دراسة نقدية للناقد الكبير الدكتور (محي الدين صبحي) ألقيت في ندوة اتحاد الكتّاب العرب تحت عنوان (الكتابة الروائية والقصصية)، حول رواية (سندريللا 2000)، للأديبة الروائية (لينا كيلاني)، وهي رواية للشباب، صادرة في طبعتها الأولى عن وزارة الثقافة السورية 1996، وعن (دار المعارف) في مصر في طبعتها الثانية ضمن سلسلة (أولادنا)، عام 2000. يجب أن نؤمن بالتقدم، بأنه سير في طريق واحدة مستقيمة لا رجعة فيها الى الوراء مطلقاً. وإذا ثارت في نفوسنا رواسب من الماضي القريب أو البعيد فهي ليست سوى أشباح أو ذكريات نتعامل معها بلطف ريثما نزيحها ونحل محلها واقعاً جديداً مبنياً على العلم والتقنية، والإنجاز بالتقدم من مرحلة ساذجة الى مرحلة عقلانية أكثر تقدماً وتنظيماً وبعداً عن الأوهام. هذه على ما يبدو الرسالة التي تحملها للقراء رواية (سندريللا عام 2000)، فهي رواية ضد الرواية، وأسطورة ضد الأسطورة، وواقع علمي ينجز ويتراكم على حساب الوهم الموروث وأحلام الطفولة الساذجة. (ساندي) فتاة في حوالي العشرين من العمر، تلتحق بمركز الفضاء للتعلم والتدريب، وترشح نفسها لرحلة فضائية، وفيما هي في المركز تدخل غرفة سرية لالتقاط الزمن الماضي، وبينما كانت تعبث بأزرارها على غير هدى "تسمع صوتاً كأنه من الفضاء يناديها، وتلمح طيفاً أبيض"، تتكلم ساندي مع الفتاة فتقول لها الفتاة: "أنا سندريللا.. سندريللا الأسطورة". ولا تجد (ساندي) بداً من اصطحاب الفتاة معها الى البيت، وكأنما انسجمت (ساندي) مع قصة (سندريللا): "كما كانت تفعل وهي طفلة.. لكنها تنبهت أن كل شيء الآن مختلف.. فهي لم تعد طفلة و(سندريللا) أمامها لا تزال تغرق في بحر السحر فكيف تنتشلها منه؟ ". من هنا يرتسم في الرواية طريقان: طريق إخراج (سندريللا) من بحر السحر، وتوعيتها على منجزات العالم الحديث التي تفوق السحر.. وطريق تمشي فيه (ساندي) نحو رحلة الفضاء بحيث تعود من الفضاء الى الأرض وقد اكتسبت شهرة عالمية خلقت منها أسطورة علمية تفوق (أسطورة سندريللا) وتَفْضُلُها لأنها عصرية وواقعية. لإخراج (سندريللا) من جو السحر والخرافة تعمد (ساندي) الى تعريفها بمعطيات العالم الحديث: "تسير (سندريللا) حافية وراء (ساندي) التي تعرّفها بالبرهان العملي على الغسالة والمكنسة الكهربائيتين، وعلى الفرن الذي يعمل بالذرة، وعلى الهاتف، والتلفزيون، ومجفف الشعر"، بعد ذلك تقول (ساندي) لسندريللا: "كل هذا الذي تسمينه سحراً أصبح بين أيدينا الآن.. هذه هي حياتنا يا سندريللا.. فماذا تقولين عن ساحرتك وعصاها السحرية؟ إن العلم اليوم يفوق كل سحر، بل يتعدى الى الخوارق والمعجزات" (ص29-30). ولكي تضع (ساندي) صديقتها في حياة العصر تأخذها في رحلة بالطائرة الى فلوريدا، وتدخل معها في عالم (ديزني) حيث تركب في عربة فضاء، وتركب قطار مترو يمر في أرض زلزال، وبراكين، وانفجارات تصيب (سندريللا) بالإغماء رعباً. وتأخذها الى متحف الحياة التي تصور تطور الإنسانية، وحديقة الديناصورات. وأخيراً تأخذها (ساندي) الى قصر (سندريللا). تعلق (سندريللا): " وهل تظنين أن هذا يمكن أن يكون قصري؟.. أين كل هذه النعومة، والإضاءة، والإشراق من الخشونة، والحجارة الصماء، وظلال الغابة السوداء!.. وأما هذه السندريللا التي تطل كل ساعة على الناس من شرفة القصر.. إنها ليست أنا.. لم أكن إلا فتاة بسيطة خجولاً.. فكيف لي أن أقوم بكل هذه التحيات.. بمثل هذه الجرأة؟!" (ص94). وبصريح العبارة لقد جردت روح القرن العشرين (سندريللا) من شخصيتها وأحلامها وأمجادها، حتى أن (سندريللا الأصلية) لم تتعرف على نفسها، ولا على قصرها في (سندريللا الأسطورية) كما رسمتها مخيلة العصر. أي أن (سندريللا) هُزمت مرتين.. مرة أمام الواقع التقني الذي تجاوز السحر، ومرة أمام الخيال الأسطوري الباذخ الذي فاق بآلاف المرات الخيال الأسطوري في القرون الوسطى. تعود (سندريللا) محطمة، فيما تعود (ساندي) متوثبة تنتظر مغامرتها الأسطورية في رحلة الفضاء. تستجمع تطلعاتها وهي ترتدي ثياب رواد الفضاء، وتصعد الى القمرة تتابع العد التنازلي، وترقب انطلاق الصاروخ، وتتنبه بكل ملكاتها الى الدقائق الأولى للانطلاقة الرهيبة، ثم تسترخي وهي تراقب الأجهزة تعلن التحرر من الغلاف الأرضي. وهنا تبدأ مهمتها في مراقبة الصندوق الزجاجي الذي يحتوي فئران الاختبار البيضاء، وتسجل ملاحظاتها على سلوك تلك الحيوانات في الفضاء. وهنا تتجلى لها (سندريللا)، وتسألها: " أتريدين أن تصبحي أسطورة؟" " لا.. (ترد ساندي) نحن لسنا في زمن الأساطير بل في زمن العلم.." تهبط مركبة الفضاء في البحر، وتستقل (ساندي) مع أفراد الطاقم زوارق توصلهم الى الشاطئ المحتشد بآلاف المستقبلين. "لكن (ساندي) كانت ساهمة وهي ترى طيف (سندريللا) يودعها قبل أن تتلاشى، ويهمس لها: أنت سندريللا". أي أن (ساندي) تفوقت على (سندريللا) وخلقت من نفسها أسطورة قائمة على العلم والتقنية. وفي المشهد التالي تنقلب الأدوار، ففي بداية الرواية تكون (سندريللا) جسداً محسوساً وشخصية واثقة من نفسها ومن عصرها. تقول لساندي: "أنا من عصر السحر.. والسحر أسرع، وألمع، وسيفه أقطع". فشخصية (سندريللا) حين ظهورها طاغية مسيطرة آمرة. لكنها حين تطلعها (ساندي) على أدوات البيت الكهربائية، وتحدثها عن رحلة الفضاء المزمعة، تنهي (سندريللا) حديث الليلة الأولى قائلة لساندي: "لقد أعطيتني الكثير من العلم والمعرفة، لكنك سلبتني سعادتي. أريد أن أعود الى عالمي: أميرة أسطورية تنثر أحلام السعادة الفضية في العيون..." ويعلق الراوي: "وأغفت كل من ساندي وسندريللا.. ساندي على حلم المستقبل.. وسندريللا على حلم الماضي" (ص33). حلم المستقبل هو رحلة الفضاء، وعلوم الفضاء، ومركبات الفضاء.. وحلم الماضي هو السحر، والخرافة، والأساطير. في مساء اليوم التالي يغلب الفضول على (سندريللا) فتقول