﴿32 النازعات﴾. ومن المعنى المحوري للفعل الثلاثي (دحو – دحى) يكون معنى دحاها أي ضغط عليها بعرض فتداخلت بعضها في بعض وتراكمت مادتها و وكفت أطرافها عن التسيب وتم تماسكها وأصبحت كالقرص وتم تماسكها أي أصبح لها حدود كالدائرة. وهذه هي المرحلة الأولى الأساسية لتكون الأرض (الدحو)، مستنبطة من التحليل اللغوي بالأسلوب الذي اتبعه المعجم المؤصل، فماذا عن العلم؟
ماذا يقول العلم في كيفية نشأة الأرض؟
نظرية تكون النظام الشمسي، أي تكون الشمس والأرض والقمر والكواكب الأخرى في المجموعة الشمسية، تعرف باسم نظرية " التجمع التراكمي"، أو Accretion theory بالإنجليزية. (انظر الرابط:
https://en.wikipedia.org/wiki/Accretion_(astrophysics ). وملخص هذه النظرية – وهي حقيقة علمية – يقول بأن الشمس ومجموعتها من الكواكب كانوا في الأصل سديم غازي ( = سحابة كثيفة من الغاز والتراب) أخذت تتضاغط إلى الداخل ( إلى مركز الثقل) وفي نفس الوقت تفقد بعض حرارتها وتدور حول محور يمر بوسطها. تستمر هذه العملية فترة زمنية قد تطول إلى آلاف السنين وربما الملايين. في هذه الفترة يتجمع الجزء الأكبر من السحابة مكونا ما يعرف بالشمس البدائية، والأرض البدائية (ما تبقي من غاز وتراب )، في هذه المرحلة تكون الأرض في شكل دائرة مفرطحة أو مدحوه. وهذه العملية هي التي عبر عنها القرآن الكريم بالدحو، وكما بينا فإن الدحو ضغط يبسط ويلملم كبسط الخباز للفرذدقة. ولبيان الكيفية نقدم الرسم التوضيحي التالي:
خطوات تكون الشمس والكواكب من السديم الدخاني الأول
نلاحظ في أعلى الصورة السديم الدخاني الأولي الذي تكونت منه الشمس وكواكبها التابعة لها، ونراه كسحابة مكونة من جزيئات مختلفة الأحجام غير محددة المعالم. وفي علم الفلك يطلقون لفظة الغاز على التراب الكوني ذو الجزيئات الدقيقة، ويطلقون لفظ التراب لما له جزئيات أكبر حجما في التراب الكوني، أي إن الفرق بين الغاز والتراب هو حجم الجزيئات لا أكثر، ومصطلح التراب والغاز في الفلك مختلفا عما هو عليه في الكيمياء. وفي نفس الشكل تمثل الأسهم قوي الضغط إلى الداخل التي تلملم الغاز والتراب فتقربه من بعضه بعضا مما يسبب التكاثف والتماسك، حتى يأخذ شكل القرص، وكأنه قطعة عجين ( = فرزدقة) يبسطها الخباز (بالضغط، وتحديد أطرافها). ( وهذه هي عملية الدح، أي البسط بالضغط). ونتيجة لدوران هذا الدخان ينتج التشكل على هيئة قرص ململم الأطراف.
وبعد ذلك تتراكم المادة في المركز وتكون في هذه الحالة تحت تأثير قوتين: الأولى تجمعها بالجذب إلى الداخل (مركز الثقل)، والثانية تدفعها إلى الخارج فتتسبب في دورانها. تظل هذه العملية فترة طويل (ملايين السنين) حتى يتم الاتزان. وتتحول هذه السحابة السديمية في النهاية إلى جسم كروي يتولد منه الضوء والحرارة سماه العرب الشمس، و يستحوذ على الغالبية العظمى من المادة الأولية. وفي هذه الأثناء أيضا يتحول بعض المادة المتبقية إلى كواكب وبنفس الطريقة (ضغط إلى الداخل يحولها إلى دائرة منبسطة، ثم تراكم عليها فيزيد من حجمها وتتكور في النهاية مكونة الأرض التي نراها اليوم). وهكذا تكونت الشمس والأرض، يتجاذب بعضهم مع بعض.
