ارتعش الكوب في يده بشده ثم اهتز جسده كله وسقط الكوب منه فوق ملابس الملك مباشرة.... فزع الملك ووقف منتفضا وهب جميع من كانوا في مجلس الحكم مرة واحدة وحدثت جلبة عظيمة وسارع الحراس بالقبض على الساقي الآثم الذي تجرأ وسكب كوب الماء فوق ملابس الملك المقدسة. كان الساقي يقف في سكون منكسا رأسه إلى أسفل لا يدري ما الذي سيحدث له بعد هذه الكارثة التي حلت به؟ ولم يجد مخرجا منها سوى ذرف الدموع التي بللت لحيته الطويلة. أشار الملك بأن يعود الجميع إلى أماكنهم ، وأشفق على الساقي العجوز ، وأعاد الأمر كله إلى كبر سن الساقي وتقدمه في العمر وأن أعصاب الرجل لم تعد تحتمل ثقل كوب الماء الذي يقدمه له كلما أراد أن يشرب ،كما أن الملك كان يحب هذا الساقي كثيرا لأنه كان ساقيا لوالده الملك أيضا قبل أن يتوفاه الله بمرض عضال... لم الملك أن يعاقب الساقي ولم يشأ أن يشعره بأنه ارتكب جرما في حق نفسه وحق مليكه الذي يحبه كثيراً. تكررت الحادثة مرات ومرات وفى كل مرة كان الملك يلتمس العذر للساقي العجوز . لكن الأمر كان في تزايد مستمر إلى درجة ضجر معها الملك من عدم قدرة الساقي العجوز على التحكم في أعصابه ...وتقديم كوب الشراب دون أن ينسكب منه .. توالت الأسئلة في عقل الملك عن الأسباب التي أوصلت الساقي إلى هذا الحال ؟ وما العلة التي هاجمت جسده وجعلت أعصابه تنفلت بهذا الشكل ؟؟؟ تساؤلات كثيرة ة جالت في عقل الملك ولم يجد لها جوابا ومن اجل رغبته الملحة فى العثور على إجابة فقد أمر بعقد اجتماع عاجل يجمع حكماء وأطباء القصر حتى يفحصوا الساقي ويدرسوا حالته ويقوموا بتقديم الإجابات الشافية لكل تساؤلات الملك التي تحيره .. اجتمع حكماء وأطباء القصر وقاموا على الفور بفحص الساقي فحصا دقيقا ولكن نتيجة الفحص لم تمنحهم القدرة الكافية للإجابة على تساؤلات الملك فالرجل معافى تماما من جميع الأمراض العضوية كذلك هو خالي تماما من جميع الأمراض المعدية وصحته في وضع جيد ، حتى أمراض العجز والشيخوخة لم تزحف على جسده القوى بعد...ولم تؤثر به ... احتار الملك كثيرا واحتار معه الأطباء والحكماء ، وبين حيرة الجميع أشار أحد الحكماء على الملك بأن يغير الساقي بأخر يكون شابا يافعا قوياً يستطيع أن يقدم الشراب للملك دون أن يبلل ثيابه في كل مرة . لكن الملك رفض هذا الاقتراح تماما حيث أنه يحب هذا الساقي كما أنه لا يثق في أي ساقي جديد قد يدس له السم في الشراب ويقتله ، فأمر الملك بأن يجمع جميع أطباء وحكماء المملكة بأسرها طالما أن أطباء وحكماء القصر عجزوا عن إيجاد إجابات شافية لتساؤلاته عن صحة الساقي وأسباب سقوط الكوب منه فى كل مرة يقدم فيها الشراب للملك.... واجتمع أطباء وحكماء القصر مع جميع أطباء وحكماء المملكة وأخذوا يفحصون الساقي ويدرسون حالته جيدا وامضوا في ذلك الأيام والشهور ولكن لم يفلح احد في الوصول إلى الأسباب الحقيقية وراء ما أصاب الساقي من رعشة في الأعصاب واهتزاز للجسد كلما تقدم للملك بكوب الشراب... ازدادت حيرة الملك وتعجبه من المستوى المتدني لجميع حكماء وأطباء المملكة حتى الذين اصطفاهم لنفسه في القصر