عندما كان يمر بالجوار مرتديا بنطالا واسعا مزموما بحبل حتى أعلى بطنه ، ومطويا من أسفله عدة طيات، تكشف عن ثلث ساقيه ، وحذائه الذي يتسع لقدم أخرى مع قدمه مشدودا برباط قنب ،حتى لا يفلت ويهرب موليا. تاركا قدمه حافية . كانت تلكزني صديقتي وتقول :" إجا" عمك علي أرد عليها بحدة : بل خالك علي، ونتراشق الكلمات ، عمك علي ، خالك علي ، لا عمك ، لا خالك... وعلي هذا ، بهلول مسكين، لكنه داهية يمثل الدروشة ويتقنها، وأذكر أن أمي كانت تقول لي عنه وأنا صغيرة أنه لا ينقصه شيء وإنما دلال أمه له افسد عقله ، وجلوسه بين النساء وهن غير مباليات بوجوده لبهللته، جعل منه نمسا يسمع كل أحاديثهن ، يتباسطن بالحديث معه ، ويضحكن . يجلس على الأرض ضاما ركبتيه إلى صدره ومشبكا كفيه عاقدا بهما على ساقيه، وهو يتلفت يمنة ويسرة بحركة لا إرادية من رأسه شبه المتصحر ، الا من بعض شعيرات . يجلس على الأرض ضاما ركبتيه ، يشعرهن بأنه لا يعِ شيئا من أحاديثهن الخاصة جدا ، وهو بدهائه، مستودع الاسرار النسائية، وكل أخبار البلد التي يجمعها عن المقاهي المنتشرة على امتداد شارع البلدة الرئيسي ، إذ كان يستعين به أصحاب تلك المقاهي لجمع نفاياتها، مقابل أجر هو حسنة بنظرهم . يملأ جيوب بنطاله الكبيرة سكاكرا ومسليات وبالونات، ويجلس على دكة بيت العائلة الكبير ، نجتمع صبية وبنات الحي ،نحيط به كحلقة ونتودد إليه أن يجود علينا ببعضها، لكنه يبتزنا فيأخذ باستعراض حركة رأسه يمنة ثم يحملق في الفراغ ثم يحركه يسرة ، ليعاود تلك النظرة التي توحي ، وكأنه يستدعِ " بسم الله الرحمن الرحيم " أصدقاءه من العالم السفلي أو هكذا كنا نتوهم ، فيحيط نفسه بهالة من الغموض تخيفنا ، سرعان ما تنفرج شفتيه عن أسنان متآكلة ، يعلوها السواد فيزمها بخبث، وينظر بعينيه الصغيرتين الثاقبتين للحالة التي يخلقها في ذواتنا المنتظرة ، فيطلب منا أن نفتح أيدينا، "ليكمش"قبضة من بذر القرع من جيبه ، يمسك يدي فأفرح، يبدو محتوى القبضة يستحق هذا العناء ، وسرعان ما تتبدد أحلامي عندما أرى في باطن كفي بضع حبات، ليعيد الباقي الى جيبه ، ويعاود الكرّة مع الاخرين . كبرنا ولم يكبر علي ، بقي على ذات الهيئة ولاأذكر أن مظهره تغير يوما. في انتفاضة الحجارة كان له دور مهم ، إذ كنا نرسله أمامنا مستطلعا لنا الشارع لكونه لا يلفت نظر قوات المشاة التي تجوب البلدة مستعرضة قوتها، دابة الرعب في قلوب الأمهات على أولادهن المنتشرين بالطرقات يحملون "المقاليع" يرشقونهم بحجارة السجيل ، التي كانت تنهمر عليهم من كل حدب وصوب ، سرعان ما يتقهقرون يتخبطون مطلقين قنابل الغاز السام والرصاص المطاطي والحي . وفي يوم شتوي ما زلت أذكر تفاصيل أحداثه ، استيقظت على مكبرات الصوت في الجوامع تدعو الى مسيرة احتجاجية ، انطلقنا فتية وفتيات إلى مكان التجمع عند الجامع الكبير ، لحق بنا رجال ونساء ليس مشاركة بل خوفا كل على فلذة كبده سرعان ما تحمسوا عند سماع الهتافات المنددة بالاحتلال ، " يا شهيد ارتاح ارتاح ، واحنا بنكمل كفاح . . باب الأقصى من حديد ما بفتحه إلا الشهيد ... يا أم الشهيد زغردي كل الشباب اولادك، يا اخت الأسير تمردي الموت ولا المذلة حيا الأم الصابرة حي الله الأخت الثائرة " كانت هذه الهتافات كالإكسير، يصب في عروق كل من سمعها، فتلهب المشاعر حماسا وتجعل الكبير قبل الصغير مقبلا على الموت ،رلا يهاب الرصاص ولا البندقية المصوبة على صدره . جابت المسيرة الحاشدة أحياء البلدة، وكانت متجهة إلى