قرأها النقاد بقصر الأمير طاز "خيال ساخن" أجواء أسطورية للمحبين في الأرض محيط – شيماء عيسى من اليمين الكاتب العشري والناقدان امبابي وعبدالله " .. المحبون وحدهم يلمسون بقلوبهم جوهر الأشياء.. والهائمون حبا ينهلون من الدنيا سعادة الحياة .. إليهم جميعا حباً بحب " بهذه العبارات افتتح الأديب المصري محمد العشري رائعته الروائية "خيال ساخن" والتي تحكي قصة الحب على سطح الأرض حينما يكون دافعا لحياة الكائنات وأهمها البشر بل سبيلا وحيداً للخلاص واسترداد الروح . واحتفاءاً بالرواية الفائزة بجائزة احسان عبدالقدوس لعام 2008 ، أقيمت الأحد الماضي أمسية لقراءة الرواية احتضنها قصر الأمير طاز التابع لصندوق التنمية الثقافية تحدث فيها كل من الناقد والروائي فتحي امبابي والناقد د. يسري عبدالله بحضور عدد من الكتاب والإعلاميين ، ودعت للأمسية مؤسسة "شمس" للنشر والإعلام . الرواية صدرت حديثا عن "الدار العربية للعلوم والنشر" في بيروت، و"مكتبة مدبولي" في القاهرة، و"منشورات الإختلاف" في الجزائر ، وكلمة الناشر د. عادل ضرغام عنها نقتبس " .. أسطورة الذات الفردية، التي تظل في بحث عن نصفها المفقود منذ بدء الخليقة، ونشأة الكون، فإذا وجدته فإنها تصير إنسانا كاملا، بتعبير المتصوفة.." الناقد د. يسري عبدالله اعتقد أننا أمام نص يحاول الدخول لغمار العلاقة الحميمة بين العاشق والمعشوق وأكد عليها مفتتح الرواية وإهدائها الذي جاء كالتالي : " إلى الأرواح الهائمة في الكون بحثا عن جنتها الخاصة " . الإنسان هاجس الرواية وتساءل الناقد هل لازال الحب ك"تيمة كبرى" مثل فكرة الحرب والكراهية والمشتركات الإنسانية العامة ، هل لازال مادة صالحة للتناول في الروايات الحالية أم أنها أصبحت تقليدية ؟ ، وأرجع الأمر بالنهاية لمقدرة الكاتب على التشكيل للتيمات الكبرى هذه وفق رؤيته الخاصة للعالم ووفق قدرته على إيجاد مخزون حكائي مختلف ، كما أن الكاتب استخدم لغة رهيفة مسكونة بموهبة حقيقية ، واستشهد بالمقطع التالي من الرواية " في حديقة البيت رأيت كتلة من شجرة متحجرة باقية من الأزمنة الجيولوجية البعيدة وتقلباتها التي رسبت محاليل الرمال المنصهرة في خلايا المادة الحية تاركة بقايا الكائنات العملاقة كحفريات متناثرة تدل على الحياة القديمة .." . غلاف الرواية العشري هنا يصف شجرة أصبحت حجرية مع الزمن وأضحت بلا ملامح فلا أغصان فيها ولا حيوانات تتجول في حضورها ، وإذا بتاجر غلال ينقلها لبيته ويرويها وسط أشجار حديقة منزله لتدب بها الحياة ، ثم يأتي "ساهر" احد الشخصيات الهامة بالرواية وعلى الرغم من معاناته من إخفاقات وفشل ذريع بحياته إلا أنه يمثل الفارس المنقذ لأهل البيت الذين ظلوا بداخله لا يبارحونه خوفا من الحيوان الرابض بالخارج ، حيث يقتل ساهر السلعوة الغريبة التي داهمت البيت ، ويتحول ساهر لمخلص تحلم به الفتاة الصغيرة جومانة ويصبح رمز الأمان لكل أهل البيت. ويتابع د. يسري : العشري لا يترك الحكي الغرائبي فيتحول ليروي قصة التنين الذي خرج من لوحة رسمها تاجر الغلال صاحب البيت ، يخرج الحيوان لسوق الحيوانات يخاطبهم عن الحرية ويحاول أن يخلصهم من استعباد البشر لهم فيما هم يقتنعون بما يقول ونقرأ من الرواية في هذا الحوار بين التنين والحيوانات : "- لماذا أنتم مجتمعون هكذا ؟ إننا هنا نباع ونُشترى! لماذا تتركونهم يتحكمون في مصائركم؟ إنهم سادتنا، اولياء نعمتنا. - لا .. إنهم مستعبدونكم . - أنهم يكفوننا لقمة العيش. - الحياة ليست معدة فقط .. الحياة حرية .. يجب أن تملكوا مصائركم حتى يحترموكم .. - كيف لنا ونحن ضعاف؟ - لا ، بل أقوياء، أقوياء جدا لدرجة لا تصدق .. هل نظرتم إلى أنفسكم ؟ هل رأيتم ما تقدمونه من عمل ؟ إنكم قادرون على فعل ما تنوء به الجبال ، إذا اتجهت بصائركم إلى الحرية ، حتىلو ضحيتم بأنفسكم ، الحياة ننالها مرة واحدة فقط وليس هناك مفر من أن نحياها بكرامة وإلا فلا . - وهؤلاء البشر؟1 - إن منهم من يشفق عليكم ، وإذا فعلتموه من أجل الحرية جنسكم ولو عنوة سيكونون معكم ".
واعتبر د. يسري كذلك أن الإنسان هاجس هذه الرواية مثلما هو هاجس الأدب الحقيقي حول العالم ، وهنا يتخلق حلم الحرية المراوغ أيضا المرتبط بحياة الإنسان ، كما أن هذا الإنسان له عدة وجوه بالرواية فتاجر الغلال من جانب آخر فنان تشكيلي حتى أنه يأمر أحد النحاتين بصنع تمثالين لساهر بعدما خلصهم من الحيوان المرعب وأصبح رمزا للأمان للجميع . د. يسري : عنوان الرواية مخادع أما عن عنوان الرواية " خيال ساخن " فهو مراوغ بجدارة ، حيث يحمل مدلولا مختلفا تمام عما يتبادر لذهن من يسمع بها ، ينصرف الذهن عند غالب المتلقين لأن هذه الرواية حتماً ستحوي دلالات "إيروتيكية" أي جسدية أو جنسية، بما تحمله هذه الدلالات من انطباعات معيبة في الثقافة العربية عموما ، ولكن هذا لم يحدث بالرواية في الواقع ، لأن العشري يحكي بسخونة الخيال بشكل مختلف ، نفهمه من هذا السطر مثلا من الرواية وهو يتحدث عن الفتاة جومانا ويقول " الذي زاد خيالها وألهبه ماكانت تسمعه من البستاني في الحديقة ، جعلها تظل ملاصقة له وهو يقوم بعمله ، يحكي لها بفيض وتجديد في المواقف والأحداث التي يبتكرها تلقائيا " . الرواية تتشكل من أربعة اجزاء الأمل ، الهُيام ، النافذة والعناق ، وعلى الرغم من غياب البطل ساهر من مناطق كثيرة بالجزء الأول فقد حرك العديد من الأحداث ، وإذا انتقلنا لزمنية السرد سنجد أن الراوي يضفر النص بالوقائع التارخية الحقيقية ، ونقرأ من الرواية في صفحة 42 هذا المقطع " سكنت الواحة وعمرت بالسكان في عام 4440 قبل الميلاد ، أصبحت منتجعا لكبار رجال فرعون ووزرائه ، بالقرب من بحيرة "موريس" الهائلة ، التي تبخر وتسرب منها الماء بمرور الزمن ، لم يبق منها إلا بحيرة "قارون" الصغيرة ، التي لا تزيد مساحتها