رمال الصحراء تشهد ، والشمس والقمر الذي غاب ليلتها انه مر من هنا ...عاش هنا ... أكل الطعام المجفف وشرب الماء من الزمزمية ... ورقد هنا ...وحارب هنا... ليلتها كان الظلام يلف المكان ... القمر غفل بفعل سحابة متمردة غلقت عيونه للحظات حتى لا يرى محبوبه وهو يبتسم للمرة الأخيرة ... أعمدة الإنارة على جانبي الطريق غفلت هي الأخرى في تلك الليلة التي ظهر فيها مصطفى في أول الشارع المتمدد الواسع ... ظهر من بعيد مثل شبح ممتلئ ... تميز خطواته المتثاقلة زكه خفيفة من ناحية الركبة اليمنى التصقت به منذ سنوات حينما ضرب السكري أوصاله وأنهكت عظامه... كانت رأسه على الرغم من ظلام الشارع الدامس جدا مضاءة بكشافات كهربائية فائقة الضؤ ... التمعت عيناه وهو يمضي على الإسفلت وقد لمح نفسه في الجهة المقابلة للشارع المظلم ناحية الصحراء قبل ثلاثون عاما ... وقد هوى من الهليكوبتر مع زملائه لتنفيذ عملية استطلاع خلف خطوط الأعداء ... كانت الأجواء متوترة ... وعمليات الاستنزاف لم تتوقف على طول جبهة القتال وعرضها ... كان فنانا تخرج لتوه من مدرسة الصنايع قسم الزخرفة ... ومولع بالرسم والخرائط ... ضموه لكتيبة استطلاع صاعقة... ينزل خلف الخطوط يجمع معلومات ... ويرسم مواقع مستهدفة ...فتى في عنفوانه ... صبوح الوجه وال طله ... ابتسامته تسبقه أينما حل أو ذهب ... صاحب وجه مستدير ... وبشرة خمرية اللون تجتذبك بشدة ... خاصة عندما تلمح قسمات من سمار خفيف يتخللها فيضفى عليها سحرا وجاذبية وطيبة تأخذك منذ الوهلة الأولى عندما تلقاه أو تحادثه... كتب لمحبوبته المريضة أمه بعد عودته من إحدى العمليات الاستطلاعية الخطرة وقنص العدو خلالها ثلاثة من رفاقه... " أيتها المحبوبة ... منشغل كثيرا على صحتك ... هواجس كثيرة تخلع قلبي كل دقيقة عليك ... فلتصمدي مثلما نحن صامدون... أنا بخير ... كتب لي عمرا جديدا بفضل دعاءك ... مصطفى " ...وفي أول إجازة التقاها ... طريحة الفراش كانت بوجهها البشوش الذي مازال يحمل آثارا لجمال قديم رائع ... قامت بخفة فتاة العشرين وعانقته بحرارة ... التمعت عينيها وبياض وجهها الصبوح المتورم بفعل المرض ... كان سعيدا جدا ... وكانت هي كذلك ... خرج مع أصدقائه يومها ... جالوا في حديقة الحيوان بالجيزة والتقطوا الصور الضوئية... لم تغب عن ذاكرته لحظة تلك الصورة مع الزرافة العملاقة وقريبه الصغير المذعور وكان يبكي بشدة ... مضى اليوم ... وفي اليوم التالي غادر ... ولحقه بعد حين خبر مغادرة محبوبته الدنيا ... يذكر هذا اليوم جيدا ... كان ذلك في منتصف شتاء بارد للغاية ... وكانوا يستعدون لإحدى العمليات في الجهة المقابلة ... وجاء الصبح بالنبأ المزلزل لكيانه... استبعده القائد من العملية لكنه أصر بشدة ... لم يبك رغم إلحاحهم عليه بالبكاء ... أرغمه القائد على العودة للمنزل وتلقي العزاء ... قال له بحسم " لست مستعدا لإرسال احد ينتحر لدى هؤلاء الخنازير" ... بدا الأمر وكأنهم القوا عليه بأكثر مما يحتمل ... انهار في الطريق ... وفي المنزل فقد