"نصف حالة"، مجموعة قصصية لابتهال الشايب، ليست اعتيادية مستريحة، لا من حيث البناءات الفنية ولا الموضوعات. هي مجموعة صغيرة من حيث عدد الأوراق- 54 صفحة- لكنها تحاول منذ الكلمة الأولى وحتى النقطة الأخيرة أن تكون مختلفة. القصة الأولى التي تحمل عنوان المجموعة صادمة، ربما لأن التي كتبتها فتاة من الصعيد، لا نستطيع أن نجنب هذه المعلومة مهما حاولنا أن نفصل النص عن صاحبه، وقد يساعدنا أن اصحاب نظرية موت المؤلف قد تراجعوا عنها، أو تجاوزتهم نظريات النقد الحديث، فهي تحكي عن حلاق مخنث، يعشق شعر جسد زبائنه باعتباره إمارة ذكورتهم التي يهفو إليها، ويعيش حالة ازدواج: ففي الصباح يرتدي مسوح الرجال ويخرج للعمل في محله، وحين يعود إلى غرفته ليلاً يتحول إلى أنثى: يحلق شعر جسمه ويرتدي قمصان نوم ويضاجع بنطالاً رجاليًّا. هذه الصدمة تجعل قارئًا مثلي يتوغل أكثر ليعرف، فيجد نفسه داخل عالم مختلف- القصة الأولى كانت خادعة على نحو ما-، فليس ثمة شخصيات طبيعية بعد ذلك، وليس ثمة مآزق جسدية مجتمعية، بل دخول إلى عوالم داخلية رمزية غير معقولة. القصة الثانية عنوانها: جزيء، بطلها انتحر بالفعل، أطلق على نفسه رصاصة من مسدسه ليتخلص من عذابات مرضه، والفضاء القصصي يدور في المنطقة الفاصلة بين الانتحار والموت، كثيرًا ما تأملتُ هذه المساحة وتمنيت أن أكتبها، أو أن أقرأ كتابات جيدة عنها، إلى أن قرأت هذه القصة التي تزيد عن الصفحات الثلاث قليلاً، بطلها المنتحر يطلق رصاصاته تباعًا على مواضع الألم التي خلفتها طلقته الأولى كي يستريح، يستمر في فعل هذا حتى تختفي الشجرة من النافذة، تلك التي كانت التجلي الوحيد الذي يظهر له عن الحياة في عالمه الضيق الذي ليس سوى سرير في غرفة بالمستشفى. قصة: احتضار محتمل، بطلها مهندس يرى- فجأة- أن كل شيء حوله ينقلب، الأحذية مكان الرؤوس، والإسفلت مكان السماء، حتى العمارات التي يرسمها انقلبت، والبيت والناس والقطة.. وكل شيء، ترسم القاصة من خلالها عالمًا غرائبيًّا غير معتاد. تزداد الغرائبية في قصة: قوس، فبطلها يتحور من إنسان إلى حبة رمل إلى زذاذ إلى أشكال متعددة، يحاول النفاذ من تلك النقطة التي تصل السماء بالبحر، حيث القوس نموذجي في استدارته، وعندما يصل يضل، ولا تعتدل الأشياء وتعود سيرتها الأولى إلا بعد أن تجذبه السيارات المارقة على الإسفلت، هنا- فقط- يرى البحر خلفه تمامًا. ثمة تفاصيل يختلط فيها كل شيء بأي شيء، بعد أن نجحت الكاتبة في أن تجعل القارئ يتقبل أي غريب دون دهشة أو رفض. قمة الغرائبية في قصة: صدأ، حيث الحياة العصرية كلها داخل موبايل الآن، الرسائل والإيميلات وحسابات فيس بوك وتويتر، الإنسان العصري يسكن داخل شاشة الموبايل وينجز من خلالها أعماله ويحقق وجوده، عالمه هو الأزرار المبطنة لهذا الجهاز الصغير، فماذا لو انزلق الموبايل من جيبه إلى فوهة المرحاض؟ الإنسان- في القصة، وربما في الحياة- يحاول التشبث بعالمه الحديث، يدافع عنه، ويغدو العالم هو الشاشة والأزرار والبطارية ومحل الإصلاح، الذي يعيد الكائن الإلكتروني إلى الحياة ولو جزئيًّا، حتى يستطيع مواصلة رحلة دفاعه عن وجوده، وجوده المحبوس داخل جهاز صغير، موضوع في جيب بنطاله، الذي يحدث أن يميل قليلاً قليلاً حتى تلتقطه فوهة المرحاض. كل قصص المجموعة تُروى من وجهات نظر غريبة غير معتادة: "بندول الساعة" من وجهة نظر هذا البندول الذي يتأرجح دائمًا، و"انكماش" على لسان فيروس، حتى أن البطل في إحدى قصصها- الذي ليس سوى كلمة مكتوبة على الورق- هو الذي يروي مأساته بنفسه، منذ كان فكرة في ذهن الكاتبة، حتى تحول إلى كلمة في سطر بين السطور في ورقة، يحدث أن تتم كرمشته ضمن تلك الورقة ويلقى في سلة المهملات، ثم إلى الطريق فتدوسه الأحذية.. إلخ.. إلخ، إنها مأساة الكلمة ذاتها. عالم غريب ومثير بالفعل ذلك الذي تصنعه إبتهال الشايب، ينبني من قصص قصيرة، تدور كل منها حول ثلاث صفحات، تتألف- في الغالب- من فقرات طويلة، لدرجة أن القصة الواحدة قد تكون فقرة واحدة، يغلب عليها الطابع الذهني، فالحياة بناسها وأيامها ولياليها ومشكلاتها تتحول إلى ألعاب ذهنية ومعادلات رياضية وأسئلة واعية ولوحات تشكيلية، تقترب أحيانًا حتى تكاد تتشابه، وتفترق- في القليل منها- حتى تكاد تخرج عن حيز المجموعة الصغيرة، فنيًّا وموضوعيًّا. بالمجمل نحن أمام عالم مدهش جدير بالقراءة.