عن مائتين وعشرين كيلو مترا مربعا ، مستوى الماء فيها تحت عمق خمس وأربعين مترا من سطح البحر ، اكتسبت تسميتها من قارون – وزير فرعون- وحامي خزائنه التي لا تحصى ، لكن شوقه إلى المزيد ، جعله يُرجع غناه إلى عمله بالكيمياء، وقدرته على تحويل التراب إلى ذهب"، وأخيرا يبهرنا العشري بحضور الكائنات الأخرى في الرواية ومحاولة أنسنتها والحكي بلسانهم لا على لسانهم. بلا زمان ولا مكان .. رواية تنقل لعالم الأسطورة انتقل الحديث عن "خيال ساخن" للناقد والروائي الكبير فتحي امبابي ، والذي ربط بين الرواية وطبيعة عمل الراوي كونه بالأساس يعمل بمجال الجيولوجيا فهو يبدأ الحكاية بشجرة تحولت لصخرية ، ولو حفرنا تحت الشارع الملاصق للقصر سنجد غابات تحجرت وكانت صحراء الشمال الأفريقي كلها غابات قديما ومع التغيرات الرسوبية تحولت ، ولفت من جانب آخر إلى أن العشري لا يرتكز في روايته على العلية أو السببية ، فهو مثلا يجعل تاجر الغلال من دون مبرر رساما ، كما اعتبر ان المكان بطل من أبطال الرواية ، وعن طريقه ينتقل العشري من الواقعي للغرائبي الأسطوري ، والحكاية تقهقرية فالبنت جومانة تظل تبحث عن الفارس الذي خلصهم من الحيوان المرعب وتجده فجأة بعدما تكبر وتعتقد أنه هو وتحبه ثم تأتي به لمنزلها وهو لا يدري من هي ولماذا أحبته بلا مقدمات ؟ . ويرى امبابي أن الزمن مرفوع تماما من النص ، كما تحفل الرواية ب"الميثولوجيا" أو معتقدات الشعوب والتي تحتفي بالأسطورة في كثير منها ، بعضها ديني من القرأن وبعضها توراتي وبعضها فرعوني . نقرأ من صفحة 41 بالرواية من حديث الشاب الذي يعمل مدرسا للتاريخ وتعتقد جومانة أنه ساهر المخلص وهو برحلة نيلية مع رفاقه " تفرس في ملامحهم الهائمة في ماء النهر، عيونهم تتلاقى هناك ، عند مجرى مائي على الضفة اليمنى للنهر، على مرمى أبصارهم ، عندها ينزلق الماء ، يسافر بعيدا، يندفع إلى شق عظيم بلا قرار .." ثم في الصفحة التالية " وجدهم شاردين ، لفت انتباههم ، شد تركيزهم ، وهو يفسر اللغز أمامهم ، فعند تلك الفتحة المسماة بثغرة "اللهون" عبر فرع صغير من شجرة النهر ، انتقل الماء إلى واحة الفيوم ، في زمن ماض، من خلال بحر يوسف ، الذي حفره يوسف " الصديق" في عهد فرعون مصر " العزيز" حين كلفه بذلك . امبابي: تحوي التراث الديني والفرعوني كانت المنطقة في ذلك الوقت مليئة بالمستنقعات ، فجمع الشباب حوله، عملوا ليل نهار بلا كلل ، مدة سبعين يوماً، أنجزوا خلالها حفر البحر ، استصلحوا الأرض ، أنقذوا الناس من مجاعة كانت ستهلكهم لسبع سنين ، أضافوا إلى مخازن الغلال زروعا وفيرة ، حين وجد العزيز أن العمل تم بتلك السرعة ، اجتمع بيوسف ، قال له إن العمل كان يحتاج لألف يوم على الأقل ، أدمج الناس الكلمتين في تداولهم فيما بعد ، أصبحت " الفيوم" . ننتقل للبطلة جمانة وساهر فنكتشف أن ساهر لم يكن بطلا بل رجل طرد زوجته وتعامل معها