ويمكننا تلخيص النظرية في خطوتين:
الأولى هي تكون القرص المادي المنبسط،
والثانية تكور هذا القرص والتضاغط للداخل مع إضافة لمادته تؤدي إلى زيادة في الحجم.
وتكون الكلمة العربية التي تصف المرحلة الأولى هي الدحو. أما المرحلة الثانية فيصفها القرآن الكريم في آية أخرى كما سنرى.
هل رأيت التوافق الرائع بين دلالات الألفاظ القرآنية وما يقوله العلم والعلماء؟ صنع فوصف بدقة: "صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ"،" أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ" ﴿الملك: 14﴾
***
"وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا"
إذا كان المقصود بالدحو هو البسط بالضغط مع اللملمة، فما ما المقصود بطحو الأرض؟ يقول سبحانه في سورة الشمس: " وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا ﴿1﴾ وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا ﴿2﴾ وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا ﴿3﴾ وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا ﴿4﴾ وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا ﴿5﴾ وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا "﴿6﴾، فما معنى طحاها؟ أهو نفسه دحاها كما يقول المفسرون؟
دعنا نحلل لغويا اللفظة الكريمة بنفس الطريقة نقلا من المعجم لنري ماذا يريد القرآن الكريم أن يقول:
الطاء والحاء وما يثلثهما
(طحح – طحطح):
" طحه: رد بسطه [أي بعد بسط الشيء ضغط عليه فضغطه مرة أخرى]، وطحّه: وضع عَقِبه عليه ثم سَحَجَه [ سحَّج الخشبَ أي قشَره]
المعنى المحوري (للفعل الثنائي: طَحّ):
{انبساط الجرم شديدا عن ضغط شديد يسحقه أو يكاد}
(صوتيا، أي دلالة الحروف):
تعبر الطاء عن ضغط وتمدد، والحاء عن عرض بجفاف أو قوة، والفصل منهما يعبر عن {ضغط جرم الشيء} حتى ينبسط كما في الطح، وفي (طحو طحى) تعبر الواو والياء عن {زيادة اشتمالا أو اتصالا}. والتركيبان يعبران عن زيادة الانبساط كما في الطحا: المنبسط من الأرض.
أما في تفسير الكلمة القرآنية فيقول المعجم المؤصل:
المعنى المحوري: {انبساط أو انفراشٌ لجرم الشيء بامتداد من دفع بضغط شديد}: ( والأرض وما طحاها) بسطها من كل جانب (القرطبي) أي لأهلها كل في قطره، وهذا لا ينافي كروية شكلها العام ولا دورانها. ومنه: "القوم يطحى بعضهم بعضا :{أي يدفع بعضهم بعضا}" (بضغط)، وطحى الشيء: أي هلك { كأنما ضُغِط فسُحق}.
معنى الفصل المعجمي (طح):
هو {الانبساط عن ضغط كطح الشيء بسطه بسحجه بالعقب} – في (طحح) ، وكالطحا المنبسط من الأرض – في (طحو طحى). (أه)
ومن الاستعمال العربي (القوم يطحى بعضهم بعضا) نلمس دلالة الضغط الذي يؤدي إلى التلاحم والالتصاق، ومن طحى الشيء أي ضغط حتى سحق، وانبساط الشيء يأتي من الضغط عليه. ومن أساس البلاغة نجد استعمالات إضافية مهمة: وضربته ضربة طحا منها أي امتد، أو وقع ممتدا منبسطا على الأرض من شدة الضربة، وطحا بفلان شحمه إذا سمن أي ازداد حجما ووزنا وثقل به وزنه فانبسط على الأرض فتثقل مشيته، ومظلة طاحية: أي عظيمة منبسطة.
لكن ما علاقة هذه الاستعمالات العربية بما حدث للأرض؟ الحقيقة إن دلالات هذه الاستعمالات العربية للفعل طحا كلها حدثت في مراحل تكون الأرض أثناء تكوينها : ضغط شديد وتلاصق وزيادة في المادة المكونة، وتلاحم وانبساط وكبر الحجم. فهذه المرحلة أخذت ملايين أخرى من السنين تتراكم فيها المادة على جسم الأرض الذي بدأ في التشكل، وتنخفض درجة الحرارة تدريجيا فتضاغط و تنسحق من الضغط إلى الداخل. وكل هذا يحدث والأرض تدور حول محورها وحول الشمس الآخذة أيضا في التشكل، ف" نظرية التكاثف التراكمي" (Accretion theory ) تصف كيفية تكوّن النجوم والكواكب، أي تكون الأرض التي هي واحدة من كواكب المجموعة الشمسية. فالطحو إذن يمثل المرحلة الثانية في تكون الأرض.
