السفير ماجد عبدالفتاح يكشف تفاصيل موافقة 143 دولة على منح فلسطين عضوية الأمم المتحدة    اتهام جديد ل عصام صاصا بعد ثبوت تعاطيه مواد مُخدرة    النائب شمس الدين: تجربة واعظات مصر تاريخية وتدرس عالميًّا وإقليميًّا    تراجع عيار 21 الآن.. سعر الذهب في مصر اليوم السبت 11 مايو 2024 (تحديث)    القانون يحمى الحجاج.. بوابة مصرية لشئون الحج تختص بتنظيم شئونه.. كود تعريفى لكل حاج لحمايته.. وبعثه رسمية لتقييم أداء الجهات المنظمة ورفع توصياتها للرئيس.. وغرفه عمليات بالداخل والخارج للأحداث الطارئة    زيادات متدرجة في الإيجار.. تحرك جديد بشأن أزمة الإيجارات القديمة    الزراعة: زيادة الطاقة الاستيعابية للصوامع لأكثر من 5 ملايين طن قمح    وزير الرى: الانتهاء من مشروع قناطر ديروط 2026    الحكومة اليابانية تقدم منح دراسية للطلاب الذين يرغبون في استكمال دراستهم    بلينكن يقدم تقريرا مثيرا للجدل.. هل ارتكبت إسرائيل جرائم حرب في غزة؟    يحيى السنوار حاضرا في جلسة تصويت الأمم المتحدة على عضوية فلسطين    الإمارات تستنكر تصريحات نتنياهو بالدعوة لإنشاء إدارة مدنية لقطاع غزة    مجلس الأمن يطالب بتحقيق فوري ومستقل في اكتشاف مقابر جماعية بمستشفيات غزة    نائب بالشيوخ: موقف مصر ثابت تجاه القضية الفلسطينية    سيف الجزيري: لاعبو الزمالك في كامل تركيزهم قبل مواجهة نهضة بركان    محمد بركات يشيد بمستوى أكرم توفيق مع الأهلي    نتائج اليوم الثاني من بطولة «CIB» العالمية للإسكواش المقامة بنادي بالم هيلز    الاتحاد يواصل السقوط بهزيمة مذلة أمام الاتفاق في الدوري السعودي    «أنصفه على حساب الأجهزة».. الأنبا بولا يكشف علاقة الرئيس الراحل مبارك ب البابا شنودة    المواطنون في مصر يبحثون عن عطلة عيد الأضحى 2024.. هي فعلًا 9 أيام؟    بيان مهم من الأرصاد الجوية بشأن حالة الطقس اليوم: «أجلوا مشاويركم الغير ضرورية»    أسماء ضحايا حادث تصادم سيارة وتروسيكل بالمنيا    إصابة 6 أشخاص إثر تصادم سيارة وتروسيكل بالمنيا    مصرع شاب غرقًا في بحيرة وادي الريان بالفيوم    عمرو أديب: النور هيفضل يتقطع الفترة الجاية    حظك اليوم برج العقرب السبت 11-5-2024 على الصعيدين المهني والعاطفي    رسائل تهنئة عيد الأضحى مكتوبة 2024 للحبيب والصديق والمدير    حظك اليوم برج العذراء السبت 11-5-2024: «لا تهمل شريك حياتك»    بتوقيع عزيز الشافعي.. الجمهور يشيد بأغنية هوب هوب ل ساندي    النجم شاروخان يجهز لتصوير فيلمه الجديد في مصر    رد فعل غريب من ياسمين عبدالعزيز بعد نفي العوضي حقيقة عودتهما (فيديو)    هل يجوز للمرأة وضع المكياج عند خروجها من المنزل؟ أمين الفتوى بجيب    الإفتاء تكشف فضل عظيم لقراءة سورة الملك قبل النوم: أوصى بها النبي    5 علامات تدل على إصابتك بتكيسات المبيض    لأول مرة.. المغرب يعوض سيدة ماليا بعد تضررها من لقاح فيروس كورونا    هشام إبراهيم لبرنامج الشاهد: تعداد سكان مصر زاد 8 ملايين نسمة أخر 5 سنوات فقط    الطيران المروحي الإسرائيلي يطلق النار بكثافة على المناطق الجنوبية الشرقية لغزة    الخارجية الأمريكية: إسرائيل لم تتعاون بشكل كامل مع جهود واشنطن لزيادة المساعدات في غزة    تفاصيل جلسة كولر والشناوي الساخنة ورفض حارس الأهلي طلب السويسري    مران الزمالك - تقسيمة بمشاركة جوميز ومساعده استعدادا لنهضة بركان    الجرعة الأخيرة.. دفن جثة شاب عُثر عليه داخل شقته بمنشأة القناطر    «آية» تتلقى 3 طعنات من طليقها في الشارع ب العمرانية (تفاصيل)    نيس يفوز على لوهافر في الدوري الفرنسي    انخفاض أسعار الدواجن لأقل من 75 جنيها في هذا الموعد.. الشعبة تكشف التفاصيل (فيديو)    تراجع أسعار الحديد والأسمنت بسوق مواد البناء اليوم السبت 11 مايو 2024    رؤساء الكنائس الأرثوذكسية الشرقية: العدالة الكاملة القادرة على ضمان استعادة السلام الشامل    هل يشترط وقوع لفظ الطلاق في الزواج العرفي؟.. محام يوضح    طولان: محمد عبدالمنعم أفضل من وائل جمعة (فيديو)    حلمي طولان: «حسام حسن لا يصلح لقيادة منتخب مصر.. في مدربين معندهمش مؤهلات» (فيديو)    وظائف جامعة أسوان 2024.. تعرف على آخر موعد للتقديم    جلطة المخ.. صعوبات النطق أهم الأعراض وهذه طرق العلاج    إدراج 4 مستشفيات بالقليوبية ضمن القائمة النموذجية على مستوى الجمهورية    زيارة ميدانية لطلبة «كلية الآداب» بجامعة القاهرة لمحطة الضبعة النووية    لماذا سمي التنمر بهذا الاسم؟.. داعية اسلامي يجيب «فيديو»    5 نصائح مهمة للمقبلين على أداء الحج.. يتحدث عنها المفتي    بالصور.. الشرقية تحتفي بذكرى الدكتور عبد الحليم محمود    نائب رئيس جامعة الزقازيق يشهد فعاليات المؤتمر الطلابي السنوي الثالثة    محافظة الأقصر يناقش مع وفد من الرعاية الصحية سير أعمال منظومة التأمين الصحي الشامل    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رواية ليلة التحرير
نشر في شموس يوم 10 - 02 - 2012

صدرت رواية ليلة التحرير عن دار الحضارة ويقول المؤلف فى الفصل الأول : بعد العاشرة مساءً بدقائق ، تصف سيارة مرسيدس حديثة الطراز بجانب الرصيف المقابل لجامع عمر مكرم ، على غير العادة كانت هناك أماكن خالية ، تقريباً كان الرصيف خالياً ، بعد هذا اليوم الحافل لم يكن الأمر مدهشاً أو مثيراً للاستغراب ، منذ زمن طويل لم يمر على الناس يوم كهذا.
زحام كثيف لكنه ليس زحام الأيام الأخرى .. العادية ، تجمعات من كتل بشرية تتوزع فى أرجاء الميدان الفسيح ، فى حقيقة الأمر هو ليس ميداناً واحداً بل ميدانان يصل بينهما شارع واسع يتوسطه المتحف المصرى ، تم منذ بضع سنوات اختراع الميدان الجديد وأطلقوا عليه اسم ميدان الشهيد ، نصبوا قاعدة وضعوا عليها تمثالاً للقائد العسكرى الشهيد فى مفترق الطرق الذى يسبق الميدان الأصلى فى محاولة ساذجة لتنظيم المرور المختنق فى مدينة يتزايد عدد سكانها بجنون وبمعدلات غير مسبوقة أنتجت فى نهاية الأمر أعداداً هائلة من الشبان ، أصبحوا يمثلون الكتلة الأكبر من التجمعات التى تغطى وجه الميدان الآن