الملكي مما جعل الشك والريبة يهاجمانه بقسوة خشية من عدم قدرتهم على علاجه ومداواته لو أصابه مكروه ما ، وقرر الملك أن يطرح القضية برمتها على مجلس الحكم والنظار والشاه بنادر جميعهم عله يجد عند أحدهم جوابا شافيا يوضح له أسباب ما وصل إليه الساقي من حالة متردية... وبينما كان مجلس الحكم يجتمع بأكمله لمناقشة الأسباب الحقيقية وراء ما حدث للساقي إذ بأمير صغير من أبناء الملك كان يلهو بالقرب مجلس الحكم وكان لا يشعر بوجود أبيه في حياته ،أو وجود أمه ، كذلك حيث كان يقوم على تربيته مربون متخصصون في ذلك ، ويقوم على تعليمه مجموعة من المعلمين أيضا ، فلم يشعر الأمير بأهمية وجود أبيه وأمه في حياته قط وكثيرا ما يحنق عليهما لأنه يريدهما فى ويشعر بحاجته إلى عطفهما ورعايتهما المباشرة له صاح الأمير الصغير بصوت عال فجأة وقال : - لا ترهقوا أنفسكم . هذا الرجل مقهور مقهور..... نطقها الجميع في نفس واحد بما فيهم الملك الذي صاح في الأمير الصغير بغضب وقال له : - مقهور.!. ماذا تعنى بكلمة مقهور هذه أيها الأمير الصغير ؟ أجاب الأمير الصغير: - مقهور يعنى مقهور..... وهل تظن أن والدك ظالم حتى يقهر أحب الناس إليه؟ - أنا أعرفك تماما يا أبي ، وأعرف حبك لهذا الساقي المسكين ، كما إنني أعلم كم أنت عادل في حكمك .ولكن ما أصاب هذا الساقي هو القهر.....نعم هو القهر ... - تعود مرة أخرى إلى هذه الكلمة يا أمير ..! - أنا قلت ما أعرفه يا والدي وأنت من علمني أن لا أقول إلا ما أعرف ... - ولكن من أين لك هذه المعرفة وأنت بعد صغير ؟ - المعرفة ليست لها عمر محدد يا والدي .. - أحسنت يا أمير ، اذهب الآن إلى معلميك و مربيك علهم يحتاجون إليك فى أمر ما... - سمعا وطاعة مولاي الملك .. خرج الأمير الصغير من مجلس الحكم ، وتوجه الملك نحو مجلس الحكم وقال لهم بحزم: - ما رأيكم..؟ نطق الجميع بصوت واحد : - رأينا ؟ فى أي شئ تريد رأينا يا مولانا الملك؟ فيما قاله الأمير يا سادة ؟- - ألم تسمعوا ما قاله الأمير الصغير ؟ ضحك لجميع وقالوا بصوت واحد : إنه طفل صغير يا مولاي ... هل سوف نحكم المملكة بآراء الأطفال !؟ - لكنى مقتنع بكلامه فما .....فما رأيكم ؟ - الرأي لمولانا أولا وأخيرا يا جلالة الملك.. إذا فلينفض المجلس الآن وسوف نبحث عن أسباب قهر الساقي والحالة المتردية التي آل إليها ..انفض مجلس الحكم سريعا وأخذ الملك يفكر كثيرا فيما قاله الأمير ، ويحاول أن يبحث في ثنايا ذاكرته عن أي مواقف أو قرارات كان قد اتخذها أو حفظتها ذاكرته عندما كان شابا يشارك والده الحكم ، قبل أن يتولى هو شؤون المملكة وكانت ضد هذا الساقي ، وجعلته يصل إلى الحالة المتردية التي هو عليها الآن ...وبينما هو غارق في التفكير ، ويكاد رأسه ينفجر من شدة التفكير دون جدوى ، إذ بالساقي يدخل عليه المجلس وهو يحمل كوب الشراب ، وقبل أن يتقدم ويصل إليه عاجله الملك بقوله بحزم : - ضع كوب الشراب عندك فوق المنضدة وتعال إلى...ازدادت رعشة الساقي، وخاف أن يكون الملك قد سأم منه ومن حالته وأن حبه له قد اختفى ، وسيحكم عليه حتما بقطع رأسه أو التخلص منه بأي طريقه ..