القدرة على السيطرة ... بكى بحرقه كما لم يبك أبدا ... ظل مذهولا ثلاثة أيام مدة الإجازة ... يتحرك ... يروح ... يجيء ... يتحدث مع الآخرين دون وعي أو حتى أدنى إدراك بما يفعله أو يقوله... وأخيرا لبس زيه المميز وغادر ... الذين التقوه وقتها يقولون انه كان مهموما جدا وكسيرا جدا ... غادر وعيناه مغرورقتان بالدمع وافتقاد المحبوب... وذكر مصطفى فيما بعد إن خطابا لحقه بعدة أيام من قريبه المذعور من الزرافة في الصورة الضوئية صاحب السنوات التسع يبلغه فيها تحياته ولكل المقاتلين زملائه ، وانه إذا كانت المحبوبة ماتت فمازالت محبوبته الأكبر تنتظره على الضفة الأخرى من البحر ... والسلام .... قرأ خطاب الصبي مرة بدهشة ... ومرات ... ومرره ... لزملائه في الوحدة ... والقائد ... كأنه كان طوق النجاة الذي جذبه بعيدا عن الغرق في متاهة الاستغراق في الوحدة والشعور بالافتقاد ... أدرك أخيرا إن إجراءات إتمام خطبته بلغت مراحلها النهائية ... وكأن المحبوبة استشرفت بمشاعرها الراقية ما سيحدث ... فسارعت في أيامها الأخيرة وعلى غير العادة إلى التسريع بالإجراءات ... وما تضمنته من التزامات واتفاقات بين الطرفين وبقى الإعلان الرسمي لكل ذلك متوقفا على مجيء الصيف.... و أدرك أيضا إن ذلك الصبي الصغير الذي تركه يلعب في الحارة لا يلوي على شيء ربما وخزه في كتفه وخزه مؤلمة استعاد بها مصطفى الفتى المحبوب ابن المحبوبة الجميل الطيب خفيف الظل ... الطريق طويل يا مصطفى ... ومظلم ... غاب القمر ... وغابت كهارب الحكومة ، والجهة المقابلة للطريق ... حيث تلمع من بعيد أضواء باهته لعناقيد كهارب غير منتظمة... هناك بالضبط هبطت من الهيلكوبتر ... كان ذلك قبل ثلاثين عاما ... وكانت الحرب قد دارت ... اهتزت الدنيا أيامها ... كمنت وزملاؤك على مسافة ثلاثة كيلومترات من هذا الشارع المظلم ... وانتظرتم أقوال المدرعات التي أعدها العدو ليمد بها قواته في سيناء ... وتعاملتم معها بجسارة نادرة . والطريق مازال طويلا يا مصطفى ... وأنت تسير فيه وحدك ... والحرب زادت ضراوتها ... العدو حاصركم أكثر من مرة ... ضاق بكم ذرعا ... وانتم تسعون كل مرة لتعطيل إمداداته أو تدمير طرق إمداداته في الداخل ... كثير من رفاقك الأعزاء سقطوا في العمليات ... ومازلت رابط الجأش ... تتمتع بمهارة وخفة مناورة على درجة عالية من الحرفية ... يبدو إن الفنان داخلك كان له دخل كبير في نجاتك ... تمر أيام الحرب بطيئة ... ووطأة الحصار تزيد ... ويزيد معها الخطر ويقترب الموت... اقتربت من هذا الشارع منذ ثلاثين عاما مع نفر من زملائك ... كانت المهمة حصار قول من الدبابات متجه نحو المضايق ... المهمة كانت شبه انتحارية ... المكان مكشوف ... والدبابات استجارت بحوا مات في الجو ظهرت على غير توقع ... أفراد المهمة تمتموا بالشهادتين ... اندفعوا يحلمون ... أصيب عدد من الدبابات وتراجع الباقي ... لكن صوت أفراد المهمة خفت تماما... لحظة لم تستطيع أن تسردها أو تتذكرها ... قالها رفيقك الذي أصيب إصابة بالغة فيما