دحى وطحي الأرض في يومين
إذن فالقرآن الكريم يتحدث عن الدحو والطحو وهما المرحلتان اللتان ذكرهما القرآن في الآية الكريمة" قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ" ﴿9 فصلت ﴾، فتكوّن الأرض تم على مرحلتين زمانيتين (= يومين). وفي آيات أخرى وصف إعداد الأرض لتصبح صالحة للحياة عليها في أربعة مراحل (أيام) كما يتبين في الآية التالية: " وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِّلسَّائِلِينَ" ﴿10 فصلت﴾ ومن الواضح فإن الاستعمال القرآني لكلمة اليوم في هذه الآيات تعني مرحلة زمانية، تطول أو تقصر، ولكن كل مرحلة لها ما يميزها عما بعدها.
وفي المعجم المؤصل نجد شرحا لاستعمال لفظة اليوم في القرآن، ففي القرآن استعمل لفظ اليوم مرادا به: مجرد حين ما، كما في "يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ" (36 التوبة 9)، وللتعبير عن مدة يعلمها الله تعالى كما في:" بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ" وكذلك "إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ" (54 الأعراف 7)
مزيد من التوضيح والبيان القرآني:
لم يترك القرآن الكريم صغيرة ولا كبيرة لهداية البشر في العلم إلا أحصاها، وها هو يوضح لنا معني ومواصفات السديم الذي خلقت منه الأرض والسماء (السماء كل ما علا عن الأرض)، يسميه القرآن الدخان، فما هو تعريف الدخان؟
الدال والخاء وما يثلثهما
دخان:
(دخخ – دخدخ):
الدخ بالفتح والضم : الدخان.
والمعنى المحوري:
{تخلخل أثناء الشيء المنتشر وخفة كثافته}: كالدخان المعروف.
صوتيا: الدال تعبر عن الضغط الممتد والحبس، والخاء تعبر عن تخلخل،
والفصل منهم يعبر عن
{تخلخل أثناء الشيء مع انتشاره} – كالدخان، وفي ( دخن) زادت النون التعبير
عن أن هذا { التخلخل هو في التكوين الداخلي للشيء}.
أي أن الدخان الذي خلقت منه السماء هو مادة متخلخلة الأثناء، منتشرة، قليلة الكثافة، وذو
درجة حرارة عالية، يشبه للناظر دخان الدنيا.
الأسماء القرآنية لها دلالة علمية:
ومن الغريب أيضا أننا نلاحظ أن أسم الشيء، الذي ورد ذكره في القرآن الكريم، يحمل في
طياته مواصفاته العلمية. فعندما نتأمل في كلمة دخان نفسها نجد أن لها دلالة تكوينية ( خلقية) كما وضح في تفسيرها أعلاه، وكما سيزيد وضوحا في التحليل اللغوي للفظة الشمس.
الشين والميم وما يثلثهما
(صوتيا) الشين تعبر عن تفش، والميم عن ضم التئام واستواء،
والفصل منهما يعبر عن {تجمع المنتشر} منسحبا إلى أعلى (كالأنف الأشم والشم).
وفي (شمس) تعبر السين عن نفاذ دقيق حاد، ويعبر التركيب معها عن {نفاذ هذا الدقيق الحاد من الجرم} المتجمع فيه كالشمس.
ومعنى الفصل المعجمي (شم) : جمع ما هو منتشر منسحبا إلى أعلى
والمعنى المحوري للتركيب (شمس):
{حدة بالغة تتركز في الشيء وتنفذ منه وتظهر من كثرتها} (أو شدتها، أو طاقتها العالية).
