رغم ما سببه لي السفر من أوجاع البعد عن أولادي وزوجتي، وأن أكون مواطنًا عزيزًا في بلدي؛ فإنني فضلت أن أكون رجلًا؛ وألا أبكي علي رءوس الأشهاد (هه، هأنا بكيت، ولماذا نحاول أن نتجمل إذا كان هذا هو الحال). كنت في سفري أفكر كثيرًا في أمي (سميحه صادق سلامه) رحمها الله، وأنا صغير كنت أراها في بيتنا الريفي الكبير، مازلت أذكر بابه الخشبيّ السميك، بمزلاج كبير، كان والدي -رحمه الله- يصر علي إحكام غلقه من الداخل بعد صلاة العشاء، كان إخوتي الكبار الذين يعشقون السهر؛ يصيبهم الأذي من انتظار والديّ لهم خلف الباب؛ أو شباك الشارع وهم يتحايلون لدخول البيت كل ليلة، وتسلق عرق خشب ممتد في الحارة، كانت أمي تأخذ نصيبها من الأذي أيضاً؛ وهي تحاول أن تفتح الباب لهم خلسة، ويظل أبي مصرًا وحريصا - كربّ البيت - علي فرض قوانينه وتنفيذها بطريقته الخاصه، لم تتغير عادة إخوتي الكبار في السهر، وعندما يحتدم الأمر تكون المواجهة بين الطرفين عنيفة، زاعقة، ولم ينتج عنها إلا بكاءٌ وصراخ، ودائمًا أمي في المنتصف كالحبوب تطحنها الرحى، تبكي. أقسم أخي - علي عيد - رحمه الله أن يهاجر ولايعود إلي القرية أبدًا، عاش غريبًا ومات غريبًا؛ ودُفن في بلاد بعيدة حسب وصيته. عندما أنتزعُ نفسي من مشاغل الحياة أزور قبره وأقضي وقتًا قبالته، منكس الرأس احترامًا للموت، و احترامًا لعظام أخي تحت التراب، أسترجع الساعات القليلة التي قضيناها معا؛ رغم عمرنا المديد، ولا أنسي ابتسامته وهو حي؛ وكأني به يبتسم لي من وراء الغيب والحجب؛ التي لا نعلم كنهها إلا علي سبيل الظن والتخيل، قائلًا: لا تحزن يا أخي، جرب كل شيء ولا تخف ، ودار بيننا حوار... هو خلاصة تجربته في الحياة، (هذه الكلمات بيننا، وابتسامته الحية معي، وعظامه الراقدة تحت التراب أمامي؛ هي كل ماتبقي لي من رجل عرفته كالغرباء، هو أخي). منكسًا رأسي أنا قبالة قبرة الذي تعرفت عليه بالكاد (فلم يكن هناك شاهد علي القبر كتبت عليه آية قرآنية، أو حكمة بليغة، أو كتب عليه اسمه وفصله ومن أي البلاد هو، لم يكن هناك شاهد يدل عليه؛ حسب وصيته أيضاً، كان -رحمه الله- عنيدًا، اختار أن يكون غريبًا في حياته وغريبًا في موته؛ وكأنه يقول: ليس هناك فرق ، إنها أرض الله في كل مكان). أمطرت الدنيا فجأة ، واستسلمت للمطر الغزير، وأنا أتابع التواء النبات والورد الذي يزين المكان من ضربات المطر، أنقذني المطر من سخونة كنت أشعر بها، وقبل أن أذهب، همست لأخي: ألم يكن هناك طريق آخر للتقارب والاحتواء وزرع الود والتفاهم والورد، بديلًا عن الشوك والغربة والدموع؟ كنت آري أمي ، تعمل منذ الفجر وحتي العشاء، تنظف روث الزريبة، تحلب البهائم، تجهز الفطور، تخبز أمام الفرن (ومازالت صورتها وهي امرأة سمينة بيضاء، حولها البنات، وهي تضحك فتهتز، تدنع عيناها ويحمر وجهها في وهج الفرن، تختبر صينية الأرز المدسوس بالحليب والسمن البلدي، ترش حباته للكتاتيت الصغيرة حولها؛ لتطعمها، فيعتصر قلبي ألمًا من جمال الصورة؛ لما فيها من سعادة وخير وهناءة وطمأنينة مفتقدة ). كانت تغسل علي يديها ملابس الأسرة، المكونة من عشرة أفراد هم إخوتي، تطحن الحبوب، وتخزنها، تقشر غلاف الأذرة علي السطح. تتحمل نزوات أبي المتصوف؛ الذي يغيب عن البيت أيامًا في حضرة وليّ، أو في ذكر مولد من الموالد. كنت أراها تبكي كثيرًا؛ بسبب الخلاف الدائم، وقسوة أبي مع إخوتي، وعدم تقبله أخطاء الشباب ونزواتهم، أراها كل يوم علي هذا الحال فتنام مجهدة آخر الليل؛ وهي تمخر في صوت عالٍ كحصان عجوز هده التعب. تعبت أمي، وتغلب عليها التعب، اشتكت رأسي رأسي، وماتت. في رحلتها الأخيرة، ولأول مرة، تستريح، تسترخي، تستسلم؛ وتتوقف عن العمل؛ لتُحمل هي علي أعناق الرجال. تعبت أمي، تغلب عليها التعب؛ ماتت، وهي محمولة من البيت؛ كانت الملابس التي غسلتها بيديها؛ معلقة علي واجهة البيت، نظيفة، شفافة، لم تجف؛ وكأنها تبكي أمي. فكرتُ كثيراً في أمي التي ضحت بكل شيء، أفكر في هذا الرباط الخفي بينك وبين إنسان مات، في جوار الله، كيف نشعر، أو نتذكر الأم، الأب، الأخ، أو الزوجة التي تركتنا وعبرت إلي العالم الآخر، هل تظل مشاعرنا حية أم تبهت الذكري؟ و ينطفئ وهج المشاعر مع الوقت؟ أفكر من منا يتذكر أمي، و من يجازيها عن تضحياتها من أجلنا؛ وهي التي لم تعرف هناءة العيش ، ولم تعرف أن تعمل علي قدر الطاقة، رأيت كثيرًا من الحيوانات تُضرب عن الطعام؛ وتظل حزينة حتي تفارق الحياة لموت صاحبها، أما نحن البشر فنهرق كل دموعنا مرة واحدة لحظة فراق الأحباب، ومع الوقت نادرًا ما نتذكر موتانا بكل حيوية المشاعر التي تركونا عليها. في سفري، كنت أحن إلي ملمس (عِرق الخشب) الممتد في الحارة، وابتسامة أخي (علي عيد) الحية معي،و لم تفارقني صورة أمي (سميحة صادق سلامة) رحمها الله، سمينة، بيضاء، تدمع عيناها، يهتز جسدها السمين؛ يحمر وجهها؛ من وهج الفرن وهي تضحك مع البنات حولها، تختبر صينية الأرز المدسوس بالحليب والسمن البلدي، وترش حباته علي الكتاكيت حولها.