تعتبر مسألة اشتراك عمر الشريف فى فيلم « لورنس العرب » مغامرة فنية وحياتية له ، فقد كان يعمل فى السينما المصرية وله فيها مكانة كبيرة ، فغامر بكل هذا الجهد مغامرة كبيرة وهو ذاهب الى الأردن ، وهى رحلته لتحقيق طموحاته فى العالمية . ونجحت هذه المغامرة ، بل وكانت بمثابة التجربة الفنية والحياتية الهامة فى مشوار عمر الشريف السينمائى . قضى عمر الشريف عامان كاملان من الإعداد والتصوير فى صحراء الأردن ، كانا بمثابة المختبر الفنى الحقيقى الأول بالنسبة له ، تعلم من خلالهما الكثير عن السينما والحياة ، فقد تسنى له – ولأول مرة – لقاء كبار السينمائيين مثل : « ديفيد لين ، بيتر أوتول ، أنتوني كوين ، أليك جينس » . تعلم منهم كيف يمثل بعينيه لا بحركات جسمه فقط ، وكيف يعود الى ذاته فيتصوف ، وكيف لا يرى النساء إلا خلال زياراته الخاطفة لبيروت مع صديقه بيتر أوتول . ومن خلال فيلم « لورنس العرب » ، وضع عمر الشريف نفسه أمام تجربة المشوار الطويل ، وأمام الفن العالمى الحقيقى ، والذى لا يشبه فى إنتاجه وإخراجه وإمكانياته ما يعادله فى السينما المصرية . بعد فيلم « لورنس العرب » ، ظهر عمر الشريف فى عدة أفلام كبطل رئيسى ، فجسد دور جنكيزخان أمام الممثلة الفرنسية « فرانسواز دورلياك » ، ولعب دور الكاهن فى فيلم « أنظر الحصان الشاحب » تحت إدارة المخرج الأمريكى « فريد زينمان » مع « أنتونى كوين ، وجريجور بيك » . وقف عمر الشريف أمام الفنانة الإيطالية الشهيرة « صوفيا لورين » في فيلم « سقوط الإمبراطورية الرومانية » ، وأمام »إنجريد بيرجمان » في فيلم « الرولزرويس الصفراء » ، ووقف مرة أخرى مع « بيتر أوتول » فى فيلم « ليلة الجنرالات » ، وأمام « كاترين دينوف » فى فيلم « مايرلينغ » ، كما مثل فى فيلم « ذهب ماكينا » . وفى عام 1967 مثل دور البطولة مع اليهودية بربارا ستريسند فى فيلم « الفتاة المرحة » . وكانت ردود الفعل عند العرب ذلك الإستنكار التام ، خصوصاً وإن العمل في هذا الفيلم تزامن مع هزيمة 1967 ، وعندما نشر فى إحدى الصحف الأمريكية صورة لمشهد غرامى من الفيلم يجمع الإثنين فى قبلة ، مالبثت الصورة أن وصلت الى القاهرة ، ومن ثم نشرت مرفقة بتعليقات مطولة تطالب بإسقاط الجنسية المصرية عن عمر الشريف ، الذى باع وطنه بقبلة منحها الى يهودية . بعد ذلك قدم عمر الشريف العديد من الأدوار العالمية ، والتى تفاوتت فى المستوى الفنى ، مثل دوره فى فيلم « السطو » مع الممثل الكبير « جان بول بلموندو » ، وقيامه ببطولة مشتركة مع البريطانى « مايكل كين » فى أفلام : « القرية ، رصاصة بالتيمور ، مرارة الحب ، الحصان الأبيض ، الخريف » ، وفيلم « الموعد » أمام الممثلة أنوك إيميه ، وفيلم « أكثر من معجزة » مع صوفيا لورين ، ثم فيلم « ثمار التمر الهندى » . فشل فى إختيار الأدوار الجيدة لأفلامه ، فقد كان ممثلاً مصرياً شاب لا يعرف شيئاً عن عالم السينما فى هوليوود ، وعرض عليه دوراً رئيسياً فى فيلم « لورنس العرب » ، ووقع عقد يحتكر نشاطه الفنى لمدة سبع سنوات لحساب شركة كولومبيا . كان يتقاضى 15 ألف دولار فقط عن كل دور يقوم به ، لذلك ما أن إنتهت مدة العقد – وكان عمره آنذاك 37 عاماً – حتى إنطلق باحثاً عن المال والمزيد من الشهرة . نجومية هوليود : رغم شهرته العالمية إلا أنه اتخذ من الفشل والخطأ سبيلاً للنجاح ، ولم يؤثر شئ فى حبه للحياة ، وتفاؤله بها ، فقد تعلم أن يعيش أيامه بكل ما فيها ؛ إيماناً بأن الموت قد يداهمه فى أى لحظة . إنه النجم عمر الشريف الذى قضى حياته رحالاً بين باريس ولندن وكندا