وأعلاه ذكرنا كلا من: الدلالة لكل حرف (= صوت لغوي) فالشين مثلا تعبر عن {تفش، انتشار}، والميم تعبر عن {التئام نتيجة تجمع المنتشر}، ويكون الدلالة العلمية للفصل المعجمي {شيء منتشر متفش، يتجمع ويلتئم} وهذه الدلالة تُكوّن على الأقل ثلثي دلالة اللفظ الثلاثي. بعد ذلك أضيفت السين لهذا الفصل المعجمي في مرحلة لاحقة في تطور اللغة. وفي حالة لفظة (شمس) أضافت السين {دلالة الحدة البالغة} (= الحرارة الفائقة الشدة والحدة) التي نتجت من التفاعلات النووية، ويكون المعنى المحوري معبرا لتطور دلالة لفظ (شمس) إلى: جسم ذو طاقة عالية حادة في قلبه ومركزه وتندفع منه ( أو تنفذ، أو تشع) هذه الطاقة إلى خارجه والبيئة المحيطة. فالشمس إذا: تكونت أصلا من {سحابة غازية، أو سديم، منتشر} { يتضاغط إلى الداخل ويلتئم مكونا الشكل الكروي}، ونتيجة للضغط العالي ودرجة الحرارة العالية ذو { الحدة البالغة} في المركز تبدأ التفاعلات النووية وتولد الطاقة الضوئية الحرارية التي{ تُشع وتنتشر}.
الوصف العلمي للشمس
يقول العلم إن الشمس جرم سماوي، أو نجم، كانت في بدأ تكونها {سحابة من الغاز ألنجمي المنتشر}، ونتيجة لوقوع قوى تجاذب للداخل في اتجاه مركز ثقل تلك السحابة؛ تضاغطت للداخل { تجمع المنتشر} تحت تأثير ذلك التجاذب المادي، وباستمرار التجاذب إلى الداخل ( تكورت مادة الغاز الكوني) أدى إلى تولد الضغط العالي، والذي أدى إلى التهاب القلب وبدء التفاعلات النووية الاندماجية التي ينتج عنها طاقة هائلة – وهذه هي الحدة البالغة التي يتكلم عنها المعنى المحوري – وهذه الطاقة تنشر (أي تشع) في صورة أشعة ضوئية وحرارية.
ومن التحليل أعلاه يتبين إن الدلالة العلمية للفظ الثلاثي يحمل دلالتين علميتين:
الدلالة الأولى التي يدل عليها الفصل المعجمي الذي يدل على أسلوب تكون الشيء [في مثالنا هذا السحابة الغازية التي من صفاتها الانتشار والتفش تلتئم نتيجة التجاذب إلى الداخل، أو تتضاغط في اتجاه مركز السديم]. و
الدلالة العلمية الثانية تأتي في المعنى المحوري الذي يدلل على ما أصبح عليه هذا الشيء المتفشي المنتشر إلى مركز للحدة البالغة التي تدفع الطاقة وتشعها.
و نعيد بتلخيص:
دلالة الحرف الأول: تفش وانتشار
دلالة الحرف الثاني: تجمع والتئام المنتشر
دلالة الحرف الثالث: حدة بالغة في القلب تظهر وتندفع منه.
وتكون دلالة لفظة شمس العلمية:
شيء متفش تجمع والتئم، فأصابته حدة بالغة (حرارة بالغة الشدة تنتج الضوء) في قلبه تنفذ بقوة منه.
وبالطبع نشاهد التوافق الكبير بين دلالة اللفظ والحقيقة العلمية.
***
النجم
النون والجيم وما يثلثهما
(صوتيا): النون للنفاذ الباطني اللطيف، والجيم تعبر عن جرم كثيف غير صلب، والفصل منهما يعبر عن {نفاذ كثيف غير صلب من باطن الشيء}، كالقيح من القرحة. وفي (نجم) تعبر الميم عن التئام ظاهر الجرم على ما في جوفه، ويعبر التركيب عن نفاذ جزئي أي دقيق من سطح ملتئم كنجم السماء في رقعتها.
والفصل المعجمي (نج) النفاذ بغلظ وكثافة أو قوة مما يحتوي كما يتمثل في سيلان القيح من القرحة – في (نجج) وبروز المناجم والنجوم في (نجم)
المعنى المحوري: طلوع الجرم – أو نتوءه – دقيقا من سطح ينضم عليه، كنجوم السماء تبدو دقيقة
والمعروف علميا إن النجوم، بما فيها الشمس؛ هي أجرام سماوية ينفذ منها الضوء بقوة بعد أن تولده (أي بعد أن يتولد بداخلها).
ومن هنا نرى إن مجرد اختيار القرآن لهذا اللفظ يكون معبرا ودالا على صفة من صفاته، سواء تكوينية أو وظيفية.
