تُسعدني قراءة قصص محمد أبو الدهب. راهب القصة القصيرة البنهاوي، البعيد عن الصخب والضوء، باختياره وطبيعة مزاجه الخاص. تُسعدني قراءة قصص إنسانية لكنها لا تميل لاستعطاف القاريء وابتذاذ مشاعره بالطرق المعهودة والمنفرة إياها، قصص تحقق دهشتها ببساطة لم تعد متاحة لأغلبنا ممن طابت لهم الحيل التقنية البهلوانية، علي حساب التواصل مع قارئهم في أغلب الأحيان. عن دار الناشر، صدر لمحمد أبو الدهب، قبل أسابيع، مجموعته القصصية السادسة، نصوص الأشباح، وهو عنوان لا يرد في أي من قصص الكتاب أو في العناوين الفرعية لأقسامه الأربعة، كما لو أن اختيار خاص من الكاتب لتأطير قصصه في أوسع نطاق متاح: من ناحية هذه نصوص، قد تكون أي شيء، وحبذا لو كانت أقرب إلي شكل القصة القصيرة . ومن ناحية أخري فإن أبطال هذه النصوص، أو صُناعها مجرد أشباح لا سبيل إلي الإمساك بهم أو التأكد من حقيقة وجودهم. لكن الأشباح موجودة طالما هي تُنتج خطاباً، ولنا في شبح الملك الأب أمام هاملت ذكري وعظة. والمُطلع علي عالم محمد أبو الدهب القصصي سيعرف أن عالم الموت والموتي، بكل تجلياته وأحواله يتواتر عنده من قصة إلي أخري ومن كتاب إلي آخر، أحياناً بطلاً خاصاً للعمل وأحياناً أخري نغمة ثانوية بعيدة ولها أثرها علي اللحن الكلي مع ذلك. عالم محمد أبو الدهب يبدو ضيقاً ومحدوداً عند النظرة الأولي: القري الصغيرة، المقاهي والفنادق، العلاقات العاطفية العابرة والزيجات السرية قصيرة المدي، لقاءات المثقفين والكتاب، المساجد، الجنازات والمقابر . وأضيف إلي تلك المفردات مؤخراً- عالم مستشفي المجانين الذي احتل قسماً كاملاً، من خمس قصص صغيرة، في مجموعته الأخيرة. كما أن طموحه القصصي، ولو بحسابات المساحة، يبدو كذلك متواضعاً، بإصراره علي العكوف علي القطع السردية الصغيرة، مع يستتبعه ذلك من ضرورة تقطير لغته والاستغناء عن كثيرٍ من الآليات الضخمة في العملية السردية. نقول يبدو، لأنه يستطيع، بموهبته ودأبه الفريدين، أن يستنطق هذه المساحة الضيقة، وأن يري الكون فعلاً في حبة رمل، وهي مهمة ليست بالميسرة كما يعلم كل من جرب صعوبة كتابة القطع السردية الصغيرة. كما تمكن من تقليب عالمه محدود المفردات ومحدد المساحة علي جميع الوجوه والاحتمالات الممكنة له، في انتقاله من قصة إلي أخري. ابتسامة أسيانة تصاحبك بينما تقرأ قصص نصوص الأشباح، قد تتحول هذه الابتسامة مع أي سطر إلي ضحكة صغيرة مكتومة، فثمة حس سخرية مضمر ولاذع يتخلل السطور، حتي مع أشد الحالات سوداوية، مع الأمراض الخطيرة والحوادث العنيفة، فمثلا سُهيلة التي قد نعثر لها علي أثرٍ في أعمال سابقة وربما تالية لأبو الدهب تقع من بئر مصعد علي ارتفاع خمسة طوابق لتتهشم تماماً... وهكذا تنفضح مسألة هروبها من أهلها وزواجها بالرواي وإقامتهما بإحدي اللوكاندات...ورغم ما في هذه الحكاية من عناصر درامية تفتح شهية أي سارد وربما أي قاريء ليسن عدته ويتسعن علي الشقا بالله ويشرع في الحكي من طأطأ لسلامه عليكم، فإن محمد يكتفي بالفتات المتبقي من اللحظات الهاربة، يجمع كسرات الزجاج بيديه العاريتين عن الأرض ويمسح عنها العرق والدم ويرصها جنباً إلي جنب. يرفض تماماً أن يصنع حكاية لها رأس وذيل، وحتي عندما تبدأ هذه القصة بمشهد، لسهيلة وزوجها في غرفتهما بالفندق، سرعان ما يتسرب المشهد كله من بين أيدينا ليتركنا مع هواجس الراوي وذكرياته وتساؤلاته، التي تندمج تماماً في نسيج النص، وهنا في ظني البراعة الأساسية لقصص هذا الكتاب، مهما اشتط الكاتب لا تشعر أنه خارج النغمة، مهما فاجأك بانحرافات سردية أو تأملات أو دمج الفصحي بالعامية في سبيكة واحدة تشعر أنه مازال معك علي موجة السرد نفسها التي بدأ بها. بالسخرية الموجعة والتأمل الهاديء يحاول أبو الدهب أن ينزع عن الموت أنيابه الخرافية، وهو إذ يتأمله فإنه مثلنا جميعاً يتأمله من الضفة الأخري، ضفة الحياة، فيتحول حتي تأمل الموت إلي فعل حياة، بطريقة أو بأخري، فعل مواجهة. تعينه في ذلك كله جرعة صغيرة من الجنون، تقيه الاندماج التام مع جنون العالم. التحديق في الهوة السوداء التي تبتلع كل شيء . والتسليم بعبثية اللعبة من أولها إلي آخرها، لا ينفي بالمرة إمكانية الابتسام والضحك وإطلاق النكات. كما لا يمنع بالمرة من امتداد لعبة الحياة حتي هناك حيث الضفة الأخري، فمعلم المقهي الراحل "ينتظر علي أحر من الجمر قدوم عبد الخالق عامل المقهي، الذي يختلس نصف الإيراد، ليذيقه صنوفاً من عذاب القبر. في القسمين الأخيرين للكتاب، البحر لا يعرف عدوه من حبيبه، وأفيشات ناقصة، نقرأ 25 قطعة سردية صغيرة، تقترب في أحيان كثيرة من الجماليات المراوغة لقصيدة النثر، فهي نصوص لا تحكي حكاية ولا ترسم مشهداً، بقدر ما تتكلم وتشكل باللغة سؤالاً صغيراً خاصاً، مفارقة ذهنية تماماً لا حل لها هناك في العالم الواقعي. في نصوص قليلة فقط يطغي الضوء الساطع للمفارقة علي التشكيل اللغوي والتأمل الهامس . وهي نتيجة طبيعية لهذه المغامرة، مغامرة كتابة القطع الصغيرة، حيث كل نص طلقة نحو هدفٍ غامض، تصيب أو تخيب. هل استمرأ أبو الدهب عالم الموتي والأشباح؟ سؤال وارد، وسؤال آخر يرد: أليس من حق الكاتب أن يقيم حيث يشاء وأن يشتغل عالمه من المادة التي يفضلها، طالما استطاع كما في هذه المجموعة أن يُدهشنا ويدفعنا للتأمل والابتسام؟