طرق الباب وهى وحيدة أتتها الخادمة منطلقة فى لهفة، إنه غريب يسال عنك يا سيدتى، قطبت حاجبيها فاستويا على جبهتها وكأنهما خطى العمر تملقا من كفيها ليرتسما هناك، بمحاذاة بحيرتين واسعتين ينطلق منهما سهم اللحظ بلا هوادة فيأسر قلوب المحبين من كل صوب. قالت فى ترفع : اصرفيه فأنا الليلة متعبة، ولكنه يأبى الانصراف بل لا يعبأ بكلامى. فسالت الخادمة عن أوصافه قالت: انه طويل بنحافة، عريض المنكبين، جبهته يطل منها البهاء، وعيونه تخترق القادم كالصقر، ولباسه ينبئ عن أمير أو سفير، له هيبة الفرسان، وهدوء الحكماء، ألمح فى عيونه غدراً مدفوناً. ابتسمت السيدة فى هدوء متجهة إلى مرآتها لتلقى نظرة على هندامها وقوامها الذى ينحنى أمامه العظماء، وهى تحدث نفسها من يكون هذا الغريب القادم بلا سؤال. انطلقت نحو الحجرة التى يجلس فيها، لم تكد تطأ بقدمها شبرا واحدا داخل الحجرة إلا وأصابها الذهول فتوقفت مكانها غير مصدقة إنه هو أو قد يكون هو! فذاكرتها قد تشوشت من كثرة السنين التى مرت بها والأحداث التى ألمت بحياتها. اقترب منها بعينين ثابتتين تتفحصان كل نقطة فى جسدها وكل استدارة فى شكلها، وكل اندهاشة فى عيونها الواسعة الجميلة، غاص كل منهما فى عالمه يستذكر كم كانت وكم كنت وكم كنا معا وإلى أى شئ صرنا. طال وقت الصمت وكان لابد من بدء الكلام همت وهم، ثم علت البسمة فوق الشفاه فذاب جليد الذكريات التى وقفت بينهما، وتلامست الأكف فكأن سوطا تشتعل به النيران قد ألهب قلبيهما، أريد أن أنغمس بأنفاسك قالها وهو يقترب منها فبسطت له وجهها وأسبلت جفنيها فداعبت أنامله أهدابها الطويلة ولامس وجهه وجنتيها التى أحمرت من لهيب اقترابه ، أفاق على تنهيدة قوية اخترقت مسام جسده من صدرها الذى علا كما الطوفان الذى لا يجرؤ على تفاديه ساكن أو متحرك. أفاقت هى الأخرى على نظرة خبيثة من عيونه التى عشقتها يوما فكانت حسرة عليها وخلفت وراءها جرحا لم يندمل لملمت قوتها التى بعثرها بمجيئه وطوت ضعفها بين ذراعيها التى فُتحت له ، وضمت قلبها بين ضلوعها التى خرج منها ، وساءلته أهو الشوق أم الرغبة التى أعادتك لى، وكأنها لمحت الغدر الذى رأته خادمتها الأمينة، فعادت إلى رشدها وعاد إلى خزيه قائلا: بل هو العمل الذى جئت من أجله، جلست على كرسيها ووضعت ساقا فوق الاخرى، وسألته عن الثمن .