***
الأرض
الراء والضاد وما يثلثهما
(صوتيا): تعبر الراء عن استرسال الجرم برقته أو حركته؛ والضاد عن الغلظ مع طراءة وليونة، فيعبر الفصل منهما عن {تضخم الشيء مع طراءة ورطوبة}، كالبعير الرضراض الكثير اللحم. وفي أرض سبقت الهمزة بضغطها الذي يعطي التجمع والتكتل، وعبر التركيب معها عن { زيادة تجمٌّع تتمثل في الضخامة أو الكثافة مع رخاوة ما} كالأرض.
معنى الفصل المعجمي ( رض): {تضخم الجرم مع رخاوة باطنه} كما يتمثل ذلك في كثافة جِرْم الأرض أو ضخامتها مع لطف باطنها المتمثل في إنباتها مالا يحاط به من النبات الذي هو غض في أول أمره وغالب حاله – في (أرض).
(أرض): المعنى المحوري: { كثافة الجرم مع غِنَى باطنه بلطيف تقوم به وعليه الأشياء} – كهذه الأرض التي نحن عليها، فهي كثيفة الجرم وتحمل كل ما عليها، وغنية الباطن بما ينبت النبات.
وفي استنباطنا للدلالة العلمية للفظة الأرض نقول: في بداية نشأة الأرض {تضخم جرمها} والتف حول قلبها {الرخو} ، من الحديد والنيكل المنصهر، والأرض من الكواكب الأربعة الأقرب إلى الشمس، وهي من الكواكب الصخرية عالية الكثافة، أما الكواكب الأربعة الأخرى فهي غازية. ومن المعنى المحوري نأخذ دلالة التفاف طبقات الأرض الأخرى حول الحديد والنيكل.
أما كيفية تَكَوّن الأرض فتظهر بجلاء في التحليل اللغوي لفعلي الدحو والطحو ذات الفصل المعجمي (دح)، و ( طح)، المشروحة أعلاه.
***
القمر
القاف والميم وما يثلثهما
(صوتيا): تعبر القاف عن تعقد وتجمع في العمق، والميم عن تضام ظاهر واستوائه. والفصل منهما يعبر عن {جمع منتشر على الظاهر جمعا مستقصيا، يكون تراكمه تسنُّمَا} ( أي علوا) كقَمّ البيت (أي كنسه) وقمة النخلة. وفي قمر تعبر الراء عن استرسال، ويعبر التركيب عن استرسال التجمع ازدياد أو محاولة كقمر السماء وقمر المقامر.
والمعنى المحوري ل( قمر) { تزايد أو استرسال في الضم والتجمع}. كجرم القمر يتزايد ليلة فليلة حتى الخامسة عشرة، ثم حملوا سائره على أوله، وكأخذ المقامر من صاحبه، وأخذ الصيد والزوجة.
الفصل المعجمي (قم) : {تجمع الشيء أو تضامه في كتلة قوية} مع تسنم أو ارتفاع. كما يتمثل في تجمع جِرم القمر وتزايده ليلة بعد أخرى.
ونلاحظ إن دلالات التجمع والتضخم تظهر في كل من لفظتي الأرض والقمر وذلك لأن الشمس والأرض والقمر صنعا من سحابة دخانية واحدة استحوذت الشمس على الغالبية، والأرض على المتبقي، ثم تزايد الاسترسال في الضم والجمع في القمر.
***
تعريف الكوكب
الكاف والكاف وما يثلثهما
( كوكب)؛ [ قيل في هذا التركيب إنه رباعي ، والواو أصلية، وإنه من ( ,كب) أو ( كوب) والكاف زائدة. والصاغاني تبع الجوهري الذي ربما تبع (الخليل في) العين في وضعه هنا. وإضافتي – يتابع صاحب المعجم – أن معنى الكوكب لا تناسب استعمالات ( وكب) التي من عناصر معناها السواد عكس ما هنا].
المعنى المحوري: { لمعان الشيء المتجمع أو المتكتل}، كالنجم، والبياض في سواد العين وكبريق الحديد والحصى والنور. ولمعنى التجمع قالوا: كوكب كل شيء معظمه…. والذي جاء من هذا التركيب في القرآن هو كوكب السماء وجمعه كواكب "إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب" [الصافات: 6]
وأود أن أضيف: إن القرآن الكريم يرجح هذا المعنى المحوري الذي توصل إليه صاحب المعجم.
