إنه يجنح هذه الأيام نحو أعمال غريبة، يملأ القصر بأدباء ناشئين جاءوا ليعرضوا عليه كتاباتهم. قصة: مصطفى نصر جاء نيقولا على عجل، فقد أرسلت إليه صوفيا ابنة عمه أكثر من رسول يخبره بأنها تريده لأمر هام وعاجل، ظن أن زوجها "ليو تولستوي" مريض، أو أن أحد أولادها أو بناتها في حالة خطرة، فما الذي يجعلها تلح في طلبه هكذا؟! لم يكن تولستوي موجودا وقتذاك، وأولادها وبناتها مشغولون بأعمالهم، اقتربت صوفيا منه وصاحت مترددة وهي تتابع الأولاد خشية أن يسمعوها: - هناك أشياء تقلقني بالنسبة لتولستوي. - ماذا به؟ - إنه ميال للانطواء والتأمل الطويل، ويتطلع إلى أشياء بعيدة عنا، إنه يدرس كتب الفلاسفة، ويهتم بالكتب الإسلامية. ضحك نيقولا مندهشا من صوفيا: ما تقولينه ليس غريبا، فهو كاتب وعليه البحث في كل المواضيع. أحست بالضيق فهي لا تجد من تشكو له، بناتها لا يهتممن بها ويعجبن بأبيهن، ويرون أن ما يفعله ليس غريبا، وهاهو ابن عمها – الذي ظنته سيفهمها، يسخر من قلقها وهلعها على زوجها: - إنه يجنح هذه الأيام نحو أعمال غريبة، يملأ القصر بأدباء ناشئين جاءوا ليعرضوا عليه كتاباتهم. ويائسون من الحياة؛ جاءوا ليسألوه عن سر الحياة، وطلاب جاءوا يسألونه فيما يدرسون، لا، لم يعد قصري قصرا. ازدادت صوفيا غيظا وهي ترى نيقولا يضحك قائلا: - كل الأدباء على هذه الحالة، وأنت قبل زواجك كنت فرحة لأنك ستتزوجين مؤلفا وفنانا. بكت صوفيا بعد أن وجدت ألا فائدة مما تعرض، الكل يخفف من أثر أفعاله التي تراها هي أعمالا خطيرة، لابد من منعها قبل أن تستشري وتتحول إلى حريق هائل يلتهم كل شيء. - نيقولا، أفهمني، بلغني أنه تنازل عن حقوق مؤلفاته للهيئة الخيرية العامة. قال نيقولا وقد قل حماسه في الدفاع عنه: - حتى لو فعل هذا، فهو ليس في حاجة إلى حقوق مؤلفاته. عاد نيقولا إلى بيت تولستوي بعد أقل من شهر، كان غاضبا، لم يسع إلى مقابلة صوفيا أول ما جاء، دخل فورا إلى حجرة تولستوي الذي رحب به بابتسامته الهادئة، نظر إليه نيقولا طويلا ولم يقل شيئا؛ فتركه تولستوي جالسا أمامه وعاد لشروده، صاح نيقولا بعصبية وحدة: - شكت صوفيا لي ولم أصدقها، لكنني فوجئت بمولانا القيصر غاضب هو وسائر الإقطاعيين. ابتسم تولستوي وقال في هدوء شديد: - لا أدري ما الذي يغضبهم مني؟ - غاضبون لأنك تريد أن توزع أراضيهم على الفلاحين. - لا أريد أن أوزع أراضيهم، بل أريد أن أوزع أرضي أنا. - تلك هي البداية، فسوف تشجع باقي الفلاحين على المطالبة بالأرض. - لقد حسمت الأمر مع نفسي، لماذا أمتلك الأراضي الشاسعة، بينما الفلاحون يموتون جوعا. صرخ نيقولا فيه غاضبا: - مالك بهم، هل أنت ربهم؟! ثم أكمل بهدوء: - يا صديقي العزيز، الكل