وأمريكا ومصر ، فى محاولة منه لكسر الملل والوحدة ، ورغبة فى التغيير جعلته يحط من بلد لبلد كالفراشة التى تنتقل بين الزهور لتستمتع برحيقها . والواقع أن ملامح وجهه المبتهج لم تغير منها على الإطلاق قسوة الزمن ، أو مرارة الغربة ، أو يأس الفشل ، فما زال عمر الشريف ذلك النجم العالمى الوسيم الذى إذا ذكر اسمه ذكرت مواصفات فتى الأحلام لدى العديد من الفتيات، وهو الرجل ذو ال 79 من العمر ، ذلك أنه يفتح ذراعيه لكل ما هو جديد وجميل ، ويعيش ببساطة وهدوء ، مؤمناً بالتسامح ، عاشقاً للخيل ، ومحترفاً مغازلة النساء . الوصول إلى العالمية : تنبأت له عرافة يونانية بالعالمية ، إلا أن الوصول إليها لم يكن بالأمر السهل ؛ إذ عانى كثيراً من الصعوبات بمجرد خروجه من مصر فى أوائل الستينات حيث سطوة رأس المال الصهيونى على السينما الأمريكية ، كما أنه لم يكن حراً فى اختيار أدواره بسبب عقد احتكار لحساب شركة كولومبيا لمدة سبع سنوات ، والذى كان بمثابة عقد للعبودية التى وصفها بالسنوات السبع العصيبة ، وما أن انتهى من ذلك العقد حتى إنطلق النجم العالمى باحثاً عن النجاح والشهرة ، بالإضافة إلى اللهجة الأمريكية التى وقفت حائلاً بينه وبين الأدوار الأمريكية فى هوليود مما أهله للأدوار الأجنبية فى تلك الأفلام كقيامه بدور عربى أو فرنسى وغيرها من الجنسيات . قدم له المخرج العالمى دافيد لين جواز السفر الذى مر به إلى العالمية بجدارة فى فيلم « لورانس العرب » عام 1962 الذى حقق من خلاله نجاحاُ لم يكن يتوقعه أحد ؛ وجعلت الكاميرات الأمريكية تتساءل عن ذلك الشاب العربى الوسيم الذى أحتل دور البطولة ، وترشح من خلاله لجائزة أوسكار أحسن ممثل مساعد التى اعتبرها المغامرة الفنية والحياتية الأكبر فى حياته التى راهن فيها على كل شئ . ثم شهدت فترة الستينيات إنطلاقه حقيقية للدنجوان المصرى ؛ إذ جسد فيها العديد من أدوار البطولة أمام عمالقة السينما الأمريكية التى ترك فيها علامة مميزة ببصمة مصرية عالمة ، فقدم « جنكيزخان » ، ووقف أمام أنتونى كوين فى فيم « أنظر الحصان الشاحب » ، ثم جاءته الفرصة الذهبية عام 1965 ليلمع نجمه فى سماء هوليود بدور عمره فى فيلم « دكتور زيفاجو » مع دافيد لين للمرة الثانية ، ليعلن تربعه على عرش العالمية بحصوله على جائزة جولدن جلوب كأفضل ممثل ، كما تم ترشيحه للأوسكار عن الدور نفسه . بعدها قدم فيلم « تشى چيفارا » ، لكن نجاحه المبهر فى فيلمه السابق لم يمنع من تعرض چيفارا للعديد من الإنتقادات ، إلا أنه عاد بعدها بقوة ليقف أمام صوفيا لورين فى فيلم « سقوط الإمبراطورية الرومانية » ، وحقق نجاحا آخر فى فيلم « ليلة الچنرالات » . قُبلة يهودية : فى عام 1967 تعرض عمر الشريف لهجوم عنيف من قبل وسائل الإعلام العربية لقيامه بدور يهودى أمام ممثلة يهودية هى بربارا ستريسند فى فيلم « فتاة مرحة » بعد هزيمة 1967 ، وصلت إلى اتهامه بالعمالة ، وكثرت المطالبات وقتها بإسقاط جنسية من باع وطنه بقبلة ليهودية ، وفى المقابل لم يسلم الشريف من هجوم الجماعات اليهودية القوية ، واعتراض الصحافة الإسرائيلية على وجوده ضمن نسيج السينما الأمريكية ! . وفى عام 1979 تعرض لمقاطعة عربية شديدة بسبب فيلم « شانتى » على الرغم من اعتذاره عن دور البطولة فيه بسبب تحديد إسرائيل مكاناً للتصوير ؛ لكنه اضطر إلى القيام بدور صغير إلا أنه لم يسلم من الهجوم العربى ، وكذلك لم يسلم من حملة صهيونية شرسة بعد أن أصبح أحد أكبر خمسة ممثلين فى السينما العالمية . وفى الثمانينات أدارت السينما العالمية وجهها المشرق عن عمر