أ.د.إلهام سيف الدولة حمدان – مصر جدل بيزنطي .. سوق عكاظ .. إختلط الحابل بالنابل !! كلمات طنانة محملة على اللغة العربية؛ للأسف لم يتوقف معظمنا للبحث والتقصي عن معانيها ومحاولة سبر أغوارها ودلالاتها ومراميها، ونتبادلها في حواراتنا الحنجورية التي تنتهي بنا دائمًا إلى اللاشيء، والوصول إلى الطرق المسدودة المعوجة عن الصواب، لنبدأ الهرطقات من جديد، ولكن بعد أن يكون ثوب علاقاتنا القشيب قد تمزق وتهرأ، وربما .. اختلط بالدماء ! وحتى لانذهب بعيدًا .. فالمقصود أن نحاول الإقترب أو التقارب بأفكارنا وعقولنا وأرواحنا من بعضنا البعض، ليستوي قارب المحبة والود على صفحة نهرالحياة ولا تعصف به العواصف والأنواء؛ من أجل مصالح ضيقة ونظرة قاصرة عن إدراك معنى التلاحم والتفاهم؛ لاستقامة المسيرة الحياتية داخل المجتمع، ولنصل إلى قناعة أن اختلاف الرأي كما يقولون لايفسد للود قضية، وأن الاختلاف لايعني الخلاف والقطيعة؛ وأن تسمح لك ثقافتك العاجزة عن الإقناع والإقتناع، بأن تغادر لغة الحوارغير مأسوف عليك، وتختنق كمدًا؛ ولا تجد إلا الهرب من المواجهة، وتضع يدك على مسدسك !! فالجدل البيزنطي هو نقاش لا طائل تحته، يتناقش فيه طرفان دون أن يقنع أحدهما الآخر، ودون أن يتنازل كلاهما عن وجهة نظره، مما قد يؤدي إلى اختلال في التوازن الفكري لدى أحد الطرفين، أو ربما كليهما. يُنسب هذا الجدل إلى بيزنطة عاصمة الإمبراطورية البيزنطية التي عُرفت أيضًا بالقسطنطينية . ويُرجع المؤرخون أصول هذا التعبير إلى القرن السابع الميلادي، عندما شُغف مواطنو الإمبراطورية البيزنطية بالجدل اللاهوتي، ودرج البيزنطيون في مجالسهم على الجدل حول عوالم ميتافزيقية، وكانت هذه الجدليات تلهب الأجواء بين البيزنطيين بمختلف طبقاتهم الاجتماعية والفكرية، غير أن ذلك لم يُجدِ نفعًا، واستمر الجدل في الإمبراطورية البيزنطية حتى القرن الخامس عشر، وصارت مثلاً . أما التندر بالإشارة إلى حوارٍ يشبه حوار الصُّم بكلمة :"كأننا في سوق عكاظ" ، فقد كان أحد الأسواق الثلاثة الكبرى في الجاهلية، بالإضافة إلى سوق "مجنة" وسوق "ذي المجاز"، وكانت العرب تأتيه من أول ذي القعدة إلى يوم 20 منه، ثم تسير إلى سوق مجنة فتقضي فيه الأيام العشر الأواخر من شهر ذي القعدة ثم تسير إلى سوق ذي المجاز فتقضي فيه الأيام الثمانية الأولى من شهر ذي الحجة ثم تسير إلى حجها، وسكان سوق عكاظ الأوائل هم قبيلة هوازن وقبيلة عدوان .وسمي بهذا الاسم لأن العرب كانت تجتمع فيه فيتعاكظون أي يتفاخرون ويتناشدون . ويعد (عكاظ) سوقاً لكل البضائع المادية والأدبية، فإضافة إلى البضائع المادية كالتمر والسمن والعسل والخمر والملابس والإبل. فهو سوق للبضائع الأدبية، فيأتي الشعراء بقصائدهم لتعرض على محكِّمين من كبار الشعراء، معظمهم أو كلهم من بني تميم. ومن المظاهر التي كانت تسود سوق عكاظ: المفاخرة والمنافرة بين الناس، وربما قامت حروب بسبب منافرات قيلت في السوق، لتندلع نيران الحرب بين القبائل بسبب تلك الخلافات غير المجدية .. وما أشبه الليلة بالبارحة فيما نراه يحدث الآن من حولنا هذه الأيام في عالمنا العربي، هذا العالم الذى يكاد لايجتمع على كلمة سواء . وأخيرًا .. فقد قالت العرب ومازالت تقول:( إختلط الحابل بالنابل ) فما معنى ذلك؟ هنالك عدة تفسيرات: ففي الحرب: قد يختلط الرماة بالسهام مع الرماة بالرماح، وإختلط الحابل بالنابل أي: الحابل الذي يصيد بالحبالة، والنابل الذي يصيده بالنبل، فيُضرب ذلك في إختلاط الرأي وتضاربه. وقيل : أن الحابل هم الذين يمسكون حبال الخيل والجمال فى الحرب. والنابل هم الذين يرمون بالسهام . وهناك تفسير أقرب إلى الصواب في أصل هذا المثل؛ هو أن الراعي بعد موسم عشار الماعز يعرّب القطيع فيجعل المعاشير وهي "الماعزغزيرة اللبن" على حدة، وغير المعاشير على حدة ، وذلك ليبيعها، ويحتفظ بالمعاشير لتدر عليه أرباحا وفيرة، وتسمى المعاشير "حابل" وغير المعاشير "نابل"، ويحدث في كثير من الأحيان أن تختلط مع غير المعاشير فيستاء الراعي ويقول: اختلط الحابل بالنابل، ويقال هذا المثل حين تختلف الآراء ويكثر الجدل، ويضرب عندما تتعقد الأمور و يتوه صاحبها في دوامة الحيرة . وخلاصة القول في إيراد هذه التفسيرات اللغوية؛ لما نتعامل به في لغة حياتنا اليومية، هو تجنب اتساع هوة الخلاف بين أصحاب الآراء السياسية والدينية والعقائدية والأدبية والفنية، وهذا لن يتأتى لنا جني ثماره المرجوة؛ إلا بغرس المباديء السامية في نفوس الصغار والأجيال الجديدة؛ بتعلم أدبيات الحوار والمناقشة، وتقبل الرأي الآخر، ومقارعة الحُجة بالحُجة، ولا يكتفي بالتعليم والتلقين لهذه المباديء، بل لابد من الخروج بها إلى حيز الممارسة الفعلية في البيت والمدرسة والجامعة وسائر فصائل المجتمع على اختلاف توجهاتها، لتكون مقولة: التعليم في الصغر كالنقش على الحجر، مقولة حقيقية ذات نفع وتقدير لدى كل الشباب الواعد، ليؤمن بها عن قناعة تامة وممارسة واعية بكل جوانبها وآثارها، تصل بالمجتمع إلى قمة التحضر والرقي، دون ضيق أو تذمر من الخلاف في الرأي، طالما كانت القناعات بعيدة ولا تمس جوهر المباديء والمثل التي لاخلاف عليها ؛ وأن حرية الوطن وحدوده هي الخط الأحمر الذي لايجب تجاوزه مطلقًا . أستاذ العلوم اللغوية بأكاديمية الفنون