. أربع فتيات مازلن فى المرحلة الجامعية يوحى مظهرهن بالثراء نزلن من السيارة المرسيدس وهن يحملن أكياس بلاستيك كبيرة الحجم عليها أسماء محلات ومطاعم شهيرة ، توجهن بخطوات خجلة نحو الجموع التى تجلس فى الحديقة التى تتوسط الميدان ، كانت وسائل الإعلام قد أذاعت أن حركة اعتصام بدأت فى الميدان وأنها ستستمر حتى الصباح ، سارت الفتيات وسط حالة من الفرح والشعور بالانتصار تسود جميع الجالسين فى تجمعات صغيرة وكبيرة تضم شباناً وشابات ورجال ونساء أكبر سناً وقد حرص الجميع على رفع الأعلام واللافتات التى كتب عليها عبارات نارية تنادى بسقوط السيد الرئيس الديكتاتور وابنه المريض المتطلع للحكم ، بينما تدوى من الجانب الآخر للميدان هتافات منغمة على دقات الطبول والصفارات من مشجعى أندية الكرة الذين انضموا للمرة الأولى فى حياتهم إلى المظاهرات السياسية ، كانوا أشد الجميع حماسة كأنهم يريدون تعويض السنوات التى قضوها فى ممارسة التفاهة من مدرجات الأندية والملاعب بعيداً عن الهموم الحقيقية لوطنهم ، بحكم تمرسهم على الهتافات المنظمة وقدرتهم على الاستمرار لساعات فإنهم ظلوا يواصلون بعد أن بحت أصوات الجميع من حولهم ، ولم تلبث مقدرتهم على ابتكار الهتافات الساخنة أن تفجرت بشعارات جديدة من ينبوع وطنيتهم التى تشاغلوا عنها من قبل بأنديتهم ، كان النظام السياسى للسيد الديكتاتور الرئيس ينفق بسخاء على كافة وسائل الإلهاء ومن ضمنها الأندية ومشجعيها ويخلق بينهم صراعات مفتعلة ليمتص طاقة الجماهير ويصرفها بعيداً عن شئون الحكم وسوء إدارته للبلاد وعن تردى الأحوال المعيشية لغالبية مواطنيه ، لكن المشجعين فى نهاية الأمر كانوا جزءاً من الشعب يعانون كغيرهم وتنتمى غالبيتهم للطبقات الفقيرة التى تتحمل النصيب الأكبر من المعاناة والظروف الحياتية البالغة السوء ، مما جعلهم يعلنون موافقتهم على الاشتراك فى المظاهرات دون تحفظات بمجرد أن اتصلت بهم مجموعات الشبان السياسية ضمن تخطيطهم لحشد أكبر عدد ممكن فى المظاهرة التى أرادوا لها أن تكون الأكبر ضد النظام الديكتاتورى الحاكم
. الميدالية الذهبية تتدلى من يد الفتاة صاحبة المرسيدس وهى تتقدم رفيقاتها بين حشود الناس فى الميدان ، يبحثن بأعينهن عمن يبدأن بالحديث معه ، توقفن تقريباً وهن يتلفتن وقد اعتراهن الخجل ، على مقربة منهن كانت مجموعة من الشبان والشابات الأكبر سناً يجلسون على حجارة رصيف الممشى الذى يتخلل حديقة الميدان ، يتشاركون فى تناول الساندويتشات الخفيفة والبسكويت وعلب العصير التى قاموا بشرائها من المحلات والأكشاك المنتشرة حول الميدان بالإضافة إلى ما كان يوزعه مواطنون نزلوا الميدان للدعم والمشاركة ، أشار أحد الشبان للآخرين كى ينصتوا وأدار تسجيل هاتفه المحمول على قصيدة الأبنودى التى سجلها صوتاً لا كتابة بعد أن فاض به وبالشعب المصرى الكيل
. قلت لنفسى وبعدين
راح تفضل كده لأمتى يا غلبان
بتدارى إيه ، إيه باقى تانى علشان تبكى عليه
وطنك متباع ، سرك متذاع
الدنيا حويطه وانت بتاع
ويهين المعنى الظابط
ويدوس بالجزمة عالحلم
ربنا رازقه بجهل غانيه عن كل العلم
ماذا تعنى بالكون .. يا يساعك يا يساعنى
رد يا جربان يا بن الكل
ب أظنك حاتقولى تانى الشعب
وصفعنى وتنى على بطنى بالكعب.
