رَحلتْ . . . وما بكت عليها السماء ! ! ج5 والأخير فتحت صاحبة القصر باب غرفتها ، وإنطلقت مسرعة خارجها ، تلاحقها إستغاثة قلمها : " رُحماك يا الله ، رُحماك يا الله ، إنها تسعى إلى الهلاك ، ولن تدرك نصيحتى إلا بعد فوات الأوان " . خرجت صاحبة القصر إلى الطريق ، وإتجهت ناحية القصر، أبصرت بوابة القصر مفتوحة من بعيد . . أسرعت الخُطى وهى لا تكاد تقوى على السير . . لقد أفزعها ما رأته من هول مشهد ساكن القصر الجنائزى الحزين ، وأنهكها حديث القلم الذى أصابها بالحزن والألم . سارت صاحبة القصر نحو القصر ، وهى تترنح . . إقتربت من بوابة القصر ، وفجأة هبت ريح عاتية ، لثوانى معدودة ، أقفلت الريح بوابة القصر قبل أن تصل إليها . . أحست صاحبة القصر أن هناك قوة خفية تمنعها من التوجه إليه ، وأن شيئاً ما يعوق حركتها ، وها هى بوابة القصر قد اُغلقت فى وجهها من تلقاء نفسها . . رددت فى أعماقها : يا إلهى ، ماذا يحدث لى ؟ أشعر أن العالم بأسره يقف فى وجهى . . حاولت أن تفتح بوابة القصر ما إستطاعت ، إلا بعد جهد كبير . . أزاحتها بقدر مرور جسدها النحيل . دخلت صاحبة القصر إلى بستان القصر وحديقته . . أبصرت عيناها الورود والزهور وقد ذبلت ، وتغير لونها ، وإنكفأت على الأرض ، وكأنها تنتحب وتبكى . . رفعت بصرها لأعلى فوجدت الفروع والأغصان ، وقد تساقطت أوراقها ، وصارت عارية وأصفر لونها . . أين خضرتها وندرتها ؟ ؟ لقد ذهبت ولم تعد بادية . تعجبت صاحبة القصر لما يحدث ، وقالت فى نفسها : ما بال هذه الورود والأزهار قد ذبلت هكذا ؟ وما بال الفروع والأغصان قد تساقطت أوراقها وإصفر لونها هكذا . وما بال الصيف إستحال خريفاً وشتاءً هكذا ؟ نظرت حولها ، أحست أن القصر تحيط به الكآبة ، ويُخيم عليه الحزن ، ما تقع الأعين عليه إلا ووجدته خَرِباً مهجوراً . . أدلفت صاحبة القصر إلى داخل باحته ، إشتمت رائحة الموت فى باحة القصر ، كل شئ فى القصر أصبح جامداً ، عادت النوافذ مغلقة والستائر مُسدلة ، والهواء داخل القصر ما عاد نسيماً . . كل شئ داخل القصر كان حزيناً ، حتى اللوحات الجميلة التى كانت تزين جدران القصر صارت باهتة . جلست صاحبة القصر على الأرض وسط باحته . . إنها جلست حيث مات ساكن القصر ، ولم تكن تدرى أنه مات ها هنا . . لم تكن تدرى أنه قضى ليلته الأخيرة راقداً فى تلك البقعة من باحة القصر ، حاملاً رسالتها فى يده وعلى صدره ، ولم تكن تدرى أنه ظل راقداً فى هذا المكان ، والطيور تنوح من حوله وتبكى على فراقه ، ولكنها جلست من شدة التعب ، تنعى حالها وحال قصرها . وفجأة . . سمعت صاحبة القصر أصوات الطيور قادمة نحو القصر ، دخلت الطيور إلى باحة القصر بأعدادها الغفيرة ، يتقدمها العصفور الحزين على فراق صاحبه ساكن القصر ، وجدوها جالسة حيث مات ، تنتحب وتبكى من لوعة الفراق . أغضب مشهدها كل الطيور ، وأخذت ترفرف بجناحيها وتموج من حولها وتموج ، وهى جالسة مزعورة