بشكل رديء ثم بعد وفاتها يتزوج بنت صغيرة ، وتميز العشري ، والحديث لازال للناقد امبابي، بجمع مظاهر الطبيعة الكونية من نيل وصحراء ونجوم مع تاريخ قدماء المصريين ، فبدا الكون كله متوحدا وكأن إيقاع الإنسان متشابها منذ بدء الخليقة للآن ، ونقرأ من الرواية ص 53 " .. فمنذ خمسة مليارات من السنين ، لم تكن الأرض سوى جزء من سحابة هائلة من الغبار والغاز ، تدور في الفضاء ، تكتلت السحابة مع بعضها وتمركزت في المنتصف تماما ، مكونة نار الشمس ، وبدأت قطعة من تلك التكتلات تتجاذب أكثر أكثر منتجة الكواكب ، ومنها الأرض التي كانت يابستها في الأزمنة السحيقة قطعة واحدة ، سكنها شخص واحد ، أنتج عائلة واحدة تشعبت في الاتجاهات الأربعة ، وحين غطت المياه اليابسة ، وتكاثرت الزلازل، اضطرب الكون، تقطعت الأرض إلى القارات، تحركت كل قارة بمن عليها، وما فيها في اتجاه مختلف، وما أن نسى الإنسان كعادته ما أصابه ، ومن فقدهم ، حتى بدأ يستقر من جديد .. " أراد أن يشير باتحاد الأرض ثم انشطارها وتوزع البشرية أننا دائما ما ننسى أننا كنا واحدا. وقال أننا أمام صور ليست مطروقة برومانسيتها ويخرج الكاتب من الغرائبية للواقعية ، نقرأ مثلا في صفحة 71 من الرواية : "فبالله عليك ، لا تتوقفي كثيرا أمام أشياء مرت ، حياة مضت ، لا تسألي عن تفاصيل لا محل لها بيننا ، بالأمس وضعت اصابعي في فضاء الكون، لمست الخيط الرفيع الذي نبت بيننا لأول وهلة ، وتضخم سريعا في القلب حتى اصبح بعمر نجمينا ، الساهرية على حراسة روحينا منذ خلقهما الأول" . تميزت الرواية بحكي الحب على لسان كل الكائنات وليس الإنسان فحسب ، وتميزت بكونية المكان فنحن لا نرى ما يشبه حارة نجيب محفوظ بل وصف مهندس جيولوجي يرى مساحات الكون الواسعة وتظهر بكتابته حيتان انقرضت من عالم قديم وأفيال وتظهر الأرض والصحراء ، كما أن الزمن هو الآخر مطلق ، ونكتشف بنهاية الرواية أن ساهر الذي أحبته جومانة حينما كبرت لم يكن المخلص الأول ولكنه ابنه ونكتشف أن علاقة الابن بالأب كانت سيئة . يقول البطل بمقطع من الرواية : " أين قدماي من الأرض؟ لم أعد أشعر بشيء .. فقط قابض على روحي وروحها التي تعانقني بأصابع لا مرئية ، تخلطهما معا فالقلب حين يحمل الإنسان على اجنحة الحب تتلاشى جاذبية الأرض، يصبح منجذبا بكل قوة تجاه النجوم .. ". محمد العشري ** عن الكاتب - روائي وكاتب مصري من مواليد نوفمبر 1967م - حاز جائزة نادي القصة في الرواية عام 1999م - حاز جائزة الهيئة العامة لقصور الثقافة في الرواية عام 2001م - حاز جائزة إحسان عبد القدوس في الرواية عام 2008م - صدر له أيضا : 1- غادة الأساطير الحالمة : رواية. الهيئة العامة لقصور الثقافة، 1999م 2- نبع الذهب : رواية. الهيئة العامة للكتاب، 2000م 3- تفاحة الصحراء : رواية. مركز الحضارة العربية، 2001م 4- هالة النور : رواية. مركز الحضارة العربية، 2002م