تمايلوا إعجاباً وضحكوا وهم يستمعون إلى القصيدة الجريئة التى يعاتب فيها المواطن على صمته وتخاذله ويسب الرئيس الظابط ودولته البوليسية فى نَفَسٍ واحد ، وبرغم الإرهاق الذى يشعرون به بعد قضاء يوم حافل كهذا كانوا فى قمة السعادة لما تحقق من نجاح للمظاهرات التى اشتركوا فى تنظيمها والدعوة لها على شبكة الإنترنت وصفحات الفيس بوك ، نجاح فاق توقعاتهم ، ظلوا لسنوات ومنذ أن كانوا فى الجامعة وهم يخرجون فى مظاهرات تقاوم الفساد والاستبداد وتدعو لسقوط الديكتاتور الذى أظلم حياتهم وأفقدهم الثقة فى المستقبل ، تعودوا لامبالاة الناس بهم وهم يتظاهرون ، ينظرون لهم بتعاطف ويتضامنون معهم من بعيد ، لكن لا ينضمون إليهم إلا فى أضيق الحدود ، خوفاً من قوات الأمن والشرطة التى تطوق المظاهرة بصفوف من الجنود ثم تنقض عليها بعد ذلك لتضرب وتعتقل وتنكل بالشبان والشابات تماماً كما تفعل قوات الاحتلال بشعوب الدول التى تستعمرها بل ربما تمادت فى عنفها وفاقتها بطشاً ، اليوم فقط اختلف الأمر وأخذت جموع المواطنين تنضم للمظاهرات وتدعمها ، بدا أن الناس فاض بهم الكيل ولم يعد بمقدورهم الصمت فقرروا أخيراً المشاركة وإعلان تأيدهم لشبان المظاهرات الذين لم ينل القمع و التنكيل من عزيمتهم وإصرارهم على مواجهة الطغيان ، وهو ما حول المئات المعتادة إلى آلاف ظلت تتزايد طوال ساعات النهار حتى وصلت فى نهاية الأمر إلى ميدان التحرير واحتلته تحت حراسة قوات الشرطة التى ظلت على الحياد طوال النهار ولم تتدخل فى المسيرات الاحتجاجية الضخمة على غير عادتها ، وأعلن قادتها بثقة وهم يبتسمون فى وسائل الإعلام والمحطات الفضائية المحلية والأجنبية إن ما يحدث شىء طبيعى وسمة من سمات التحضر فالتظاهر حق للمواطنين وأن جو الديمقراطية الذى يسود البلاد بفضل حكمة السيد الرئيس لا يرى أى غضاضة فى التعبير عن الرأى كما يحدث فى الدول المتقدمة
لكن هذا لم يمنع القيام ببعض الإجراءات ، فمع بدء دخول الليل أطلقوا قنبلتين غاز مسيل للدموع ربما كاختبار لرد الفعل بينما جموع كبيرة من المتظاهرين تصلى صلاة المغرب فى وسط الميدان ، لكن رد الفعل جاء عنيفاً زلزل أرجاء الميدان بالهتافات الغاضبة خاصة من مشجعى الكرة مما جعلهم يتراجعون ويعودون إلى مراقبة ما يحدث من بعيد ، أما ما أثار حيرة الشباب فهو انقطاع شبكة التليفون المحمول وتوقف الأجهزة عن العمل ، لكنهم سرعان ما اكتشفوا وجود عربة غريبة المظهر تقف فى نهاية شارع القصر العينى وعليها عدد كبير من الأطباق واللواقط الهوائية ولم يكن هناك صعوبة فى إدراك أنها تقوم بالتشويش على شبكات الهواتف المحمولة فى منطقة الميدان ، سرعة بديهة الشبان ومعرفتهم بعلوم التكنولوجيا جعلتهم يكتشفون أن شبكات الهاتف مازالت تعمل فى مترو الأنفاق ، فتبرع عدد منهم بالتجول والنداء بين الناس بأن المحمول يعمل تحت الأرض فى أنفاق المترو ، فنزل كل من يريد الاتصال حتى تجمعت أعداد كبيرة فى ممرات وأرصفة المترو كلهم يتحدثون فى هواتفهم ، وذهبت محاولة الشرطة لعزل المتظاهرين هاتفياً هباء