يلومونني ويعاتبني لموقفك، فأنا لست بصديقك فقط، وإنما ابن عم زوجتك أيضا. - إنني مقدر الموقف الصعب الذي تواجهه الآن، لكنني – أنا أيضا – معذور. وقف نيقولا وقد ازداد غضبا، وتحدث بصوت سمعته صوفيا في حجرتها، وسمعه باقي الخدم في القصر الكبير: - مولانا القيصر نبهني إلى هذا، وطلب مني أن أحذرك ، كما أنه هدد .... - تلك أمور سخيفة لم تعد تزعجني. كان من الممكن أن أجزع أو أخاف لو أني مازلت في جهلي القديم. قال نيقولا في هدوء وهو يربت على ظهر تولستوي: - إنك لا تعيش هنا وحدك، هناك زوجتك وأولادها وبناتها، ماذا ستترك لهم عندما توزع أملاكك؟ - لا أستطيع أن أعطيهم ما لا أملك. سار نيقولا ناحية الباب وهو يصيح في ثورة: - لقد تعبت معك، وسأذهب إلى صوفيا زوجتك. ظل تولستوي واقفا في مكانه؛ يتابع الباب المفتوح الذي خرج منه نيقولا، ثم عاد ليكمل عمله. يسير تولستوي على مهل، لقد أنهكه التعب، يبذل مجهودا كبيرا هذه الأيام، يقرأ ويكتب كثيرا، تطارده الأيام بتتابعها، تطالبه بأن يفعل المزيد. اقترب من بيت أندريا – المقرب إليه وطبيبه - لقد ساعده تولستوي، أعانه حتى أنهى دراسته للطب، هو من أسرة فقيرة، أحس تولستوي بمواهبه، استيعابه السريع للأشياء، وميله لقراءة كتب الأدب. يسكن أندريا حجرة في الدور الأرضي في بيت داخل مقاطعة تولستوي. دق تولستوي نافذته من الخارج ليوقظه، هب أندريا فزعا، طل من النافذة وصاح فرحا: - سيدي الكونت، تفضل. سار تولستوي إليه: - أندريا، أنني في حاجة إليك. - إنني على استعداد لأن أجتاز البحر لو أمرتني. - لن نجتاز البحر، وإنما سنجتاز أهم مرحلة في عمرنا، لقد جهزت صكوك الملكية، وسنذهب إلى الفلاحين لنسلمهم الأرض، ستكون معي يا أندريا. سارا معا في طريقهما إلى أكواخ الفلاحين، ود تولستوي لو كانت صوفيا معه، وباقي أفرد الأسرة ليشهدوا هذا التحول العظيم في حياته. قال أندريا: - لا أستطيع أن أعترض على أمر تصدره لي، لكن أسرتك لن ترحمك. - إن كانت أسرتي التي ضحيت من أجلها بكل شيء؛ لن ترحمني، فماذا أنتظر من الآخرين؟! - الأمر ليس سهلا، فالأرض كعضو في جسد الإنسان، ليس من السهل أن تقتطع جزءا من جسدك وتعطيه للآخرين. - أعرف هذا جيدا، ولن أهتم بما سيحدث. كان الفلاحون مجتمعين يتسامرون، وقفوا في احترام شديد عندما اقتربا منهم، ابتسم تولستوي: كيف حالكم؟ وصاح أندريا قبل أن يسهبوا في الترحاب بتولستوي: الكونت جاء إليكم بمعروف. صاحت فلاحة: يكفينا تواضعه ورحمته بنا وبأولادنا. قال تولستوي: جئت لأوزع عليكم جزءا من أرضي. غمغموا، ضاعت الكلمات بينهم، فهم لا يفهمون ما يقصده الكونت، قال أندريا: - سيعطي الكونت لكل منكم قطعة أرض صغيرة. صاحت فلاحة: - إننا مرتاحون للأرض التي نزرعها الآن يا سيادة الكونت. - الأمر مختلف هذه المرة، الأرض ستكون ملكا خالصا لكم. صاح فلاح مندهشا: - لم يحدث هذا قط، لم أسمع بهذا منذ أن ولدت. وقال أندريا: - هذه هي الأوراق، كل من يسمع اسمه؛ يتسلم الصك الخاص به. *** جاء نيقولا على عجل، فالأمر هذه المرة لا يحتمل الانتظار، صاح بنفاد صبر عندما رأى صوفيا: - ماذا فعل تولستوي ثانية؟ - وزع جزءا من الأرض على الفلاحين. زفر نيقولا في أسى، وجلس على أول مقعد قابله: - إنه يدمر كل شيء، مولانا القيصر وباقي رجال الدولة؛ غير راضين عن أفعاله. وصاحت صوفيا، وهي تلعن في نفسها القيصر وباقي رجال الدولة: - ما يهمني هو أملاكي وأملاك أسرتي، لذا سآخذ الحراس وأذهب إلى أكواخ الفلاحين، وأسترد الأرض منهم بالقوة، سأجلدهم بالسياط. - هذا هو الحل، لو انتظرنا سيقووا ولن نستطيع الوقوف أمامهم. أسرعت صوفيا ونيقولا بجوارها وخلفهما الحراس يحملون أسلحتهم. دق نيقولا الباب في عنف: أخرج أيها الفلاح لأتحدث معك. فتحت فلاحة الباب، ابتسمت عندما رأت صوفيا ونيقولا، صاحت مرحبة: - أهلا بك يا مولاتي. دفعتها صوفيا في عنف وصاحت: - ادخلوا أيها الحراس. صاح فلاح فزعا: - أنا وزوجتي وأولادي لم نفعل شيئا. صاح نيقولا غاضبا: - بل سرقتم الأرض. - لم نسرقها، إنما أعطانا إياها سيدي الكونت. صاحت صوفيا: - أين الصكوك التي أعطاها الكونت لكم؟ أسرع الرجل إلى كوخه وجاء بالصكوك، ظن أن صوفيا وابن عمها سيطلعان عليها؛ ويعيدونها إليه ثانية. لكنها أمسكت بها ومزقتها. *** يخرج تولستوي كل صباح، يسير في الهواء الطلق لمدة ساعة، يستنشق الهواء النقي ويشرد، عندما عاد هذه المرة رأى صوفيا تبحث في صوانه الخاص، تخرج أشياءه وتضعها فوق مكتبه القريب، تبحث داخل كتبه وأوراقه، صاح تولستوي بها: - ماذا تفعلين في صواني؟ قالت في تحد: - أبحث عن صكوك ملكية جديدة تعدها للفلاحين، أبحث عن وصاياك. تأملها تولستوي طويلا ولم يجب، صاحت: - لماذا تنظر إلىّ هكذا؟ - مازلت أذكر يا صوفيا عندما جئت إلى بيتكم لأخطبك، كنت كالملاك وصوتك عذب كالموسيقى، أين ذلك من الصورة التي أراها الآن؟! صاحت غاضبة: - ماذا تقصد، أصابتني الشيخوخة، وبدوت دميمة؟ - لا أقصد هذا بالطبع، فأنت مازلت جميلة، لكن نفسك تغيرت، تعشقين السلطة والتحكم في الناس، ترتاحين للحياة في المقاطعة بحجة رعاية أملاكك، والحقيقة أنك هنا تجدين العبيد الذين يأتمرون بأمرك. أتابعك وأنت تعاملين الفلاحين المساكين، تقسين عليهم وتحملّينهم فوق طاقتهم. صاحت صوفيا وأشاحت بيدها غاضبة: - لا تخرج عن الموضوع، إننا نتحدث عن الأرض، فما لك ويوم الخطبة؟! - لم ابتعد كثيرا عن الموضوع. - إنني قادرة على حماية أملاكي