أكلني الشارع ، وصفائح الوجوه الخالية من التعبير ، إنّهم أبناء مدينتي ، ولدتُ فيها ، وفقدتُ حرّيتي في دهاليزها ، وسأموتُ فيها ، وما زلت مشدوداً بأسلاك غليظة .. حتّى خفتُ المغامرة ، المدينة الميّتة ذُلّلت في الحياة ، وطرحتْ كلّ عصب قوي أرضاً ، أحالتني كومة من أعصاب هشّة تتحطّم من أوّل ضربة ، جسدي مرهق ، وغضوني تسري فيها دماء إنسان مصدور .. هل أنا حقّاً مصدور وعاجز عن القيام بعمل شيء ؟ أم إنّني أحمق وأفتعلُ الأسباب والمسببات حسب رغبتي؟ أمّا أن أتقمّص دوراً بطوليّاً بحق ، فهذا عناء لا أجهله مطلقاً .
أعادتْ أمل قصيدة الزواج ، و استنتجَتْ بعض الآراء : أظنّك لا تحبّني ! خطأ . و أعادتْ الشجار من جديد ومن طرف واحد : ولماذا لا نرتبط ؟ كان لابدّ وأن أصارحها بحفنة أشياء ، إنّها تسلبُ جُلَّ وقتي بالنقاش الفارغ ، رأسها فارغ أيضا ً وأنا في داخله ألعب كرة التنس ليل نهار , ولا تريد أن تشغله بشيء آخر : أمقتُ الزواج . كنتُ أحسب أنّها ستنخرط في البكاء كالعادة ، لكنّها تماسكتْ وقالت بعصبية : إنّني لا أفهم شيئاً .. تحبّني وتمقتُ الزواج ، لماذا ؟ أنا أحبّكِ وكفى .. أمّا الزواج فمسألة أخرى .
عقلها الصغير لا يريد أن يفهم المغزى ، تريد أن أدخل معها في نقاش أُفلسِف لها آرائي في الزواج ، وما معنى أن ننجب أطفالاً ، وما معنى أن أردّد على رأسها لأنّها لا تفهم ما قاله شاعر منذ زمن بعيد ( هذا ما جناه عليَّ أبي ، وما جنيتُ على أحد ) في وضعي المتردّي هذا ، إذ لا يتردّد الغير بإعادة مهزلة درجَ عليها من سبقوهم دون الاتّعاض منها همّهم أطفال .. أطفال شراذم السعادة الهاربة ، الأفضل أن أُمَسِّد على رأس قطّة صغيرة وأشعرها بالدفء والأمان مؤقّتاً ، وأشعرها ألّا فلسفة لديهم ، تلك الحيوانات المعذّبة المطرودة . تريد أن أقول لها بأنّ الزواج بالنسبة لوضعي شيء جهنّمي ، وعادة قتل بطيء لأطفال لا ذنب لهم ، أن أفلسف لها علاقة العبد بالسيد ، أن أنضمّ إلى قطيعٍ من الناس كلّ هذا الانضمام الشنيع ، وبعد أن وجدتُ موتي يدنو مني .. كيف ؟
وجهي في مرآة ، صورة أخرى لأنفاسي ، وتذمّري ، وحقدي الطافح حدّ اللعنة. أن أضع القيود في اليد التي حاربتْ بالمقت والخنوع كلّ مهازل البشر ، أمل تلك الحبيبة المسكينة ، لا أستطيع أن أدخل إلى عقلها كإنسان آخر ، أنا عباس كنت الفتى المنزوي الخجول ، "الحَبّوب" كما تسمّيني عمّتي أمّ موحان (عبوسي) أكتب دائماً وأهرب دائماً وأودّ تقبيلها دائماً ، بفرح لم تدرجْ عليه ، فرح عميق في النفس ، باحة الدار ، ملوّثة ، ابتداءً من الرواق الذي يفصلها عن غرفتي ، بالوحل وخرق الأطفال ، التي يصنعون منها الدمى الصغيرة .. يا للصغار المساكين ، ستلفّهم العجلة ، وسيصبحون سناً تافهاً فيها ، كسنٍّ منخور لا يجدي نفعاً ، يتهشّم سريعاً إن لم يُقلعْ من الجذور ذات يوم ، ويقذف به بعيداً منهوك القوام والشخصية ، وما زال المطر يرتع عند الأرصفة ، وداخل المجاري ، التي لا تجري أبداً .