بعد.... انفتح الجحيم من البر والجو لمدة نصف ساعة حتى سكت كل شيء ... جاءت حوامة مصرية تائهة ... هبطت على غير انتظار ... وحملت رفيقك وصعدتما بسرعة ولم يكن هناك احد آخر يمكن حمله ... وانتهت الحرب ... كنت احد أبطالها العظماء(على الأقل) في نظر قريبك الصغير المذعور من الزرافة العملاقة في الصورة الضوئية تطوى صفحات التاريخ ... وتظل ملحمة الحرب عالقة ... عصية على الطي ... في ذاكرة أولئك المحاربين الذين عايشوها وتفاعلوا فيها ... لا تنمحي أو تطوى ... وهكذا رأى مصطفى نفسه على بعد ثلاثين عاما أو أكثر من ملحمته الكبيرة بالقرب من الشارع المظلم الذي يسير فيه الآن وحيدا ... لم يعد فتى في عنفوانه ... ولم يعد محاربا ... لكنه مازال مصطفى الذي امتلئ جسده ، وترهل على الرغم من قصر قامته ... واتسعت مساحات الشعر المنسحبة من رأسه على الرغم من ثباته وعدم انسحابه من سيناء أيامها ... وكذلك تورم وجهه ... أو هكذا يبين بفعل الترهل أو الأمراض التي عرفت طريقها إلى جسده منذ خلع بزته العسكرية الدافئة ... مازال مصطفى بروحه الخفيفة وابتسامته الدائمة ... أصبح من رجال التربية والتعليم ... وتدرج في سلم الوظائف بفضل جديته اللافتة ومثابرته ليصبح موجها أول في مادته ... رحالة يجوب المشارق والمغارب للإشراف وتوجيه المدرسين والطلاب ... بزة المحارب لم تغب عن خياله ... كان يخوض كل لحظة حروبا أخرى مع أيامه الثقيلة ... كان يرى نفسه يرتديها دائما في صراعه من اجل أن يعيش شريفا كريما كما اعتاد في زمن الحرب ... تمضى حياته التي ثقلت بالأعباء والأولاد بطيئة بطئ قطار الصعيد ... ومرهقة وجافة ... لم يعتد وهو المحارب القديم على حرب مثل تلك الحرب التي يعايشها الآن ... ولا ميدان للقتال مثل الذي هو فيه الآن ... يركض ... ويركض ... وكأن لا نهاية للشارع المظلم. كان يواجه عالمه الثقيل بسخرية مفتوحة ... سخر من كل شيء ... وعلى أي شيء وكأنه يتقاضى ثمن الحرب التي كان احد فرسانها بالتأكيد على حقه في أن يسخر من العالم ... تخطى الخمسين دون أن ينتصفها ... ابتعد عن الناس والعالم ... واكتفى بأولاده الذين شبوا ... فرح كثيرا جدا يوم زواجهم ... الواحد تلو الآخر ، وكأنه اختزل كل فرحه في هذين اليومين ... وشأنه شأن كل المحاربين العظماء لا يبوح بألم أو انكسار حتى لو فعل كل الناس ذلك يغطي كل الآمة وانكساراته ببسمته الطيبة ، وسخريته اللاذعة خفيفة الظل ... كانت المهمة التي أتي من اجلها إلى مسرح عملياته أيام الحرب روتينية... جاء هنا كثيرا قبل اليوم ... لكنه اختار اليوم أن يمضى في هذا الطريق وحده بعد أن أنجز عمله ... شيء ما جذبه لان يختلي بنفسه ... ويلقى نظره على أيامه ... وزمن الحرب التي كانت هنا ... لم يكن يتحسب إن سحابة تمر وسوف تخفي ضوء القمر الليلة ... ولم يكن يتحسب إن كهارب الحكومة ستغفو الليلة مثل كل ليلة ... وان سائقا صغيرا متهورا يقود سيارة زل حكومية يرتطم بجسده الذي أنهكته الأيام ... ولا يبق منه شيء سوى تلك الابتسامة الرائعة التي وجدوه عليها.