وأملاك أسرتي، وسأتصدى لكل من يحاول أخذ بوصة واحدة من الأرض. قال تولستوي: سوف أريحك من كل هذا العناء. *** سار تولستوي، كان يرتدي ملابس الفلاحين الخشنة، ويضع غطاءً على رأسه يصل لحاجبيه. ذهب إلى حجرة أندريا، أيقظه من نومه: - سوف أهرب من هذه المقاطعة، سأذهب بعيدا جدا، ربما خارج روسيا كلها. - لا يا كونت، لا تفعل هذا. - أرجوك يا أندريا، الوقت حان ولابد من الهرب قبل أن يصحوا، أريد أن أنجو بنفسي. - لكن الجو بارد جدا، وصحتك لن تتحمله. كاد تولستوي يبكي: - أرجوك يا أندريا، لن أستطيع الذهاب وحدي. - دقائق وسأكون مستعدا للذهاب معك. سارا حتى محطة القطار، المسافرون قليلون، عدد محدود من أهل المقاطعة، والقطار يقف، يتأهب للانطلاق، يخرج دخانا كثيفا يملأ الجو سوادا. - هيا أندريا قبل أن يتحرك القطار. جرى تولستوي حتى أنهكه التعب، جلسا في القطار متجاورين، قال أندريا: - من يراك الآن لا يصدق أنك كونت، ومن أسرة القيصر. ضحك تولستوي، أحس وكأنه مسجون قد أفرج عنه توا؛ وهو الآن في طريقه إلى بيته الذي حرم منه لسنوات طويلة. - العديد من فلاحي مقاطعتي مروا بي دون أن يتعرفوا عليَّّ. تحرك القطار، النوافذ محطمة، فمن سيهتم بقطار لا يركبه سوى الفلاحين الفقراء؟! اخترق الهواء البارد عظام تولستوي، اخترق ضلوعه واستقر في عظامه، صاح بعد أن عجز عن المقاومة: أندريا، أحس بتعب شديد، آلام تشق صدري، أختنق. صاح أندريا فزعا وهلعا عليه: أغيثوني يا ناس. اقترب ناظر المحطة مهتما، نظر إلى وجه تولستوي وصاح فزعا: - سيدي الكونت، ما الذي جاء بك إلى هنا؟ وصاح أندريا جزعا عليه: أرجوك أوقف القطار، الكونت في حالة صعبة جدا. - بيتي قريب من هنا، ساعدني يا دكتور على حمله. *** فوق فراش ناظر محطة القطار نام تولستوي، بكى أندريا بجانبه: - حزين يا أندريا لأنني سأموت قبل أن أحقق ما تمنيته. - بل ستعيش وتحقق كل ما تتمناه. وأرسل ناظر المحطة في طلب صوفيا، أخبرها بما حدث، جاءت مسرعة هلعة عليه، بكت: - أين ليو، حبيبي؟ قال أندريا لها: أرجوك يا سيدتي، أرجوك، رؤيته لك ستزيده ألما وعذابا. - لكنه زوجي. - معذرة، فمشكلته أنت. - لم أقصد إيذاءه، لم أقصد، كل ما أردته أن أنقذ أسرتي، أدافع عن حقوقها، هل أخطأت؟ صاحت صوفيا كالمجنونة، تابعها ناظر محطة القطار وأسرته، وتابعتها بناتها اللاتي جئن معها للاطمئنان على أبيهن، صاحت صوفيا ثانية: - هل كنت أتركه ليوزع أملاكنا كما يشاء، لو فعلت هذا، كنتم ستصفقون لي، لكن هل سيعيد التصفيق أرضي وأرض أولادي؟! واقترب أندريا منها، ذهب بها بعيدا وهو يقول: - أرجوك يا سيدتي، فالكونت تولستوي في النزع الأخير الآن. ** منشور بموقع "ميدل ايست" بتاريخ 28 يونيو 2008