الشريف لتجاوزه الخمسين من عمره لتصبح السينما بالنسبة له على حد قوله « أكل عيش » ، فأصبح ظهوره فى العديد من الأدوار يرتبط بضائقة مالية بسبب مراهنات الخيل أو خسارة كل نقوده على طاولة لعبة البريدچ التى احترفها عالمياً ، والتى كان لها دور رئيسى فى انطفاء نجمه لفترة طويلة . وفى عام 1983 قرر العودة من جديد إلى أرض الوطن ليكون أمام أكثر من تحد كضرورة إثبات وجوده لكى يبعد عن الأذهان أن للإفلاس الفنى والمادى سبباً للعودة ، أو أن السينما العالمية التى ترك عمر الشريف كل شئ للحاق بها لم يعد لديها ما تعطيه له . وهكذا عاد عمر الشريف إلى التمثيل فى مصر بعد فيلمه الآخير « المماليك » ، وانقطاع دام 18 عاماً بفيلم « أيوب » ، لكنه لم يكن له صدى كبير يتناسب مع عودة النجم العالمى إلى بلاده ، أو لرواية الأديب العالمى نجيب محفوظ ، وبعدها داعبت فكرة العالمية خيال عمر الشريف مرة آخى بذلك العرض المغرى الذى تلقاه للقيام ببطولة المسرحية الإنجليزى « الأمير النائم » ، وقد تردد فى قبول ذلك العرض إلا أنه أدرك سريعاً أنها الفرصة الذهبية لتعيده إلى الشهرة والأضواء فى العواصم الأوروبية ، وليبرهن لنفسه وللسينما العالمية التى خذلته أن بإمكانه النهوض من كبوته ، وبالفعل بارك الجميع تلك الموهبة التى كشفت عن نفسها من جديد ، وأعادت الروح إلى فنان ضل الطريق . بعدها أصر الشريف على أن يتحسس خطواته ، ويختار بدقة أدواره ليفتح أمام نفسه مجالاً جديداً يثبت أنه ما زال النجم العالمى ، فقجم دور آخر قياصرة روسيا فى فيلم « نتاشيا » ، ثم « بطرس الأكبر » ؛ وبعدها عاد إلى مصر ليقدم فيلم « الأراجوز » عام 1989 الذى لاقى نجاحاً جماهيرياً ، كما حصل عنه على عدد من الجوائز فى المهرجانات الدولية كمهرجان فالنسيا الدولى بإسبانيا . تهديد بالقتل : قدم عمر الشريف فيلم « المواطن مصرى » عام 1991 الذى وضع فيه دهاء سنوات طويلة ، وبعده اقتصرت أدواره فى السينما العالمية على الأدوار الصغيرة ، أو كضيف شرف يساعد ظهوره لدقائق فى نجاح أى فيلم كفيلم « المحارب الثالث عشر » . أما فى الألفية الجديدة ، فقد أخذ ينقل خطواته بثقل تاريخه ، فقدم فيلم « إبراهيم وأزهار القرآن » فى عام 2003 الذى أثار إعجاب النقاد ، وكذلك ضجة جماهيرية كبيرة بسبب تجسيده دور مسلم يتبنى طفلاً يهودياً فى دعوة إلى التسامح بين الأديان ، وحصل من خلاله على جائزة أفض ممثل فى مهرجان البندقية السينمائى ، وجائزة أفضل ممثل سيزار فى فرنسا . وفى عام 2005 قام ببطولة فيلم « القديس بطرس » الذى نال إعجاب رجال الفاتيكان ؛ إلا أنه أثار حفيظة بعض الجماعات بقيامه بدور قديس مسيحى ووصل الأمر لتهديده بالقتل عبر موقع على الإنترنت . وبالتأكيد لم تكن مصادفة قيامه بدور الرجل المسلم المتدين الذى يبادل شخصيته مع قس مسيحى فى فيلم « حسن ومرقص » الذى وضعه البعض ضمن قائمة الأفلام الأكثر جدلاً بسبب موضوعه الجرئ ، والتقاطه تفاصيل دقيقة بين المسلمين والأقباط فى مصر ، فالتسامح هو الإيمان الأول لعمر الشريف أيا كانت العقيدة التى يعتنقها الإنسان . وفى الفترة الأخيرة تعاملت السينما المصرية مع عمر الشريف كطفل مدلل ؛ إلا أنه لم يخش الفشل فى خوض أولى تجاربه على الشاشة الصغيرة ، فحبه للتجريب والمغامرة دفعه لتقديم مسلسل « حنان وحنين » الذى يتناول سنوات الغربة والحنين للوطن ، وجاء ترشيحه لهذا الدور بعد سنوات طويلة من الغربة والترحال بين فنادق أوروبا وأمريكا بوصفه واحداً من رموز مصر فى الخارج ، بل إن بعض الأوروبيون يعتبرونه أشهر شخصية مصرية بعد كليوباترا .