"حوار الأجيال" يحتدم وبهاء طاهر يؤكد.. نحن الأسعد حظا د. حسين حمودة: خيط متصل بالتاريخ والحقائق المرجعية في تجربة كلاً من طاهر وهالة هالة البدرى: نظرية مؤامرة جيل الرواد ضد الشباب لا أساس لها من الصحة أكذب إن قلت أني سأكتب عن الثورة.. ولم يكتب عملاً حقيقياً عنها حتى الآن علاقة قد تبدو شائكة تلك التي تجمع أجيال الأدباء، لكل منهم مشروع أدبي يسعى لإرساءه، تصادم وتصالح، احتواء ومحاولات لسحب البساط من تحت أقدام الرواد أو المحدثين. تعلو الأصوات متهمة جيل الرواد بفرض رؤاهم على جيل الشباب ورفضهم لألوان جديدة من الإبداع الذي يقدمونه. فيما يقف على الجانب الآخر من ينادي بأن ظاهرة الأجيال هي امتداد طبيعي لتطور الفن، ولا أساس لنبرة الصراع السائدة. وحول "حوار الأجيال" أقام المقهى الثقافي يوم أمس ندوة حافلة شارك فيها كلاً من الروائي الكبير بهاء طاهر والكاتبة هالة البدري والناقد الدكتور حسين حمودة، وتطرقت الندوة إلى العديد من القضايا الهامة التي تطل على الساحة الأدبية لاستعراضها من وجهتي نظر تمثلان جيلين مختلفين وتستقصي مواطن الخلاف والاتفاق. في البداية وجه الشاعر شعبان يوسف الشكر إلى لجنة القصة بالمجلس الأعلى للثقافة التي بادرت بعمل ندوات مشتركة مع معرض الكتاب فنظمت هذه الندوة الهامة جداَ التي تدور حول فكرة "حوار الأجيال الأدبية". وتابع: نحن اليوم في حضرة الكاتب العظيم بهاء طاهر، والكاتبة الكبيرة هالة البدري واللذان ينتميان بلا شك إلى جيلين مختلفين في الكتابة، نحاول في هذه الندوة إلقاء الضوء على مناطق التنافر والتصالح بين أجيال الأدباء من خلال تجربتيهما. فالعلاقة بين هذه الأجيال الأدبية عادة ماتطرح إشكاليات عدة بين الحداثيين والكلاسيكيين، تنعكس على طرائق الكتابة وأساليبها وتقنياتها بحكم التطور الذي يطرأ عليها. وأضاف شعبان: أول قصة قرأتها لبهاء طاهر كانت قصة "المظاهرة" التي قدمها يوسف إدريس وكان منبهر بها إلى أقصى حد، والمفارقة أن أدريس أيضاً هو من قدم هالة البدري، لابد وأن هناك قسمات مختلفة بين الكاتبين في أنماط الكتابة والموضوعات التي تشغلهما، والدكتور حسين حمودة برؤيته النقدية المهمة في الحياة الثقافية يطرح عليهما أسئلة جوهرية كاشفة للتباين بين الأجيال الأدبية المتعددة. واتخذ الناقد الدكتور حسين حمودة مسألة السياق الثقافي والفكري الذي انبثقت منه تجربة بهاء طاهر وهالة البدري مدخلاً وفاتحةَ للحوار، وقال: لابد وأن كاتبينا ينتميان إلى سياقين مختلفين لكل منهما تأثيره الخاص على ملامح المشروع الأدبي الذي قدماه. والسؤال هنا لأي حد يؤثر هذا السياق على بدايات الكتابة ولأي حد يمكن أن يكون مغايراً؟ آثر الكاتب الكبير بهاء طاهر قبل إجابته على السؤال أن يتوجه بالشكر إلى إدارة معرض القاهرة الدولي للكتاب لحرصها على أن تدرج مثل هذه القضايا الهامة في البرنامج الثقافي الذي يقدمه المعرض. وقال: الموضوع مهم جداً يعكس تراث الثقافة والتعاون بين الأجيال. أنا أنتمي لجيل الستينات ونحن جيل سعيد الحظ. نضجنا على أيدي قامات كبيرة مهدت لنا الطرق وشجعتنا، لم نواجه صراعاً من الجيل السابق علينا بل على العكس تماماً. حظيت بدعم كبير في بداياتي من العظيم يوسف إدريس عندما قدم أول قصصي القصيرة في مجلة "الكاتب". وأعتبر نفسي محظوظاً لأني عاصرت نجيب محفوظ ويحيى حقي ولويس عوض ويوسف إدريس بالطبع. وأضاف طاهر: استفدت كثيراً من هؤلاء العمالقة في مشروعي الأدبي وكنت حريص طوال الوقت ألا أقلد أياً منهم في الكتابة، حاولت أن أشق طريقاً مستقلاً ولغة مستقلة. وكان ذلك من أهم ما تميز به جيل الستينات فقد طوع السياق الثقافي الذي نشأ فيه في إحداث ثورة على أساليب الكتابة وتبني مسالك جديدة تناسب الحالة الثورية التي سادت بعد ثورة 1952، وأظننا نجحنا في ذلك إلى حد كبير. وفي هذه الفترة كان عبد الناصر يمسك بزمام الثقافة بيد قوية، وبدأ يعيد صياغة الواقع بجوانبه الواقعية والاقتصادية والسياسية، وسيطر الفكر القومي على هذه الثقافة لكني كنت مغامراً دائماً في كتاباتي لا أمتثل لأي قيود. أما الكاتبة هالة البدرى فرأت أن فكرة الصراع بين الأجيال ونظرية المؤامرة التي يروج البعض أنها تحاك من قبل جيل الرواد لحجب الفرصة عن جيل الشباب لا أساس لها من الصحة، تراكم المراحل الإبداعية هي تطور طبيعي للفن. ففي بداياتي مع الكتابة كنت أتلمس الطريق بحذر، ساندني أديبنا الكبير بهاء طاهر اهتم بأعمالي الأولى قرأها ولم يبخل عليّ بالنصح والإرشاد، كذلك كان عطاءه لجميع الكتاب الجدد. لكني لم أتأثر بكاتب معين، جميع العمالقة الذين قرأت لهم أثروا في كتابتي الأدبية أمثال نجيب محفوظ، يحيى حقي، توفيق الحكيم، العقاد، طه حسين. ومن جيل الستينات بالطبع بهاء طاهر ومحمد البساطي، وعلى عكس الكثيرين لم أسعى ليكون لي أسلوب مميز في الكتابة بل حاولت تجديد نفسي في كل عمل أكتبه. ثم وجه الدكتور حسين حمودة سؤاله عن مدى تأثير الضابط الديني أو القيد الإجتماعي على تجربة الكتابة.. أجابه طاهر بأن الضغوط التي يمارسها من يدعون الدين على حرية الإبداع لم يكن لها وجود في الستينيات، ولم يكن لأنصار التيار الإسلامي حينها أي تأثير. كنت أقدس حريتي في الكتابة أغامر في اختراق التابوهات ولكني كنت حريص جداً ألا يكون ماأكتب مبتذلاً ومثيراً، بل كنت أتحدث عن الصراعات بشكل مهذب مثلما فعلت في رواية "المهدي". بينما قالت هالة البدري ان الكاتب دائماً ما يكون مراوغاً يهرب بحيل ذكية من مناطق الاشتباك مع الثوابت الدينية ويقول أيضاً ما يريده بطريق غير مباشر، فأظن أن الرقيب الداخلي للكاتب هو ما يجب أن يوجهه، وكثيراً ما كنت أتعمد أن أحاصر هذا الرقيب في داخلي وأنا أكتب فأفشل وأكتشف أنه أذكى مني سبقني وتسرب إلى النص. فلا تشغلني التابوهات لا أتعمد الكتابة عنها بل أترك الكتابة تأتي بانسيابية دون أن أقرر مصيرها مسبقاً. وتطرق الدكتور حسين حمودة إلى مناقشة محور ثالث يتعلق بتناول الوقائع التاريخية الكبرى كالثورات في الأعمال الأدبية، وأشار إلى وجود خيط متصل بالتاريخ والحقائق المرجعية في تجربة كلاً من بهاء طاهر وهالة البدري. وهنا طرح السؤال الذي وصفه بالمكرر أو الأزلي: هل يمكن أن يتناول الإبداع ثورة قائمة لم تكتمل بعد؟ أكذب لو قلت أني سأكتب عملاً عن الثورة، هكذا بدأ بهاء طاهر إجابته وتابع: كل الأعمال التي كتبت عن ثورة 25 يناير هي أقرب إلى الريبورتاج منها إلى عمل أدبي مكتمل، فأنا أقبلها كنوع من الذكريات يوثق لأحداث الثورة وماتبعها، ولكنها ليست أعمالاً خلقت لتبقى. الكتابة عن الثورة تطلب منا الانتظار، لايمكن أن تكتب عن ثورة وأنت تقف في وسطها، هي كالدوامة تبتلعنا وحتى نكتبها يجب أن نقف على أرجلنا أولاً ونتأملها من بعيد. هذا بالنسبة للأعمال الروائية، ولكن قد يكون الشعر أكثر قدرة على التعبير عن الحدث الثوري، فما يجوز له لايجوز لغيره. وقد قرأت ديوان "الميدان" لعبدالرحمن الأبنودي الذي أبدع في وصف الثورة والتعبير عنها. أما هالة البدري فقالت: بحكم عملي في الصحافة كنت مجبرة على متابعة أخبار السياسة لحظة بلحظة، مهنتي ورطتني في ذلك، ولاحظت أن هناك أوراق كثيرة توزع في الشوارع منذ بدء الثورة، جمعتها وأعددت كتاباً أسميته "قراءة في أوراق الثورة" لكني لاأعدها كتابة إبداعية، فهذه الربكة الثورية التي نعيشها لايمكن أن تخرج عملاً روائيا مكتملاً. ولكن هناك صور دقيقة تتخلل المشهد الثوري لاأملك إلا أن أدونها حتى أكتبها يوماً ما، فالروائي يختزن التفاصيل في داخله ويخرجها حين يتاح وقتها. ثم وجه الشاعر شعبان يوسف دفة الحوار صوب قضية هامة تمثل إشكالية في الساحة الأدبية تدور حول هجر العديد من الكتاب خاصة من الأجيال الشابة لساحة القصة القصيرة التي يعتبرونها مرحلة مؤقتة وتدريب على كتابة الروية. وأشار أن بهاء طاهر ظل مخلصاً لفن القصة القصيرة فأمتعنا بقصصه التي لم يسحب البساط من تحتها تألقه في السرد الروائي. وحول إشكالية علاقة الأدباء بالقصة القصيرة، أوضح طاهر أن هذا سؤال شديد الأهمية والخطورة، فالقصة القصيرة هي أنبل فنون النثر على الإطلاق أحبها وأشعر بسعادة غامرة وأنا أكتبها، فهي تجعلك متأهباً دائماً للدهشة، أنحاز إليها دائماً لما تملكه من تأثير كبير يفوق تأثير الرواية بمراحل، فربما قصة من صفحة واحدة مثل "نظرة" ليوسف إدريس تغني عن عشرات الروايات. لم أعتبرها يوماً تدريبأً على الرواية فلكل منهما آلياته. وأضاف طاهر: أن القصة القصيرة للأسف دائماً مايهضم حقها، لايتحمس لها الناشرين والكتاب أنفسهم، فنرى معظم جيل الشباب بدأو بها ثم هجروها إلى ميدان الرواية مثل طارق إمام وحسن عبدالموجود، ومن جيل الستينات أيضا يوسف القعيد وجمال الغيطاني. وما حدث من منح جائزة نوبل للقاصة أليس مونرو كان استثناء لا يعكس المكانة الحقيقية للقصة القصيرة على الخارطة الأدبية الحالية، والمفارقة أنه في عصرنا كانت القصة القصيرة تستخد كوسيلة دعائية للصحف الجديدة وتعد عنصراً جاذباً للقارئ، بينما حتى الصحف تنفر منها الآن. ورداً على سؤال وجهته له الكاتبة هالة البدري عن أعماله التي يبدأ في كتابتها ثم يتوقف، يقول بهاء طاهر: أكتب أحياناً ثم أتوقف بلا سبب واضح، وحين أحاول العودة لاأتمكن من ذلك، حلقة ما تسقط بيني وبين النص وأفشل في إكمالها، فأدفن هذه الأعمال وتصبح مصيرها سلة المهملات، لأني لايمكن أن أنشرها مبتورة. وهناك أعمال أخرى أتركها وأعود إليها لأجدها تنتظرني، بعض الأعمال استغرقت مني عشر سنوات.