اتجهت أعين مجموعة الشباب الجالسين ناحية الفتيات الأربع وقد وقفن والحيرة تبدو عليهن ، قامت إحدى الشابات من الناشطات فى مركز لحقوق الإنسان ، تعمل مدرس مساعد بأحد معاهد البحث العلمى الحكومية واتجهت إليهن لتساعدهن
. قالت الفتاة صاحبة السيارة ، لقد تابعنا المظاهرات على شاشة التليفزيون منذ بدايتها ولم نستطع البقاء صامتات فى البيوت ، قررنا أن ننضم للمتظاهرين ونشارك بما نقدر عليه ، لابد أن الناس بعد هذا اليوم الطويل بحاجة إلى طعام وشراب ، أحضرنا أطعمة ومعلبات وعصائر لكننا لا نعرف كيف نبدأ وعلى من نوزع هذه الأشياء ؟ نخشى أن يكسفنا الناس ويرفضوا مشاركتنا ، إنها المرة الأولى التى ننزل فيها إلى مظاهرة ، ضحكت الشابة وقالت إننا جميعاً إخوة نتقاسم الموجود من الطعام والمياه بلا حرج وسوف نساعدكن ، ثم تقدمت الفتيات وسارت نحو أصدقائها الذين رحبوا بهن وساعدوهن فى توزيع ما معهن على الجالسين فى الميدان ، كانت الأكياس تحتوى ساندويتشات شاورمة ودجاج وكباب وعلب بسكويت من أغلى الأصناف ، وبعد جولة واسعة فرغت خلالها الأكياس ، قالت الفتيات بسعادة ، إن السيارة مازال بها المزيد من أكياس الطعام بالإضافة إلى عدة كراتين مياه معدنية لم يتمكن من حملها ، تطوع عدد من الشبان فذهبوا معهن ليجدوا أن الصندوق الخلفى للسيارة الفاخرة محمل عن آخره بكراتين المياه والعصائر وأكياس الطعام ، قدر الشبان أن وطنية الفتيات دفعتهن للإنفاق بكرم فاشترين بما يزيد على الألفين من الجنيهات
اعتذرت الفتيات برقة بعد أن تجاوزت الساعة الحادية عشرة بأنهن لا يستطعن البقاء لأكثر من هذا وإن كن يتمنين من أعماق قلوبهن الاستمرار حتى الصباح ، وقالت صاحبة السيارة إنها لا تعانى من أى مشاكل فى حياتها لكنها تود أن ترى بلدها تتمتع بالحرية والعدالة والحياة الكريمة مثل شعوب الدول الراقية فمصر لا تستحق هذه الحياة التعسة التى نعانى منها بسبب هذا النظام الفاسد الذى يحكم البلد
كان أهل القاهرة بوعيهم الجمعى قد بدءوا فى التوافد على الميدان منذ إعلان الاعتصام محملين بالطعام والبطاطين معبرين عن دعمهم للمعتصمين فى مواجهة طغيان الحاكم الذى ظلم أهل مصر وتجبر عليهم وسرق أحلامهم وأموالهم وعرفوا فى أيامه معنى ضنك العيش حق المعرفة ، نزلوا من بيوتهم فى برد آخر يناير ليملئوا الميدان وثمة شعور يجمعهم بأن لحظة الحسم قد جاءت أخيراً وأنهم لن يدعوها تفلت من أيديهم ، وأن الظلم والفساد الذى عانوا منه طويلاً قد آن له أن ينتهى ، كانت ثورة تونس الناجحة قد أسهمت فى تأجيج المشاعر وأحيت الأمل فى نفوسهم ، وأنهم يستطيعون ما استطاعه أهل تونس
الساعة تقترب من منتصف الليل والبرد يشتد لكن الميدان مكتظ ، الاتحاد يملأ القلوب بالقوة ويعطى ثقة ما تزال تتزايد منذ الظهيرة لحظة انطلاق الشرارة الأولى المطالبة بالحرية والعدالة ، المطلب الأول للمتظاهرين ، الجميع يتحدثون ويتناقشون وهم متدثرون بالبطاطين ، حلقات متقاربة يحدث بينها تعارف سريع ، يتبادلون الكلام ويتشاركون الطعام كأنهم أصدقاء قدامى يأتنسون بالصحبة التى جمعتهم على غير ميعاد ومشاعر