"طوبى للجياع والعطاش إلى البرّ، لأنّهم يشبعون" ( متى 6:5). يطوّب السّيّد في هذه الآية، التوّاقين أبداً إلى الصّلاح الّذي في يسوع المسيح. هو الجوع والعطش والاشتياق إلى تحقيق الخير والحقّ والجمال في شخص المسيح الحيّ. لأنّ فيه، أي شخص المسيح تتجلّى كلّ الحقائق، وفيه تتبيّن معاني القيم. لطالما بحث الفلاسفة في الخير والحقّ والجمال نظريّاَ، وأسهبوا في الشّروحات واستعانوا بالمادّة كأمثلة حيّة ليتمكّنوا من التّحليل بغية الوصول إلى نتيجة أو تعريف دقيق لهذه القيم. وأمّا المسيح فاختصرها عمليّاً لا نظريّاً في حديثه مع الشّاب الغني، في ( متى 21:19 ). بعد أن سأله الشّاب الغني: " أيّها المعلم، ماذا أعمل من الصّلاح لأنال الحياة الأبدية؟" ( متى 16:19). أجابه الرّبّ: " إذا أردت أن تكون كاملاً، فاذهب وبع ما تملكه ووزّع ثمنه على الفقراء، فيكون لك كنز في السّماوات، وتعال اتبعني!". هذه الآية تشرح جليّاً معنى البرّ والصّلاح المرتبطين أوّلاً بالتّحرّر من التّعلّق بالفاني والتّحوّل إلى التّشبّث بالغنى الرّوحي أي بالامتلاء من الرّبّ. وملازمة المسيح، ثانياً، لبلوغ الكمال وإشباع هذا الامتلاء الّذي يتولّد منه جوع وعطش مستمرّين إلى الرّبّ. الجوع إلى البرّ هو الجوع إلى الحبّ الإلهي، ما يدفع الإنسان للبحث عن الآخر ومساعدته ومساندته، وإشراكه بمقتنياته وممتلكاته، على اعتبار أنّه يمنحه حقّه، ولا يقدّم له حسنة. لا يوجد برّ إلّا بيسوع المسيح، أي لا يوجد صلاح إلّا بمن هو الصّلاح، وبالتّالي كلّ عطش إلى البرّ هو توق وظمأ إلى البرّ الّذي في المسيح. وهذا ما يشرحه القدّيس بولس في (رو9: 30-32)، إذ يقول: " فماذا نقول؟ نقول إنّ الأمم الّذين ما سعوا إلى البرّ تبرّروا ولكن بالإيمان. أما بنو إسرائيل الّذين سعوا إلى شريعة غايتها البرّ فشلوا في بلوغ غاية الشريعة. ولماذا؟ لأنّهم سعوا إلى هذا البرّ بالأعمال الّتي تفرضها الشّريعة لا بالإيمان." أي أنّ السّاعي إلى البرّ يتبرّر بعلاقته الحميمة بيسوع المسيح وليس بتطبيق الشّريعة. فتصبح هذه العلاقة تفاعلاً مستمرّاً بين المسيح والمؤمن، ينطلق من المسيح نحو المؤمن والعكس صحيح. وينجم عن هذا التّفاعل حوع مستمرّ ودائم، يشبعه المسيح بحبّه العظيم.، إلّا أنّ المؤمن يظلّ ظمآناً إلى مياه النعمة، أي سكيب الروح القدس، الّذي كلّما انسكب في النّفس، ازدادت حبّاً وشوقاً.