ونلاحظ أيضا إن القرآن اختار الاسم الذي يحمل أظهر أوصاف الكوكب بحيث يكون من السهل التعرف عليه، وهو اللمعان الذي يميز الكوكب عن غيره من الأجرام السماوية، بالنسبة لنا على الأرض.
أسلوب قرآني آخر في التفصيل العلمي
يمكن تأكيد المفهوم أعلاه؛ بأسلوب (شرح القرآن للقرآن) أو ما أسميته ، أسلوب (الإحكام والتفصيل)، حيث يحكم الله تعالى اختيار المفردة القرآنية لتعطي دلالة محددة، لا تتوافر في غيرها من مترادفات، ويفسد المعنى المراد إذا استعملت أحد المترادفات ( الترادف عند البشر جائز للشرح والتوضيح والتقريب، ولكنه لا يجوز في القرآن، فلكل لفظ دلالته). وبعد الإحكام؛ يفصل الله تعالى المراد في آيات أخرى متناثرة في أرجاء القرآن. ويمكننا التعرف على الدلالة ألمراده بجمع استعمالات الكلمة في المواضع المختلفة الواردة في القرآن الكريم، باستخدام البحث الالكتروني في القرآن باستخدام الجذر ( الثلاثي)، ثم نستنبط المعنى.
ولكي نوضح بأسلوب عملي كيف يُعرف لنا القرآن الكريم ما معنى الكوكب؛ نجمع كل ما ورد في القرآن من آيات بها لفظة الكوكب، فنجدها كما يلي:
1. فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَىٰ كَوْكَبًا قَالَ هَٰذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ ﴿الأنعام: 76﴾ ومن هذه الآية الكريمة نستنبط إن الكوكب لا يظهر إلا بالليل عندما يختفي ضياء الشمس، أي إن نوره ضعيف نسبيا.
2. إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ ﴿يوسف: 4﴾ من هذه الآية الكريمة نستنبط إن الكوكب من عائلة الشمس والقمر أي جرم سماوي مثلهما. وإن الكواكب متعددة في السماء.
3. اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَىٰ نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴿النور: 35﴾ والكوكب الدرّيّ: منسوب إلى الدرّ أي: أبيض متلألئ. ومنها نفهم إن الكوكب هو الجرم الذي يبدو لنا أبيض متلألئ.
4. إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ ﴿الصافات: 6﴾ جمع كوكب كواكب ترصع صفحة السماء وهي متعددة.
5. وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ ﴿الإنفطار: 2﴾ وهي آية تتحدث عن انتثار الكواكب يوم النهاية.
ومن هذا المثال يبدو لنا كيف وصف لنا القرآن المراد بذكره لفظة كوكب. وتوجد عشرات الأمثلة تبين تكرار هذا الأسلوب القرآني التفصيلي المذكور في الآية الكريمة " الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ" ﴿هود: 1﴾
***
أرجو أن يكون هذا البحث سهلا للفهم ومبينا أهمية هذا المنهج الجديد في التحليل اللغوي لألفاظ القرآن الكريم، وأدعو الله تعالى أن يشرح صدر من يقرأه لما فيه من صواب وحق، حتى يتأتي يوم نزاوج فيه بين القرآن والبحوث العلمية، ونتأكد من إن القرآن الكريم كتاب علوم، أو بتعبير القرآن كتاب هداية، فنتخذه نبراسا لحياتنا نستفيض من علومه ونؤكدها ونشرحها بالبحث العلمي الرصين، فنكون بذلك جديرين بالشهادة على الناس. ومن هنا أقترح إدخال تدريس العلوم الطبيعية – بشكل مبسط – لكل طلبة الماجستير والدكتوراة الذين ينون التخصص في التفسير. أما من تخرجوا فليس في طلب العلم خجل أو تكبر خاصة عندما نشتغل بتفسير كتاب الله تعالى.
" رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا ۚ رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ"
" لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ۚ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ۗ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ۚ رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا ۚ رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ ۖ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا ۚ أَنتَ مَوْلَانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ " صدق العلي العظيم
كيميائي وفيزيائي
د. محيي الدين عبد الغني – النرويج
للتواصل والاستفسار والتعليق
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.