طُيور – هي لا تنامُ تمامًا

بقلم: فريد قاسم غانم
(1)
هي لا تنامُ تمامًا.
تقفُ في فضاءِ اللّيلِ النّحيفِ، تحملُ الأشجارَ بين أصابعِها وتغفو. النّومُ عندَها وهمٌ ضروريٌّ. والوهمُ، حين يصيرُ ضرورةً، يُفسِّخُ سائرَ الأشياء.
ها هي ما زالتْ تلتحفُ بطبقاتٍ من الأرديَةِ الدّاكنةِ وتتربّصُ بأوّلِ خيطٍ قادمٍ من الشّرق. الخيوطُ تأتي من الشّرق، تقولُ الحكايةُ. ولكلِّ مكانٍ شرقُهُ، تقولُ حكايةٌ ثانيةٌ.
وها هي تحملُ بينَ أصابعِها المُقصّبةِ تعبَ النّهارِ وأعمدةً وأشجارًا وأسلاكَ الهاتفِ والكهرباء، وتحلمُ بالماءِ والسَّماء.
(2)
أيقظتني قُبيلَ الفَجرِ.
بينَ أصابعِها الكرةُ الأرضيّة، مُعلّقةً على مخلَبٍ فوقَ هاويةٍ. وهي تقفزُ من حالةٍ إلى حالة وتُتقنُ لُعبةَ الإفصاحِ والإبهام…
وقعُ حوافرِ دبّابةٍ في الطَّريق. رتلُ سُعالٍ طفيفٍ. وطواطٌ يعودُ إلى كهفِه البعيد على حاملةِ طائرات. عذراءُ تتثاءبُ فيتّسِعُ الأفقُ. حبّاتُ دمعٍ عندَ المُفترقات. كتابٌ يحلّقُ بألفِ جناح. أوراقي تختمرُ على الأتربة الرّطبة وتُثمرُ أبقارًا وباذنجانًا. موتوراتٌ نائمةٌ بلا أحلام. وجهٌ مألوفٌ يُطلُّ ويختفي. نداءُ بومةٍ. هرولةُ فئرانٍ فوق الجُرف. بيضةٌ لا نهائيةٌ تلتفُّ حولَ عددٍ لا نهائيٍّ من البيضاتِ النّهائيّة.
(3)
وها هي توقظُني عندَ الفَجر.
أستندُ بظهري إلى سريرٍ عاجزٍ، يئنُّ من وجعِ الخَشَب. أحملُ سقفي بعينيَّ المفتوحتَيْن وأختفي خلفَ جفنيَّ.
وها هي تطيرُ عندَ الفجرِ سِربًا لا ينتهي من الأشياء؛
محراثًا في شكلِ كافٍ،
سكّةً تشبِهُ السّين،
جُرنًا يأخذُ هيئةَ النّون،
مسمارًا يُقلِّدُ الصُّداعَ القديم،
ذراعًا يشبِهُ رقصةَ الحبوبِ فوقَ هواءِ الحقول،
صحنًا جائعًا،
دجاجةً بلا ريشٍ،
حذوةً لحصانٍ أعرج،
لِسانًا يلعقُ حساءَ اللّسان،
منجلًا يقطعُ رؤوسَ القمحِ،
منشارًا يباغتُ الغابات،
عِقدًا من الجماجم على صدرِ جميلةٍ،
صخرةً هابطةً من ظهرِ سيزيف،
نبعًا متفسّخًا تسكنُهُ الضّفادعُ الجاحطة،
فراشةً بلا أجنحةٍ،
أسماكًا تُطلقُ النّارَ على الصيّادين،
وجهَ كركدنٍّ معلّقٍ على قرنِه،
نابًا في شكلِ راءٍ…
(4)
وها هي توقظني عندَ الفجر.
صحوةٌ ناعسةُ تطرقُ الأبواب.
زقزقاتُ الدّوريّ تنهمرُ على الصّفيح.
تسقطُ الأسلاكُ من بينِ مخالبِها.
تتمسَّكُ الأشجارُ بجذورها.
تتدحرجُ الأرضُ على سفحِ الهواء.
ثمَّ، رويدًا رويدًا، تمتدُّ الخيوطُ من الشّرقِ وترسمُ ملامحَ كلِّ شيء. فتطيرُ العصافيرُ من صدري، ويحطُّ سربُ الحروفِ والنّقاطِ على نافذتي في شكلِ كلمةٍ لستُ أفهمُها.