الود والأخوة تتفتح بينهم كالزهور ، ومجموعات سبق لها التعارف عبر السنوات السابقة ، كثيراً ما التقت الوجوه فى الندوات والمنتديات والمظاهرات وفى عربات الشرطة أثناء الاعتقالات ، نالوا نصيبهم من الشتم والضرب خلال صراعهم مع الدولة البوليسية دون أن يتراجعوا عن تحقيق أحلامهم فى وطن نظيف خال من الفساد واللصوصية والفوضى ، جميعهم نشأ فى حكم السيد الديكتاتور ، لم يعرفوا حاكماً غيره ، يدينون له بكل قبيح وردىء فى حياتهم ، لم يروا منذ طفولتهم يوماً يحمدونه له ، يسمعون من ذويهم ومن الأجيال الأكبر إن مصر كانت بلداً جميلاً نظيفاً يتعامل فيه الناس برقى واحترام ، حكايات قد تضحكهم الآن وتثير تعجبهم وحسرتهم أيضاً ، لقد قضوا حياتهم فى بلد يعتبر من أقذر بلاد العالم وأكثرها فقراً وفساداً ، اختفت منه مظاهر الجمال و الذوق التى كانت طابعاً أصيلاً فيه على يد السيد الرئيس الذى قاد البلد بغباء وبلادة حس إلى الفقر والفساد على مدى عقود وسنوات طالت إلى حد الملل وقضت على الأخضر واليابس وجمدت الحياة وحولتها إلى مستنقع راكد
. قال أحد الشبان ، إنه اقترب من ضباط شرطة برتبة مقدم من الذين كانوا يطوقون المظاهرة وسأله بجراءة
. - ألستم مصريين مثلنا ، تشعرون بنفس القهر والمعاناة ؟
فرد عليه الضابط واجماً وبصوت خفيض
. - إذا فعلتم شيئاً فنحن معكم ، سوف ننضم لكم
تساءلت إحدى الشابات ، هل من الممكن أن يحدث هذا ؟ هل نستطيع أن نجعلهم فى صفنا بعد هذا التاريخ الأسود بيننا وبينهم؟ هل يقدرون على التمرد ضد النظام الذى يطعمهم ويسقيهم ويعطيهم كل هذه السلطة ؟ إنهم يحاصرون الميدان بقواتهم وعرباتهم المدرعة من جميع الجهات كأنهم فى حالة حرب مع الشعب
. - ثقى أنهم يعانون أيضاً ، المشكلة ليست فيهم بل فيمن يعطيهم الأوامر ويستخدمهم فى قمع الشعب ويلجأ إلى الحل الأمنى السهل فى التعامل مع أى مشكلة ، حتى المشاكل التى لا علاقة لها أصلاً بالأمن ، تذكرون مشكلة أنفلوانزا الطيور التى حدثت منذ عدة سنوات ، وهى مشكلة بيئية صحية هناك ثلاث وزارات على الأقل فى الحكومة تستطيع التعامل معها ، لكنه تركهم ولجأ لوزارة الداخلية لتحل له المشكلة وتقضى على أسبابها بحصار عنابر الدواجن وإعدامها ومنع الفلاحين الغلابة من تربية الطيور حتى كاد يفقد مصر ثروتها الداجنة وسلالات الطيور المحلية التى تستوطنها منذ آلاف السنين ، وجعل منا أضحوكة العالم ، والأدهى أن مصر لم تكن من الدول الموبوءة بالمرض ، لكنه ضيق العقل وضحالة التفكير
. - كم أكره هذا الرجل ، لم أعد أطيقه ولا أطيق وجوده فى الحكم
. - إنه من أسوأ الحكام فى تاريخ مصر إن لم يكن أسوأهم على الإطلاق ، كم أننا تعساء لأننا عشنا فى زمنه ، لقد جعلنا نكره بلدنا ونكره أنفسنا
. - لم يبق أمامه الكثير من الوقت ، سوف يرحل قريباً ، لا أعتقد أننا سنفشل فيما نجح فيه أهل تونس ، انظروا إلى هؤلاء الناس الذين خرجوا لأول مرة
. - هذا غير أهالى المحافظات الذين خرجوا معنا فى نفس التوقيت
. - نعم إنها المرة الأولى فى التاريخ التى يخرج فيها شعب للثورة بميعاد مسبق.