لساندي: "أريد أن أرى ملامح عالمكم". فتتجول معها في شوارع المدينة المزدحمة بالناس، والأضواء، والسيارات، والمحلات التجارية ذات الواجهات المتلألئة، والمقاهي الأنيقة، والمطاعم رفيعة المستوى، ودور السينما واللهو. تتعب (سندريللا) وهي تسمع (ساندي) "تتحدث وتشرح وكأنها دليلة سياحية أمينة ودقيقة، ومدافعة متحمسة ليس عما تمر به من معالم حضارية حديثة بل عن الحضارة الحديثة برمتها" (ص57)، فتنهار (سندريللا) قائلة باستسلام: " أنتم لا تعيشون حياة واحدة بل نماذج متراكبة من الحياة.. حياتكم عبء ثقيل لكنكم لا تشعرون به لأنكم اعتدتم عليه". وهذه هي المرة الثانية التي ترفض فيها (سندريللا) الحياة الصناعية، ثم يتكرر الأمر في كل حادثة تشاهد فيها (سندريللا) جانباً من الحضارة الصناعية: بعد ركوب الطائرة الى فلوريدا، وبعد الجولة في عالم ديزني، وأخيراً بعد أن شاهدت قصرها، وقارنته بالقصر الحجري المظلم الذي كانت تعيش فيه. فلا عجب بعد ذلك أن تبدت (سندريللا) في مركبة الفضاء شبحاً يلوح لساندي خلال عملها وهي تراقب السلوك الجنسي للفئران، وهل يؤثر جو الفضاء على قدرة هذه الكائنات. بهذه التقنية المتدرجة والمتسلسلة تتوصل الروائية (لينا كيلاني) الى إحلال شخصية (ساندي) العلمية محل شخصية (سندريللا) الخرافية، لكنها لا تمحوها بل تجعل (ساندي) تتقمصها: "فبعد أن تتقلد (ساندي) وسام الاستحقاق تنظر اليه فترى في وسطه صورة (سندريللا) فتردد لنفسها: "هل أنا ساندي أم سندريللا؟" "أم أن سندريللا عام 2000 هي أنا؟" إن التساؤلين الأخيرين هما ذروة التطور الفكري في الرواية مثلما هما ذروة التقنية القصصية الحاذقة. فمن الناحية الفكرية تبدأ الرواية بشخصيتين منفصلتين هما (ساندي) و(سندريللا)، تمثل الأولى الثقافة الصناعية، وتمثل الثانية الثقافة الإقطاعية. وتتطور المقارنة بين الشخصيتين بالممارسة والمعايشة بحيث تشحب أسطورة (سندريللا) وتتلاشى أمام واقع (ساندي) العلمي الصناعي. هذا التدرج في إحلال الواقع محل الأسطورة هو من الناحية العلمية إحلال للقيم العلمية التقنية الصناعية والعلمانية محل القيم الخرافية الإقطاعية الزراعية السلطوية. وبما أن التقنية الروائية تخدم هدف الرؤيا الروائية فقد اعتمدت التدرج البطيء والمقارنة بين الواقعين. وبما أن العقدة لا تكون محكمة إلا إذا كان كل حادث نتيجة لما قبله وسبباً للحادث الذي يليه كما يقرر (أرسطو) بحق فقد بنيت الحوادث متصاعدة مثل درج لولبي لا يتسع إلا لشخص واحد. في البداية تتقدم (سندريللا) على (ساندي)، وفي الوسط يندمجان، وفي النهاية تكون (سندريللا) قد انسحبت، وتبقى (ساندي) تتساءل: "هل أنا ساندي أم سندريللا؟" "أم أن سندريللا عام 2000 هي أنا؟". على الصعيد النفسي يمثل هذان التساؤلان لحظة النضج النفسي لساندي، أي اللحظة التي خرجت فيها نفس (ساندي) من إسار أسطورة (سندريللا) التي تشربتها في