بيت أحد العملاء الذي اكتشف أمره مؤخرا ، توقفت هناك تدعوه للخروج ليسلم نفسه لعدالة محكمة الشعب ، لكنه تمترس في منزله مع عائلته رافضا الخروج ومطلقا الرصاص باتجاه المتظاهرين. هاجت الجماهير وماجت إثر إصابة العديد من الفتية من جراء إطلاقه النار عشوائيا، وأخذت الجموع تضرم النار بإطارات السيارات أسفل المنزل المكون من طابقين ، ونحن نجمع الحجارة، ونضع الإسعافات الأولية من الشاش والكربون والبصل لتفادي الغاز ، طائرات الإستطلاع "الهوليكوبتر" تجوب سماء البلدة تحلق على ارتفاع منخفض ، وقوات الجيش ترابط على مدخلها لا تتقدم ولا تتدخل، ويبدو أنهم اكتفوا بالمراقبة والمتابعة عن بعد ، فما حاجتهم لمن احترق كرته ووقعت ورقته ؟! هذا ما يريدونه تماما ،التخلص من هذه الجيف بعد انتشار رائحتها العفنة ، وإن لم يستطع الشعب القضاء عليه يتدخلون في الوقت المناسب لإنهاء حياته حتى تدفن أسراره معه. تأزم الموقف أكثر عندما تزايدت أعداد المصابين ، ووصلت ثورة الجماهير ذروتها ، فانقضوا على المنزل بالبلطات يحاولون فتح ثغرة في جداره لاقتحامه ، وبعد محاولات عدة ، نجح الشبان بذلك فانقضوا عليه وهو مختبيء كالفأر في أحد الزوايا ، أشبعوه ضربا ، ولم يبقَ مكاناً في جسده لم تطاله أيديهم بما يحملون من سلاح أبيض ، ضاع دمه بينهم وكان التخلص منه جماعيا . عند الغضب لا تقف بوجه مظلوم فأنك لاتعِ ردة فعله فما بالك بمن له ثأر عنده الآن ويصفيه؟! سحبوه على مدخل بيته يجرون جسده الذي بدأ اسوداً متفحماً ، أو هكذا رأيناه ، كل يبصق عليه ولا تدرِ كيف تشفي غليلك منه. لأول مرة أنظر الى جسد بهذا القرف وهذا الاشمئزاز ، لم يحرك بي منظره أي إحساس بالشفقة عليه ، أخذ بعض العقلاء والشيوخ ينصحون الجماهير بالهدوء ودفن جيفته لكن غليان عروقهم لا يطفئه هذا النداء جروه جرا تتبعهم الجموع، اتجهوا الى عمود كهرباء قطرية تتوسط الساحة الرئيسية ، علقوه عليه مصلوبا متفحم الوجه مزرقا ومتدلي اللسان . ترشقه النساء " بالشباشب وتقول : " موت ، الله لا يردك " كانت عملية إعدام ظاهرها بشع لكنها إرادة الشعب الذي لا مساومة عليها ، فكم من دماء في رقبته ، وكم من معتقلين يقبعون في زنزانات الموت بسببه؟ على إثر هذه الحادثة اتجه العشرات من العملاء إلى الجامع الكبير معلنين توبتهم ومعترفين بارتباطهم بالاحتلال على يديه ، عن طريق إسقاطهم وتوريطهم وابتزازهم بطرق بشعة ، معظمهم من الفتية المغرر بهم ، فقد كان يستغل عمله بالتنجيم وسيطرته على عقول البسطاء من النساء والرجال ، لقد كان ضليعا بالعمالة منغمسا في اسنها من رأسه حتى اخمصه القذر . كانت هذه الحادثة فارقة في تاريخ انتفاضة الحجارة وتناقلتها وكالات الأنباء العالمية على شاشاتها مباشرة، أول عملية إعدام لعميل بحكم الشعب وبيديه . علي، شهد هذ الحادثة كما نحن ، وعند عودتنا إلى بيوتنا شعثا غبرا بعد يوم عصيب ، تجمعت النسوة عند دكة بيتنا الكبير. متجمهرات حول علي، وهو يقص لهن الحدث بحماس، وكيف كان طرفا مهما في عملية القضاء على رأس الحية المتواطئ. علي، كما الكثيرين من البسطاء من الحي الذي شهد طفولتي ، شكل ذاكرتي الزاخرة بي ، متمثلة في وطن ما زال يسكنني ومرابع ما فتئت أحيا بكريتها . مات علي، عليه رحمه الله وعندما تفقدوا جيوبه ، كانت ما زالت عامرة بالسكاكر، وبذر القرع والبالونات ، بقي الصبية متحلقين حوله لا يطمعون بها ، بل حزنا على رحيله الذي ترك فراغا، فغاب عن تفاصيل يومهم الذي كان جزءا فاعلا فيه.