أ.د. إلهام سيف الدولة حمدان – مصر لاشك أن لكل نجاح وتقدم للبشرية؛ لابد أن تقابله ضريبة نظير هذا النجاح، والضريبة هي المقدار المدفوع ماديًا أو معنويًا، فالمكاسب المادية للأفراد؛ يتم دفع نسبة منها كضرائب تحصلها الدولة لتمويل الخدمات التي تقدمها لشعويها . ولكن التقدم والمدنية وازدياد العمران ووجود المصانع داخل أو بالقرب من التجمعات السكنية؛ تقابله ضرائب باهظة من كوارث التلوث السمعي نتيجة التوسع في استخدام الآلات ووسائل التكنولوجيا الحديثة . وصحيح أن الأصوات جزء لايتجزأ من صميم حياتنا اليومية، فهي أداة للتواصل والاتصال، وتمدنا بالمتعة المحببة من خلال الاستماع للموسيقا أو لأصوات الطيور، أو من خلال وسائل التنبيه لأجراس الأبواب أو صفارات الإنذار بين الفينة والفينة، ولكنها تحولت الآن إلى مصدر من مصادر الإزعاج والتوتر العصبي، واندرجت تحت مسمى "الضوصاء" غير المحببة، فالبون شاسع بين الاستماع إلى الموسيقا في جلسة استرخاء وهدوء؛ وبين الاستماع لعشرات الميكروفونات التى تصدح بالموسيقا النشاز، وألأغاني الهابطة التى ما أنزل الله بها من سلطان؛ من سرادقات الأفراح المقامة في الشوارع والحواري؛ دون أدنى مراعاة لظروف ساكنيها وأحوالهم المرضية والعصبية، وما أدراك بما تصنعه تلك الضوضاء من تأثير سلبي على الناحية النفسية، وعدم القدرة على تحمل الأصوات العالية لكونها تفوق ما يمكن أن تتحمله تركيبة المخ البشري وقدرته المحدودة التي وهبها الله له، فهذا يُحدث الخلل في كل الخلايا الجسدية للتركيبة الإنسانية الربانية. والمؤسف هنا هو التحول من التفاخر والتغني بقاهرة الألف مئذنة هذا بخلاف الدكاكين التي تحولت إلى مساجد أسفل العمارات في كل شارع وكيف تحولت إلى مدينة صاخبة تضج بأصوات الميكروفونات في كل وقت، ووصل الأمر إلى استخدامها كوسيلة للنداء على الأطفال التائهين، وتزف البشرى لأهالي الحي بافتتاح المحال الجديدة، وإعلان قائمة آخر أسعار السلع والمنتجات، والتنبيه إلى الخدمات التعليمية في مراكز الدروس الخصوصية التي انتشرت كالوباء، وكل هذا يتم دون أدنى قابلية للسيطرة من أي سلطة مدنية أو شرطية ! والويل والثبور والتهديد بعظائم الأمور؛ إذا ماتجرأ أي إنسان وطالب بتخفيض أصوات تلك الميكروفونات، فإنه حتمًا سيلقى مالا يحمد عقباه، علاوة على التهمة الجاهزة بالكفر والإلحاد والخروج على إجماع الأمة، ومحاربة الدين الحنيف بمحاولة إسكات أبواق الدعاية لعبادة الله الواحد القهار، بل قد يصل الأمر إلى الدعوة الصريحة إلى إهدار دمه على الملأ، والتحريض على قتله؛ بحسب المفاهيم العقائدية المغلوطة والمندسة على عقول البسطاء، وما أكثر العقول الضعيفة المغيبة التي تعتنق الفتاوى التي تصدر من المتسلقين على منابر هذه المساجد ! ثم نأتي إلى الجريمة الكبرى التي ارتكبت بحق الوطن والمواطن؛ والمتمثلة في انتشارهذه الآلة الجهنمية التي تجري في شوارع المدن الكبرى وعلى الطرق السريعة بين المحافظات بلا ضابط ولا رابط، ألا وهي المركبة الأضحوكة المسماة بال توك توك، والتي يبدو أنها لا تسير بالوقود العادي من البنزين أو السولار أو الغاز، ولكنها تسير بمكبرات الصوت من السماعات العملاقة التي يُصر سائقيها على إطلاق طنينها المرعب آناء الليل وأطراف النهار، دون مراعاة لأدنى القواعد الأخلاقية والمهنية، ناهيك عن الإصرار على السير عكس كل الاتجاهات، مما يؤدي إلى وقوع الحوادث الكارثية، وإراقة دماء الأبرياء ، وبرغم كل النداءات المطالبة بإيقاف تلك الآلة الجهنمية وما تحويه من مكبرات الصوت التي تزيد من حجم وكثافة الضوضاء في كل شارع من شوارع المدن والمحافظات ، فإنه لا حياة لمن تنادي !! هذا بالإضافة إلى ما أثبتته الأبحاث العلمية أخيرًا أن للضوضاء تأثيرًا سلبيًا على الأجنة في بطون الحوامل، خاصة بين العاملات في المصانع والأوساط المتعرضة لدرجات متفاوتة من الضوضاء بسبب حساسية الجهاز العصبي للأجنة، مما يعرضها للإصابة بأمراض عصبية وقلق وتوتر بعد الولادة . ولا يخفى على المتابعين لتلك المشكلة ومتابعي المصادر المتنوعة المسببة للضوضاء، وما لها من تأثيرات مباشرة وسلبية على الإنسان الذي يتفاعل معها ويتأثر بها، وتؤثر على مدى ردود أفعاله تجاه الآخرين بالتأثير على قدراتهم العقلية والنفسية، فإنها تؤثر بالتالي على صحته البدنية والجسمانية . ولنا في هذا الصدد؛ أن نلجأ إلى رأي العلماء والأطباء الذين يحذرون من كارثة التأثير الفسيولوجي للضوضاء؛ فيقولون أن الأذن الوسطى تعاني من آلام مؤقتة أو مستمرة ناتجة عن التعرض المستمر للضجيج، مما ينتج عنه إصابات الأذن الداخلية وعصب السمع بفقدان السمع الجزئي أو الكلى أو نقص حاسة السمع للأصوات بصفة عامة، فنجد أن بعض الأشخاص الذين يتعرضون للضوضاء الصناعية يعانون حالة من الإعياء السمعي المؤقت الذي يتميز بحدوث صمم جزئي يكون أكثر وضوحاً عند بعض الترددات، ومن الملاحظ أن هناك أعراضا مباشرة تظهر على الإنسان في حال تعرضه لأصوات عالية جداً، وذلك بأن يرفع صوته بلا شعور عند التحدث ولا يستطيع سماع شخص آخر على بعد متر منه، ويشعر أيضاً بأن الحديث حوله أو الجو المحيط به مشوش ؛ بحيث يشعر بطنين مستمر في أذنيه إضافة إلى الشعور بالألم. وبظهور وسائل الأمن الصناعي تم فرض مستوى ضوضاء معين تعارف عليه العلماء وأطباء الأذن، وكانت نصيحتهم بتقليل فترة ساعات العمل كلما زاد مستوى الضوضاء، مع توفير سماعات واقية للأذنين خلال العمل وفرض ارتدائها أثناء العمل . انقذونا من كارثة التلوث السمعي .. حتى لانصبح دولة من الطرشان ! أستاذ العلوم اللغوية أكاديمية الفنون