استمرت الحوارات تدور بين الشبان حتى انتصف الليل وتهيأ الجميع للسهر حتى الصباح فى الميدان ، واعتقد معظمهم أن أعداد المتظاهرين الغفيرة ستجعل قوات الأمن تتراجع عن مهاجمتهم وتكتفى بحصارهم من بعيد ، لكن صوت سرينة انطلق بغتة ممزقاً سكون الليل ، صوت غبى لم يسمعه أحدهم من قبل على طول خبرتهم بالتعامل مع الأمن ، يبدو أنه مستورد حديثاً ضمن أجهزة مكافحة الشغب التى ينفق السيد الرئيس الديكتاتور أموالاً طائلة فى شرائها لمكافحة الشعب وترويعه ، هب الجميع وقوفاً لدى سماعهم صوت السرينة الحاد الذى بلغ من القوة أنه تردد فى أرجاء الميدان الفسيح وهزها مكتسحاً طاغياً على ما عداه ، ساد الصمت وسرت حالة من التوجس ، لقد بدءوا .. بعد لحظات من انتهاء اليوم ، إنه إنذار بمغادرة الميدان ، ملعون أبوهم لن نغادر .. لن نخاف ، تعالت الهتافات من جديد تنادى بسقوط الديكتاتور ، الجميع على قلب رجل واحد ، اهتزت أرجاء الميدان هذه المرة بالصوت الجماعى الغاضب لآلاف يوجهون بدورهم إنذاراً بإعلان الثورة.
انطلق صوت السرينة ملحاً ولمدة أطول هذه المرة ولم يعد ثمة شك إنه الإنذار الأخير ، مرت خمس دقائق من الترقب ساد خلالها صمت مطبق ، لم يتحرك أحد من مكانه والعيون ترصد تجمعات الأمن المركزى المحاصرة للميدان ومنطقة وسط القاهرة ، آلاف الجنود بملابسهم السوداء وخوذهم وهراواتهم يقفون فى صفوف منتظمة ومن خلفهم ضباطهم بعرباتهم ومدرعاتهم المصفحة ، يقال إن عددهم تجاوز المليون جندى ، فاق تعداد جنود القوات المسلحة بعدة أضعاف ، مهمتهم المعلنة مكافحة الشغب وهو ما يعنى فى الواقع قمع أفراد الشعب فى الجامعات والمصانع والميادين والشوارع وفى أى مكان يصلح للتظاهر ، أما اللصوص والمجرمين وأصحاب السوابق والخارجين على القانون فلا شأن لهم بهم ولا بأس أن يمرحوا فى ربوع الوطن كما يحلو لهم ، مليون جندى من أفقر طبقات الشعب أعدهم الرئيس لحمى بهم عرش رئاسته وليحارب بهم مواطنيه.
خرجت قذيفة واحدة كأول هدايا السيد الرئيس لتنفجر وسط الناس وتطلق دخانها الكثيف فى الميدان ، حدثت حالة من الهرج لكن المتظاهرين لم يتفرقوا ، انطلقت قذيفة أخرى بعدها بدقيقة وبدأ الدخان الخانق يسرى ملوثاً الهواء الآتى من صفحة النيل ، تحولت الهتافات إلى شتائم وحاول الناس التمسك بأماكنهم لكن قنابل الدخان المسيل للدموع المستوردة من دول العالم المتقدم والمنتهية الصلاحية بدأت تنهال عليهم من كل صوب معلنة مدى تفهم الرئيس لمطالب شعبه واستعداده للتجاوب معها ، لم يلبث الميدان أن تحول إلى غرفة خانقة يصعب التنفس فيها بفعل القنابل القديمة الأشد فتكاً التى يتجاوز تأثيرها تفريق المتظاهرين بتسييل الدموع واحتراق العينين إلى التسبب فى الاختناق والإغماء المؤدى للوفاة ، بما يعنى أن السيد الرئيس وجهازه الأمنى لا يراعى ضميره ويغش الناس حتى وهو يضربهم. اندفع الجنود بعد تمهيد المدفعية مقتحمين أرض الميدان لاحتلالها وتحريرها من أصحابها ، بدأ الضرب بالهراوات المصنوعة من المطاط القاسى المستوردة من شتى بلاد العالم ، فالسيد الرئيس وهو يقيم النهضة الصناعية الكبرى فى البلاد عجز عن صناعة معدات القمع فلم يتوانى بهمته ونشاطه المعهود فى شرائها بكميات هائلة ليوفر حاجة الشعب منها.
