منِّي جاءَت القِصَّةُ التي أَرويها ومع ذلك أنا أُكَرِّرُ روايةَ القِصّةِ الأبديَّةِ وجهُ عاشقةٍ هو وجهُ هَيْكاتَ المتغيِّرُ في أعماقِ ظُلمَتي تقفُ، عندَ تَقاطُعِ الشَّخصيَّاتِ الأسطوريَّة. اختارَت وهي تَرفَعُ أَلفَ مِشعَلٍ أنْ تَحُلَّ مكانَ قلبي، أنْ تُنيرَني بِضراوةٍ كما تفعلُ الوحوش من هذا المنظارِ اعتَزَمْتُ أنْ أُصَوِّرَ الحبَّ. سأروي لكم كيف كنتُ متيَّمةً بها، وفجأةً صِرتُ أوُلدُ من جديدٍ بين ذراعيها، ذراعينِ وَضَعْتُهُما أنا حَولَ نَفسي. حاولتُ أَنْ أُزهِرَ من داخلِها، أنْ أَعرِفَها، أنْ أَقرأَها، أنْ أُغْرِقَهاَ بكلماتِها. عَزمتُ أنْ أجعلَها تولدُ منِّي بنفسِ الصّورةِ. بحثتُ عن جزيرةٍ، جزيرةِ المنبوذينَ وتُعرَفُ أيضًا باسمِ جزيرةِ السيِّدِ عقل والسيِّد رُعونة. هو مكانٌ يُواجهُ أحدُهُما الآخرَ. توقَّعتُ أنَّها، أَيْ الحكمةَ، ستمدُّ يدَها إليَّ لتَجد حلَّا لهذه المُعضلةَ. لماذا أشعرُ فجأةً بفُقدانِ الثَّباتِ علي هذه الأرض؟ لماذا ترتجفُ قدمايَ؟ لماذا أبقي خائفةً من العيشِ في المنفي؟ تريدُني هي أنْ أغرُسَ قَدَميَّ الاثنتينِ في الأرضِ وأَلّا...؟ علي الأقل ليسَ داخِلَ قَلبِها؟ لأنَّها علَّمتْني أنْ أكونَ حُرَّةً أَردْتُ أن أُقَدِّمَ لها أبجَديَّتيَ الأُولي، أُقدِّمَها لها في كلِّ أشكالِها، في كلِّ عصورها. أسعي فقط أنْ أُسافِرَ، أن أَحلمَ: بِعُصورِها الأكثرَ قِدمًا، الأكثرَ حقيقةً، والأكثرَ إثارةً في ما مَرَّ أمامي. نُصُوصُها كانت تتنفَّسُ رغم مرورِ الزَّمَن. في بعض الأحيان لا تكون موجودةً. أَعلمُ هذا، ولكنَّها قد تكونُ وُجِدَتْ مِن قبلُ. لِثَلاثِ دقائقَ في كلِّ يومٍ تُرينا الأخبارُ المتَلفزَةُ جسدَها النَّحيلَ يموتُ من الجوع. لماذا حوَّلنا قِصَّتَها إلي شَيء مُخيفٍ؟ أَردتُ أنْ أُلوِّنَ رَسْمَ جِنيَّتي. إلي حين قُمتُ بذلك كنتُ لا أزالُ أشعرُ بالفراغِ داخلي. أتضوَّرُ جوعًا. كَماكرةٍ كنتُ أعرِفُ كلَّ ما ينقِصُني. العثورُ علي كلِّ العناصرِ يحتاجُ للوقتِ، العناصرِ نفسِها التي أَلهَتْ مياهَ النَّهرِ الجوفيَّةِ حينَ غَرِقَتْ فيها، وبلا أَدني قُدرةٍ علي السَّيطرةِ علي نفسها. لم أستطِع رؤيةَ الأشياءِ التِّي وصلتْ إلي سطحِ الماء. كانت مثلَ إعصارٍ عارم. كنتُ أدركُ أنَّ جَوفَها مَصنوعٌ من العَسل. حولَها من كلِّ جانبٍ رياحٌ متَضاربة. وحولَها أيضًا أنا. أردْتُ أنْ أَصِلَ إلي اللُّبِّ. لم أكُنْ أفهم. أنا نفسي كنتُ مصنوعةً من الرِّيح. بلْ كنتُ ريحًا، آرِييل. ريحٌ، ريح.كنتُ لا شئَ أبدًا، وكلَّ شئٍ تمامًا.كنتُ غضبًا في حركةٍ دائمة، بلا جذورٍ، بلا ملجأ. الزَّوبعةَ نفسَها، كمِحنةٍ أو ربَّما كجُنون. لم أستطِع أنْ أبقي هادئةً. لم يُهَدِّئْني شئٌ. أنا لستُ أنا، أنا وعاءٌ شاغِرٌ، أنا إناءٌ يَستدعي الاحترام. إحتَجْتُ إليكِ بقدرِ ما احتجْتِ إليَّ لأُدَرِّسَ عِلمَكِ في السِّحْرِ. كلمةُ السِّحرِ أُطلِقَتْ وحجرُ الزَّهرِ تدحرجَ كي أصِلَ إلي هنا إلي هذه البلادِ وليسَ غيرِها. هُنا أَمْ في مكانٍ آخر. هل أنتِ حارسةُ المعرفة؟ المعلِّمةُ الجَشِعةُ أم الأمُّ الشَّرِهة؟ هناك وردتان في الإناء الذي قَدَّمتهِ لي يومَ زواجي من «راء» وردتان مُشمشيَّتانِ باهتتانِ ذاتا جمالٍ نادرٍ الأُولي تُزهرُ بسرعةٍ أكثرَ من الثَّانية والثَّانية تُزهِرُ بطريقةٍ خاصّة، ربما هي أصغرُ بل أستطيعُ أنْ أقولَ، أقلُّ أنوثةٍ ربَّما هي أكثرُ جمالًا من الأولي. حين انبثقتُ عنها لم أعرِفْ كيف أُروِّضُ الفَوضي التي جِئتُ منها. ولكنْ، أحقًّا أحتاجُ أنْ أفعلَ ذلكَ؟ كلُّ شئٍ دفعَ بي للإيمانِ بذلك، لتَعَلُّمي ذلك.لم أعرِفْ إطلاقًا كيفَ أتعلَّم. كنتُ أفهمُ عكسَ ما كان يُقالُ لي. كلُّ ما حصلَ هو ما ابتغيتُهُ. كنتُ أعتقدُ بأنَّها مكانٌ طوباويٌ، خَيِّرٌ تمامًا. أكثرُ من انسانيٍّ.كانت حُلْمي، مِثالَ حياتي كلِّها، وماضِيَّ. معي كانت هي الغربُ المتصلِّبُ.لا يمكنُ أنْ يكونَ هناك حوار، ولا مُقاسَمة.الهوَّةُ بينها وبيني كانت شاسعة.ومع ذلك فأنا أتطَرَّقُ للحُبّ.أعلمُ أنَّها تحبُّني. هي لا تكرهُ أحدًا.أُريدُها أنْ تقولَ لي كم تُحبُّني ولكنَّها لا تُخبرُني بذلك. يا ليتَها تُظهِرُ لي كم تُحبني! وتُظهِرُ لي كُلَّ شئ. أريدُ أنْ أري كُلَّ شيئ. سَتُريني لا شئ. أريدُ أن أعرِفَ كلَّ شئٍ عن قصَّةِ حياتِها التي أعلمُ جيِّدًا أنَّها سوف تسبِّبُ لي بالأذي. في بعض الأحيان كان سعيُها وراءَ اللَّذةِ لا يطاق. أنا، حين صِرتُ بلا زمنٍ لم أعُدْ أنتبهُ لنفسي ولم أفهمْ أنَّها في كلِّ مرَّةٍ كانت تقولُ، كوني حكيمةً إنَّما كانتْ تُعطيني اسمَها. لاؤُها هي ضدُّ كُلِّ شئ. تَدعَمُ نفسَها كحائطٍ، حائطِ المبكي. كانَتْ قد قرَّرَتْ أنْ تُصبِحَ وجهَ التعاسةِ الإنسانيَّة. مع كلِّ ما لديها من امتيازاتٍ لم تخْتَر واحدة. الأمرُ مُتعلِّقٌ بالبُحيْرَة، فنحنُ لمْ تكُنْ لدينا البُحيرات ذاتها. لها البُحيْرةُ ولي أنا الفُرات. لها وحيدُ القرنِ ولي الغرفين.لا يوجدُ مرآةٌ واحدة، فقط آلافُ الانعكاسات. خطفَتنْي وكنتُ مازلتُ طفلةً مكبّلةً بالمِحرقَة. خلَّصتْني، حَمَلتنْي عبر الهواء، جَعلتْني كاهنتَها. علَّمتْني أنْ أقرأَ ولكنَّني لم أستطِعْ أن أقرأَ شيئًا سوي هذا الشَّغفِ القاسي للرِّقَّةِ المقموعةِ. من اللَّحظةِ التِّي قرأتُ قصَّتَها عَرَفتُ كيفَ أقرأُ، ولمْ تَغمُضْ عيناي أبدًا بعد ذلك. هأنذا يا بيثيا وعلي شفتيَّ لَنْ يبقي سوي النَّهار حين أنشُدُ عاليًا، هاذيةً وحيدة كنتُ عصفورةً والآن أريدُ إذا أمكنَ الأمر أنْ أُصبحَ إنسانةً. توسَّلتُ إلي جنيَّتي أنْ تُغَيِّرَني. ولكنْ لا يمكنُ أنْ يحدُثَ هذا إلَّا إذا كان ممكنًا تغييرُ السيِّدةِ حاتحور أو سيدة اللُّويزة أو الغرب أيضًا. قليلا وسأُهيمنُ عليها بجسدي. سأكون طويلةَ القامةِ فوقها وستكون صغيرةً جدًا. سأعرف كيف أُقبِّلُ عُنُقَها الناعمَ كعُنُقِ العُصفور. نعم بالضَّبط هي عُصفورٌ. شئٌ واحدٌ أكيدٌ هو أنها ستكون صغيرةً جدًا معي لأنَّها متعبةٌ، متعبة وترتاحُ حين أكونُ هناك. أراها تستريحُ وهي تراقِبُني.ترتعشُ قليلًا بسببِ أيام الجُمعةِ حين يكونُ عليها من خلال نظرتِها النَّافذَة أنْ تُشَرِّحَ كُلَّ الفِئرانِ الحيَّةِ التي تراقِبُها بتعجُّب. مُتعَبَةٌ هي لأنَّها تنَحَتُ طوال نهارِ الجُمعة. تَستمرُّ بالطَّرْقِ بخِفَّةٍ. وحين تشعرُ بالأرضِ طينيَّةً أو علي العكسِ أكثرَ نعومةً وخصوبةً تَدفنُ بذرَتَها عميقًا فيها. أشعُرُ أننَّي لم أُزرَعْ أبدًا بهذه الطَّريقةِ يومَ الجُمعةِ الماضي.انبثقتُ بشكلٍ موجِعٍ. صوتُها زرعَ أَعمَقَ الأُبَرِ، وبلا رحمةٍ مزَّقتْ هي الأعشابَ الضَّارة. تقتلعُ، تحفرُ، تحصد،ُ لِتُحَضِّرَ الأرضَ لولاداتٍ جديدة.