من بحثي (سيبويه والمدرسة التوليدية التحويلية) إنَّ أهم سبب لتقدُّم التَّفكير اللُّغوي عند النُّحاة العرب هو اعتمادهم المنهج الوظيفي في التحليل. ولذلك نجد أنَّ كتابَ سيبويه قادرٌ على الوقوف بثباتٍ على صعيدٍ واحدٍ إزاء أشهر وأحدث كتب النحو الوظيفي المعاصرة في الغرب، ومنها على سبيل المثال كتاب عالم اللغة الإنجليزي المعاصر "ها ليدي" المعنون (مقدمة في النَّحو الوظيفي) الصادر بطبعته الثانية عام 1994م. حيث يمكن للتَّحليل التَّفسيري المُقارن المُنصف تقديم عشرات البراهين النَّصيَّة التي تقطع بصحة كون كتاب سيبويه هو أول كتاب في تأريخ علم اللغة العام ، يعرض ويُطوِّر العديد من النَّظريَّات اللِّسانيَّة التي لم تُعرف إلا في القرن العشرين، ومنها النَّظريَّة الوصفيَّة للغة (وليس المعيارية) ، ونظرية الاتِّسام (marked ness)، والبنية المعلوماتية للكلام (بإزاء البنية القواعدية)، ونظرية العامل، والصفات المُميزة للأصوات اللُّغوية(Distinctive Features) ، والبنية الهرمية للمكونات الأساسية للكلام، واختصاص النحو بدراسة الكلام المسموع (وليس الأدب المكتوب) ، ونظرية تدرج مستويات القبول لقواعد الكلام. وعلاوة على ذلك فإنَّ الكتاب يعرض العديد من المفاهيم اللغوية الأساسية ويُطوِّرُها، ومنها مفهوم الإصابة في الكلام، والمحل وشاغل المحل، والمحذوف، واكتساب العبارة منزلة المثل، والوحدة الصوتية الصغرى، والمستوى الصرفي الصوتي للوصف، والبنية السطحية والعميقة، ووصف الأصوات حسب ترتيب مخارجها وصفاتها ، ومبدأ اختصار الجهد في التعبير والعلة. ووصف مختلف اللهجات القائمة، وعرض أفعال الخطاب المحذوفة، والتنويعات في الصوت الواحد، و العلاقات الدلالية.كما أنَّ الكتاب يُميز بين مفهومي أقسام الكلام والأصناف الوظيفية، وبين العلاقات التبعية والمستقلة، وبين علم اللُّغة التَّزامي وعلم اللُّغة التَّتابعي (التَّاريخي)، وبين لغة الكلام ولغة الشعر. كما يُقدِّم التَّصنيف الثلاثي العالمي لأقسام الكلام إلى (اسم وفعل وحرف).وفي علم الصوت يُقدِّم الكتاب وصفاً مُتقدِّماً لمفاهيم جديدة مثل الأصوات المجهورة والمهموسة،وبنية المقطع الصوتي والإدغام والحذف والهمز والإطباق والأصوات المقاربة المفتوحة والمعلقة. ومن بين أصناف الأصوات الموصوفة بدقة الأصوات الشفوية والمقطعية واللثوية والخيشومية والشجرية والطبقية واللهوية والحلقية والحنجرية أمَّا بخصوص الإجراءات المتبعة في التحليل فإنَّ الكتاب هو أول مصنف نحوي يُؤسس أحكامه بالاستناد إلى اختبارات الخطأ والصَّواب، وباستخدام الأنموذج (( Exempla، وباستشارة فُصحاء العرب، وكذلك الاستعانة بآراء غيره من كبار النُّحاة. كما أنَّ منهجه الوصفي المُنتظم ينتقل من العام إلى الخاص، ويرتبط بين التجليات المُتباينة للظَّاهرة النَّحويَّة الواحدة. وبالنسبة إلى إرساء المعايير الوافية للوصف، فإنَّ الكتاب يقدم أتم وصفٍ لغوي للعربية الفصحى إلى يومنا هذا. أمَّا البحث والشَّرح العلمي للقضايا النحوية الخلافية فيعتمد إيراد مختلف وجهات النظر لغيره من النحاة من سابقيه ومعاصريه بأسلوب تراكمي بناء يجمع بين عمق التحليل وتفادي القفز فوق سابقيه من النحويين. وخلافاً للنحو اليوناني القديم فإنَّ الكتاب لا يعتبر النصوص الأدبية هي التعبير المثالي للغة؛ لكون الوصف فيه يستند على الكلام المسموع حسب . أمَّا لغة الشعر فيصفها بأنَّها لغة لها قواعدها الخاصة الخاضعة للضرورات الشعرية. و بعكس النحو اليوناني فإنَّ الكتاب يُقدِّم تحليلاً وصفياً و ليس معيارياً للغة ، وذلك بالتَّحليل العلمي لأبنيتها دون الاستناد إلى المفاهيم المنطقية أو الفلسفية . وكتاب سيبويه يعرض تحليلاً من الأعلى إلى الأسفل للغة باعتبارها نظاماً متعدد المستويات لأنظمةٍ جزئية ، وظيفته الأساس نقل المعنى عبر كل مستويات التعبير. ويظهر استخدام المنهج الوظيفي لوصف اللغة، وفي اختيار المصطلحات، وفي ربط المعنى بالسياق (Context Of situation)، وفي إعطاء الأولوية للعلاقات الاختيارية على حساب العلاقات التعاقبية، وفي تحليل مختلف خطوط الأبنية المتوازية في الكلام. وخلاصة القول: إنَّ كتاب سيبويه هو الذي يُقدِّم الوصف الأشمل للغة في كل مستويات التَّحليل. وكذلك الاستخدام الأوسع في كتاب سيبويه لنظريات الاتِّسام والاقتصاد في الجهد والعامل والتفضيل والأوزان والعلل والمحل وشاغله، ودراسة العمليات الصرفية الصوتية والتنويعات اللهجية ومفهوم الإصابة النحوية . ويُعد "كتاب سيبويه "الكتاب" منطلق التحليل النحوي العربي في تاريخ الدراسات النحوية التركيبية. ولو استطاع العرب فهم كتاب سيبويه فهم رواية ودراية وعمق؛ لنبشوا حقائق نحوية من هذا الكتاب لا تقل أهمية عن الحقائق النحوية التي أتى بها عالم اللسانيات الأمريكي نوم تشومسكي، ولكنَّ هذا يحتاج إلى جهدٍ كبيرٍ جداً".