اقتحم الجنود المدربون على القتال ومن خلفهم ضباطهم الميدان كالأسود وبدأوا فى تنفيذ مهمتهم الباسلة ، من المعروف أن جندى الأمن المركزى فرز ثالث بما يعنى أنه أدنى المجندين مرتبة من حيث التعليم ، جميعهم أميون بسطاء لا يجرؤون على مخالفة أوامر سادتهم الضباط خوفاً من العقاب السادى والإهانة التى تنزل بهم فى معسكراتهم حيث يعاملون كالعبيد خلال فترة تجنيدهم الإجبارى الممتدة لثلاث سنوات طويلة ، العقاب الأكبر الذى يخشاه أى فرد منهم أن يفقد دفعة وهو ما يعنى امتداد فترة تجنيده لستة أشهر إضافية فى جحيم المعسكرات ، هذا العقاب تحديداً يوقع على الجنود الذين يحجمون عن ضرب الناس أو حتى يتراخون فيه ، مما يجعلهم رغماً عنهم يتحولون إلى وحوش عمياء وعصى غليظة تفتك بأهاليهم ومواطنيهم.
فى هذه الليلة لم يحمل المتظاهرون من أبناء الشعب أى نوع من الأسلحة فى رسالة بالغة الدلالة على رغبتهم فى التعبير عن مطالبهم بسلام ودون عنف ، لكن الرئيس ومنذ اللحظة الأولى تعامل معهم كأعداء يتجرؤون على ذاته المقدسة. لم يكن هناك مخرج فى المواجهة الأولى سوى الارتداد تحت عنف الهجوم ، تجمع الشبان فى دوائر تحيط بالشابات ليتلقوا ضربات العصى بدلاً عنهن ، وحاولوا الانسحاب إلى الشوارع الجانبية الآمنة نسبياً بعيداً عن كثافة الدخان وغلظة الهراوات ، بينما يتتابع قصفهم بقنابل الغاز ويتعالى صوت طلقات الرصاص الحى بكثافة فى الهواء بقصد الإرهاب وبث الرعب فى نفوسهم ، لكن جحافل الأمن سدت مخارج الميدان وبدت محاولات النفاذ إلى الشوارع الفرعية مهددة بخطر الاعتقال ، مما دفع الناس للنزول إلى محطة مترو الأنفاق بحثاً عن الهواء ولالتقاط الأنفاس ، تدفقوا بالآلاف وفى خلال دقائق تكدست ممرات المحطة المتشعبة وأرصفة الانتظار ولم يعد هناك مكان لقدم ، وبرغم ارتفاع الحرارة بسبب الزحام وثقل الهواء المشبع ببخار الماء وثانى أكسيد الكربون لكن الجو مع ذلك كان أرحم من استنشاق الدخان فى الخارج.
لم يستسغ شباب المتظاهرين فكرة الاختباء تحت الأرض فأخذوا يحاولون الخروج من منافذ المحطة البعيدة ليكتشفوا أن الجنود حاصروها جميعاً ويلاقون من يحاول الخروج بالضرب ، وفى الوقت الذى أخذت نوبات ضيق التنفس تعترى الجميع خاصة النساء بوغتوا بقوات الأمن تطلق عليهم قنابل الدخان من منافذ الهواء الوحيدة ، مداخل المحطة جميعها ، سرعان ما عبأ الدخان الرمادى الفاسد المحطة الواسعة حتى وصل إلى الأرصفة البعيدة ، مما أدى لسريان موجات قيء جماعية وانهيار غالبية الناس على الأرض عاجزين عن التنفس ، البعض أخذ يزحف من حلاوة الروح نحو المخارج لينجو من الموت اختناقاً ولو بالضرب والاعتقال. فى هذه الأثناء وبعد أن أطبقت المصيدة على كل من نزل فاراً من قوات الأمن إلى الأنفاق ، فوجىء الناس بالمترو المتجه إلى الجيزة يتوقف على الرصيف ويفتح أبوابه ، كما لو كان هدية من السماء تقبلوها شاكرين قافزين إلى العربات الخالية لتمتلئ عن أخرها فى أقل من دقيقة انطلق بعدها المترو مخترقاً النفق تحت النيل ليمر بمحطة الأوبرا دون أن يتوقف ويستمر حتى ميدان الدقى ، أسرع معظم الركاب بالنزول وخرجوا من المحطة أفواجاً ، لملمت مجموعات الشباب شعثها من جديد وأخذوا يطمئنون على زميلاتهم وزملائهم ، البعض غير موجود .. لا بأس لابد أنهم سيستطيعون التصرف بمفردهم ، بحماس العشرينيات


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.