طفولتها، وظلت تراودها في أحلامها وأحلام يقظتها. في تلك اللحظة وجدت (ساندي) نفسها وقد تجاوزت أحلامها فحققت ذاتها في إنجاز عمل عظيم يجعلها هي نفسها شخصية عظيمة تقف على ذروة العالم في عام 2000 بكل تظاهراته العلمية والتقنية. فسندريللا كانت تنبثق من أعماق (ساندي) لتشابه النشأة والظروف: (ساندي) فقدت أمها، وطردتها زوجة أبيها وهي شابة في السادسة عشر تماماً مثل (سندريللا). ولذلك لم يبق لساندي غير حلم طفولتها بسندريللا التي تنقذها الساحرة، وتحقق لها مصيراً مختلفاً عما تفرضه عليها ظروفها. إلا أن عقل (ساندي) الذي يثق بالعلم، وشجاعتها التي تقتحم الصعاب جعلاها تقفز فوق الأسطورة لتسير على أرض الواقع التقني الصناعي، وتستغني عن السحر والأوهام. ففي إثر كل مرة تظهر فيها (سندريللا) وترافقها وتناقشها تقنع (ساندي) نفسها بأن كل ما حدث ليس أكثر من تهيؤات، أو تهويمات أملاها عليها الخيال. فلما أنجزت رحلة الفضاء، ووجدت نفسها أعظم من (سندريللا) طوت (سندريللا) تحت جناحها. وختمت (ساندي) قصتها بقناعة عظيمة: "سندريللا القرن العشرين هي أنا". ففي عمق العمق كتبت لنا الروائية قصة تصور تبلور نفس اليافع والمراهق حول خيال وأسطورة، ثم انفصاله عنهما عبر اندماجه بواقع عملي، ثم انبلاج شخصيته المتألقة كفرد مستقل بتفكيره العلمي، ومسيرة حياة ينفتح أمامها مستقبل بلا حدود. وبذلك تكون (لينا كيلاني) قد أنتجت رواية مكعبة، فهي أشبه بمكعب من ستة وجوه، في الأول: الطفلة المضطهدة، وفي الثاني: الفتاة العاملة في الحقل العلمي، وفي الثالث: الطفلة الفتاة التي ترى في (سندريللا) مثلها الأعلى للخلاص بالسحر من وضعها، وفي الرابع: الفتاة التي ترافق (سندريللا) في هذا العالم، وفي الخامس: الفتاة التي تتجاوز (سندريللا) وهي في رحلة الفضاء بحيث لا تعود (سندريللا) شخصاً ذا ملامح بل مجرد خيالات وأصداء، وفي المكعب السادس: تظهر (ساندي) وحدها بكامل فرديتها واعتزازها بنفسها. ولئن كانت جودة الرواية تقاس بتعدد وجوهها فإن رواية "سندريللا عام 2000" تفوق المألوف في تعدد مستوياتها وتداخلها بحيث يخدم الحادث الواحد أغراضاً متعددة. كل ذلك مع بساطة آسرة، وتسلسل منطقي، ووضوح فني نقي، ودقة في التعبير تكاد تكون دقة علمية. كل هذا يجعل من "سندريللا عام 2000" رواية أجمل وأفضل من (سندريللا). وإني على ثقة بأن هذه الرواية لو جسدت في فيلم لكان أقوى من فيلم (سندريللا) وأكثر إثارة للخيال، لأن (لينا كيلاني) قامت بمهمة بناء أسطورة حديثة على أنقاض الأسطورة القديمة، فأحلت العلم محل السحر، والشجاعة محل الحظ. وهذا موقف فكري ما أحوج ناشئتنا اليه في الوطن العربي والعالم أجمع. ________________________________________________________ الدراسة المقدمة من الناقد الدكتور محي الدين صبحي في ندوة الكتابات الروائية والقصصية اتحاد الكتاب العرب جمعية القصة والرواية. * * *