وخائفة من غضبة الطيور . . إنها تعلم كم كانت الطيور تحب ساكن القصر ، وأنها تلقى عليها بلائمة موته . . ما عادت الطيور ترغب فى رؤيتها ، وما عادت تبتغى بقاءها فى القصر ، وما عاد القصر نفسه يسكن إليها ويهدأ . شعرت صاحبة القصر أن الدنيا بأسرها قد لفظتها ، وكرهتها ونفرت منها من أجل ذلك الساكن الوحيد . . نظرت صاحبة القصر إلى العصفور الحزين نظرة غفران ، ونظر إليها العصفور نظرة غاضبة وحانقة ، وقال فى صوت جهورى شديد ، قال العصفور وهو غاضب : مالذى أتى بكِ إلى هنا يا صاحبة الموت ؟ قالت : ما بالك أيها العصفور تكرهنى وتغضب منى هكذا ؟ قال العصفور ( مستنكراً ) : أما تدرين ما فعلتِ يا صاحبة الموت ؟ قالت : أنا لم أفعل شيئاً ، هو الذى فعل ! ! قال العصفور : ما فعله ، هو أنه أحبكِ وأراد قربكِ ! ! أما أنت فقد نفرتِ منه وكرهته . قالت : لا . . لقد تسلل إلى قلبى رغماً عنى ، وإقتحم قصرى بدون إذن منى ، وأراد أن يسيطر على كل كيانى . . مَرح فى بستانى ، وداعب ورودى وأزهاى ، وإستظل بفروعى وأغصانى ، ودخل باحة قصرى ، وفتح كل نوافذه ، وأزاح كل ستائره ، وتطلع بعينيه إلى لوحاتى ، ونام فى فُرشى ، وجلس على أريكتى ، لقد أراد أن يستولى على قصرى ! ! قال العصفور : وأنتِ ؟ أما أرسلتِ إليه رسالة حب ؟ دعوته أن يدخل قلبكِ ، وأن يسكن فى قصركِ ، ووعدته بقربك ؟ ومنيته بالحياة معكِ فى هذا القصر اللعين ؟ ؟ قالت ( وهى تتبرأ ) : أنا ما وعدته ، إن قلبى هو الذى مال إليه ، فؤادى تعلق به رغماً عنى ، أما أنا فلم أرض بأن يسكن أعماقى ، ويجرى حبه فى دمائى ، داخل شرايينى وأوردتى . قال العصفور ( مُتسائلاً ) : وما ذنبه ، وقد راح ضحية ما بين قلبكِ وعقلكِ ؟ قالت ( معترقة ) : لا ذنب له . . الذنب ذنبى ، والقول قولى ، والفعل فعلى ، ولا أريد إلا الغفران! قال العصفور : عن أى غفران تتحدثين يا قاسية القلب ، بعد أن مات ؟ قالت ( راجية ) : غفران ربه ، وغفران روحه ! ! قال العصفور : هذا شأن الرب . . ولكن ما الذى أتى بكِ الآن إلى هذا القصر ؟ وأجلسكِ هنا حيث مات ساكن القصر ؟ قالت : أريد قصرى ، سوف أسكنه ، سوف أفتح أبوابه ونوافذه ، سوف أروى وروده وأزهاره ، كل شئ فيه هو منى ولى ، إنه قصرى ! ! قال العصفور ( مُتحدياً ) : لا . . ليس قصركِ بعد اليوم ، لن يسكنه أحد بعده أبداً . . سوف تقطنه البوم والغربان ، نحن لا نريدكِ هنا ، ولا شئ سوانا يريدكِ ، حتى القصر نفسه لا يريدكِ ! قالت : ولكنى صاحبة القصر ، وهو ملكى ، وسوف أسكن فيه . قال العصفور : لا تقولى صاحبة القصر ، بل قولى صاحبة القبر ، الذى مات فيه عزيزنا وحبيبنا ، وهو يحبكِ ، ويُمنى نفسه بقربكِ ، لتحييا سوياً فيه وقت أن كان قصراً ، وما دمتِ لم تدعيه يسكنه ، فنحن لن ندعكِ تسكنيه ! قالت : هل ترغموننى على ترك قصرى ؟ قال العصفور : نعم . . لقد أرغمته على ترك الدنيا بأسرها ، ولستِ عندنا أغلى منه ، ولا أعز منه ، ولا أفضل منه . . إنه كان أعز وأغلى الناس ، أخرجى من ها المكان أيتها الملعونة ، فلن ندعكِ تسكنيه ! قالت : لنرى إذن لمن الغلبة ؟ لى أم لكم ؟ ولم تكد صاحبة القصرأن تكمل كلماتها ، حتى رأت الطيور جميعها تنهال عليها ضرباً بأجنحتها ، وإرتفع صوت نعيق البوم والغربان فى باحة القصر ، وأضحى المشهد مُفزعاً ، لقد إنتووا الهلاك لصاحبة القصر . . نظرت فى أعين الطيور ، فوجدت الغضب والنفور ، وخشيت على نفسها من الهلاك ، فنهضت مُسرعة تهرول خارج القصر نحو بوابته ، وما أن تجاوزت قدميها بوابة القصر ، حتى هبت الريح لتغلقها من جديد ، وصاحبة القصر خارجه . . لقد غلبتها الطيور ، ولفظها القصر ، وأطاحوا بها جميعاً خارج القصر ، ما عاد القصر قصرها ، وما عادت تستطيع العيش فيه بعد اليوم . . هذا ما أدركته صاحبة القصر فى حينه . خرجت صاحبة القصر ، وإتجهت صوب بيتها ، حيث تسكن وتقيم ، وهى حزينة ويائسة ومقهورة . . لقد قررت صاحبة القصر أن ترحل عن هذه البقعة من الأرض بأسرها ، إتجهت نحو غرفتها ، وبدأت تلملم حاجاتها . . جمعت ملابسها فى حقيبتها ، وقررت أن ترحل بلا رجعة ، إلى مكان آخر يرحب بها . إتجهت نحو باب غرفتها لتخرج منه ، ولكنها تذكرت فجأة قلمها وأوراقها ، غفلت عنهما ولم تضعهما فى حقيبتها . . إستدارت حيث القلم والأوراق ، وضعت الأوراق داخل الحقيبة ، وإمتدت يدها لتُمسك بالقلم ، فسمعته يقول : قال القلم : ماذا تريدين منى بعد كل ما فعلتى ؟ قالت : إنى راحلة . . وأريدك معى ! قال القلم ( مُتسائلاً ) : وما أدراكِ أنى أريد أنا أرحل معكِ ؟ قالت : أنت قلمى ، كاتم أسرارى ، ولا بد أن تصحبنى حيث رُحت ! قال القلم : ما عادت لى رغبة أن أصحبكِ ، وما عادت لى رغبة أن أخط لكِ حرفاً ولا كلمة . . لقد أتعبتنى السنين ، وأتعبتنى أنتِ معكِ . . أنا لم أعد كما كنت ، لقد كبرت وهرمت ونال الشيب منى . . نالت منى السنين ، وأضعفتنى كثرة الحروف والكلمات ، وأنتِ قضيتِ على ما تبقى منى . قالت : أنا صُنتك وحفظتك ، أنا لم أقضى عليك ، أنت قلمى ! قال القلم : لا . . لقد قضيتِ علىّ عندما قضيتِ على ساكن القصر . . لقد كان أملى الأخير فى هذه الحياة ، وها هو قد مات ، ومات معه أملى وكل رجائى ! قالت : ولكنى لا أقدر على فراقك ، أنت تدرك ما بأعماقى ، أنت كاتم أسرارى . قال القلم : ما عُدت أقدر على الكتابة ، وما عُدت أنفعكِ ، دعكِ منى ، وإبحثى عن غيرى . قالت : لا . . بل أنت قادر ، ولكنك لست راغباً أن تكتب لى مرة أخرى . قال القلم : صدقتِ . . لن أكتب بيدكِ لغيره أبداً ، إن كنتِ ترغبين غيره . . ولكنى أعرف أنكِ حتى لا ترغبين غيره ، فما إذن حاجتكِ لى ؟ دعكِ عنى ، وإذهبى إلى حيث شئتِ . قالت ( وهى تتوسل ) : أرجوك . . لا تفعل بى هكذا ، كفى ما بى . . أنت الوحيد الذى تبقى لى من كل هذه الدنيا ، تعالى معى حيث أذهب ، رافقتنى سنين طويلة ، فلا تتركنى الآن وحدى ! قال القلم ( وهو يبكى ) : دعكِ عنى ، إذهبى حيث شئتِ . . لقد أجبرتِه على فراقكِ ، وأنا اليوم أجبركِ على فراقى ! قالت : أنا لم أجبره على الفراق ، هو الذى مات . . لقد إنقضى عمره ، وإنتهى أجله . قال القلم : وأنا أيضاً . . إنقضى عمرى ، وقَرب أجلى ، وما عاد لكِ بى حاجة . . دعكِ عنى وإذهبى . . هذا فراق بينى وبينكِ إلى الأبد ! ! ! ! قالت ( بإصراروعناد ) : لا . . لن أدعك تتركنى وحدى ، سوف آخذك بالقوة ، رغماً عنك ، ألم تقل لى من قبل أنك مجبور على طاعتى ؟ ؟ إمتدت يدها لتُمسك بالقلم ، إهتز القلم بشدة وإرتعشت يدها ، و سقط القلم على أرض الغرفة . . إنكسر القلم وسالت منه أحباره ، إنكفأت عليه وهى تصرخ وتبكى : قلمى ، قلمى ، رفيق عمرى . . ولكن ماعاد الصراخ ولا البكاء يُجدى ، لقد إنكسر القلم ، لقد مات القلم وسالت دماؤه ، على أرض الغرفة . . أراح وإستراح ! ! لم تقدر صاحبة القصر على البقاء ، بعد أن إنكسر قلمها ، وتحطم قلبها ، وأحست بقرب ضياع عمرها . . حملت حقيبتها وخرجت إلى الطريق ، وهى لا تدرى أين تذهب . . كانت خطواتها بطيئة وثقيلة ، ترهقها الأحزان ، وتثقل كاهلها الهموم ، ويملأ قلبها الحزن على ساكن القصر الذى أحبها ، وعلى رفيق العمر الذى راح عنها وتركها وحيدة . إمتدت يدها إلى حقيبتها ، أخرجت الصورة الملعونة ، التى قضت على كل أحبائها ، وكانت سبباً فى همومها وأحزانها . . نظرت إليها وأطالت النظر، وكأنها تودعها أو تودع صاحبها ، ثم أمسكتها فى يدها ، ومضت لتكمل طريقها . وبينما هى سائرة – تبكى حالها – إذ سمعت صوتاً من السماء يناديها " يا صاحبة القصر . . لقد أمرنى الرب . . ألا أدعكِ تعيشين لحظة بعد الآن " ، ، ، رفعت عينيها إلى السماء لتتأكد مما تسمع ، فسمعت الصوت يناديها من جديد " يا صاحبة القصر . . لقد أمرنى الرب . . ألا أدعكِ تعيشين لحظة بعد الآن " . حينئذ . . أدركت صاحبة القصر أنها النهاية ! وما هى إلا خطوات قليلة ، حتى أحست بألم شديد فى صدرها ، ما عادت تقدر على التنفس ، والألم يزداد والوجع يستمر . جلست على الأرض وسط الطريق ، تضع يدها على صدرها ، وهى ممسكة بالصورة الملعونة ، وتطلق الآه تلو الآه تلو الآه . . ولكنها كانت لحظات النهاية ، لم تتمالك نفسها وإرتمت على ظهرها . . وفجأة خرجت الروح من جسدها إلى بارئها ، وفارقت الحياة . . أخيراً . . ماتت صاحبة القصر . . ولحقت بكل أحبائها ، ماتت وحيدة ، ماتت بعيدة ، ماتت شريدة . . ماتت ورحلت عن الدنيا بأسرها . رحلت ، ولم تودعها الورود ولا الزهور ، ولا الأغصان ولا الفروع . . رحلت ، ولم تنوح من أجلها الطيور . . رحلت ، ولم يحزن لرحيلها قصرها . . رحلت ، وما بكى عليها أحد . رحلت صاحبة القصر ، وما أبرق الرعد لرحيلها ، وما بكت عليها السماء ! ! ! وإلى قصة أخرى إن شاء الله . ( هذه القصة حازت على جائزة الإبداع . . فى المسابقة الثقافية . . فى منتدى الأدباء العرب عام 2011م ) .