بكلمات مرتعشة خرجت بصعوبة من فمه الجاف: - سمعا وطاعة مولاي الملك .سمعا وطاعة ... قل لي هل تشعر بالقهر وأنت هنا معي أيها الساقي العزيز ...؟ بهت الرجل من كلام الملك ، ورد بسرعة شديدة حاشا لله ! يا مولاي إنني أحيا في رغد من العيش هنا يا مولاي ، وأنا سعيد بقربي منك وسعادتي أكبر بمحبتك لي يا مولاي ...إنني أشعر بمحبتكم لي وعطفكم علي ...وأشعر بنبرات صوتك الدافئة وأنت تتحدث معي يا مولاي ...أدامكم الله يا مولاي ...أدامكم الله ... - هل تشعر معي بالقهر؟ ارتبك الساقي العجوز وازداد ارتعاشه أكثر .. حتى أن قدميه لم تعودا تقويان على حمله ، فاستأذن الملك بالجلوس على إحدى الوسائد القريبة ، فأذن له الملك على الفور إكراما له ولحبه الشديد له. جلس الرجل وهو يغطي وجهه بكفيه والدموع تنهمر بغزارة من عينيه وجسده يرتعش .. - لم تجبني هل تشعر معي بالقهر ؟ - لم يستطيع الساقي أن يتفوه بكلمة ، وظل صامتا حتى صاح فيه الملك: - إنني أنتظر إجابتك ...فهل سوف يطول انتظاري أيها الساقي الجميل؟ الكلمات الأخيرة أدخلت الراحة والسكينة على نفس الساقي وهدأ قليلا ، وكف عن البكاء.. وتحرر كثيرا من تحفظاته وقال للملك: أنا لا أعرف يا مولاي أن كان ما بى قهر أم ماذا ... - إذن أحك لي عما أنت فيه يا رجل يا طيب... اعتدل الساقي في جلسته حتى أصبح وجهه فى مواجهة وجه الملك مباشرة وقال له : - يا مولاي لقد انتزعني والدكم الملك وأنا طفل صغير من أحضان أمي ودفء أبي ، وجاء بى إلى القصر هنا دون رغبة منى فقد كنت صغيرا ، ولم أعي أهمية أن تكون ساقيا للملك ومنذ ذلك اليوم لم أرى أبي وأمي وإخوتي ، و حتى لا أعرف عنهم أي شئ ، وظل هذا الأمر محبوس في داخل روحي طيلة هذه السنوات كلها ، ولم أشأ أن أفضفض مع أحد أو أبوح لأي كان ... وقد كنت حتى وقت قريب راضى بما كتبه الله لي وكنت سعيدا بتقربي منك مثلما كنت فرحا وسعيدا مع والدك الملك رحمه الله .. عندما كبرت وفهمت الدنيا وفهمت معنى أن تكون ساقيا للملك وتعيش في قصر الحكم بجانب الملك والأمراء والشاه بنادر ونظار الحكم.... وماذا أيضا....؟؟ لا شئ يا مولاي فجأة انفتح جرح روحي على مصراعيه، وظلت روحي تنزف منه حتى خارت قواي، ولم تقوى أعصابي على حمل شئ...ولا على تحمل المزيد ....ربما كبرت في السن ولم أعد أقدر على الاحتمال ...سامحني يا مولاي ...سامحني أرجوك ... - رائع كلامك أيها الساقي الجميل.... تعجب الساقي وظن أن الملك يسخر من كلامه ، وأن قراره بقطع رأسه قادم لا محالة - أنى معجب جدا بصراحتك وبتلقائيتك... ومن أجل هذا سوف أجعلك كبير السقاة بالقصر، وتشرف بنفسك على مجموعة السقاة الشباب الذين سوف يختارهم ناظر النظار بنفسه، وسوف أشدد عليه ألا يحضر أحدا عنوة أو ينتزعه من حضن أمه أو دفء أبيه .... فرح الساقي بقرار الملك ونسى نفسه تماما حتى كاد من فرحته أن يأخذ الملك في حضنه إلا أنه تراجع أخيرا عندما لاحظ عيون الملك تشعان ببريق غريب ، وحاول أن يتماسك وهو خارج من مقر الحكم من شدة فرحه وسعادته لقرار الملك إلا أنه سقط مغشيا عليه ، بينما راح الملك يفكر في أمر الأمير الصغير.