تحت عنوان"رموز مصرية" وضمن فعاليات معرض القاهرة الدولي للكتاب في دورته الرابعة والأربعين أحيا "المقهى الثقافي" ذكرى المفكر المصري الراحل "أنور عبد الملك" المولود عام 1924 والمُتوفى في باريس عام 2012 الذى يمثل حالة فريدة في الفكر المصري وصاحب الرحلة الطويلة في سبيل التأسيس لنهضة وطنية حقيقية.. حول النهضة والوطن الكلمتين المفتاحيتين في حياة المفكر الراحل دارت أحداث الندوة. بدأ "عمرو حمودة" بتوجيه الشكر للقائمين على البرنامج الثقافي لاختيارهم الموفق لهذه الشخصية المصرية العظيمة عميقة الجوانب واسعة المعرفة وأحد أشهر مفكري علم الاجتماع في العالم وصاحب العطاء الفكري المتميز الذي تمثل فيما لا يقل عن عشرين كتاباً كان من أشهرهم "نهضة مصر" ،"الوطنية هو الحل"، و"المجتمع المصري والجيش"، و"الجيش والحركة الوطنية" هذا بخلاف ذوقه الأدبي الرفيع وعشرات الدراسات النقدية والأدبية المميزة. أشار "حمودة" إلى سمات شخصية "أنور عبد الملك" التي تميزت بالجرأة والشجاعة في الاشتباك مع الأفكار والشخصيات الفكرية والثقافية والسياسية داخل وخارج مصر بل ومع التاريخ نفسه .. فقد كان الراحل صاحب حس مقتحم وروح نقدية تحليلية تهدر كالشلال الذي يحرك الساكن وكل ما هو بطيء.. منطلقاً من إيمانه العميق بأن التاريخ المصري الذي استمر عبر سبعة آلاف سنة هو تاريخ شديد الخصوصية تتمثل خصوصيته في قدرته على الاستمرارية.. تلك القدرة العجيبة التي أهلته لإرساء مجتمع واحد متجانس أسس لمفهوم الدولة التي صمدت عبر العصور .. وبهذا لم تكن مصر بتميزها المفروض عليها تاريخياً وجغرافياً مجرد دولة بل كياناً منتجاً للحضارة. كان الراحل صاحب الخلفية العلمية والحاصل على الدكتوراه في علم الاجتماع من جامعة السوربون يعتمد أدوات بحثية حديثة في التحليل العلمي لأي مسألة، ففي تأسيسه لفكرة "النهضة" - الكلمة التي أُسيء استخدامها الآن - حاول التقاط الفترات التي شهدت فيها مصر حركات نهضوية حقيقية كفترة "محمد علي" وبناء الدولة المصرية الحديثة. وأضاف "حمودة" أن المحاور الأساسية التي اهتم بها أنور عبد الملك عبر نضاله الفكري بالإضافة إلى قضايا النهضة كانت تتعلق بعلاقة الجيش بالمجتمع المصري وقضايا المواطنة كما لفت الانتباه لأهمية دراسة كتاب المفكر الراحل "نهضة مصر" بعناية شديدة وبتحليل عميق هذه الأيام وأشار إلى الإهداء المميز للكتاب أهداه الكاتب لثلاثة من عظماء مصر"رفاعة الطهطاوي" الرائد والمجدد والمبدع، وإلى"إبراهيم باشا" القائد المصري العظيم وأخيراً الأديب "عبد الله النديم خطيب الثورة العرابية. انقسمت الحالة الفكرية المصرية في سعيها نحو النهضة - كما أوضح عبد الملك- إلى اتجاهين أساسين تمثل الأول في التحديث الليبرالي الذي حرص على النظر إلى المستقبل والاهتمام بالعلوم الحديثة،بينما تمثل الثاني في الأصولية الإسلامية التي رأت أن الخير في القديم على الدوام وعملت على إحيائه بكل طاقاتها. أما د. "فيفيان فؤاد" فقد ألقت الضوء على دور المفكر في تحليله لعلاقة الجيش بالمجتمع المصري حيث كانت من أهم مباحثه أسباب الهزيمة القاسية في 1967 التي أفرد لها كتابه الهام "المجتمع المصري والجيش" الذي صدر في عام 1968.. فقد كان التساؤل حينها قاسياً فارضاً لنفسه بقوة فبعد استقلال مصر بثلاثة عشر عاماً يُعاد احتلالها مرة أخرى .. لماذا هزمنا؟ .. لماذا انكسرنا؟؟ .. كيف صعد الضباط الأحرار لقمة السلطة وكيف فككوا السلطة القديمة؟؟ كل هذه التساؤلات طرحها عبد الملك وحللها وأجاب عنها قدر المستطاع من أجل إنارة للمستقبل. أنور عبد الملك الذي كان يؤمن بأهمية الأمل للأجيال القادمة والذي كتب في كتابه السابق ذكره "إن جيلاً جديداً يُولد في أرض مصر وهذه الدراسة موجهة أولاً للشباب .. يجب ألا نخطئ وألا ننسى ويجب ألا يبقى التاريخ لعنةً حين يمكن أن يكون أملاً" وأوضحت د. فيفيان صورة الأمة المصرية كما كان يفهمها أنور عبد الملك والتي تتمثل في الوحدة ثم الدولة ثم الجيش، فالوحدة بالنسبة إليه كانت هي الوطن والدولة هي "سيدة المياه" التي تدير الشؤون المركزية في البلاد والجيش سيف الدولة والعنصر الجوهري في طليعة الحركة الوطنية .. الأمة المصرية التي كانت من سبعة آلاف سنة وحدة جغرافية واحدة لم تتغير ولم يتدخل الاستعمار في رسم حدودها .. ملتقى المسيحية في الغرب والإسلام من المغرب إلى جنوب آسيا وتقاطع الحضارة الإسلامية بالحضارات الشرق آسيوية. وعن أهم شخصيتين في حياة المفكر الراحل ذكرت د. فيفيان أنهما كانا الشهيد "شهدي عطية" أحد رموز الحركة الوطنية في الأربعينيات والذي كان يرأس دار"الأبحاث العلمية" والذي تربى عبد الملك في مدرسته الفكرية ،أما الشخصية الثانية فكانت والدته بعطائها ورعايتها له وحسها النسوي الذي كان يمنحها القدرة على فرز البشر والشعور بهم تدله على الطيبين منهم وتحذره من أصحاب النفوس الخبيثة .. إلى هذا الحد تأثر أنور بأمه ووقرها في نفسه إلى حد التقديس وكان يصرح دوماً بأنه يتمنى وينتظر لقياها بعد الموت. شارك أنور عبد الملك في حركة "الطلاب والعمال" في الأربعينيات واعتبرها بمثابة ثورة حقيقية فقد جمعت بين الوفد والحركة الشيوعية واتحادات النقابات والعمال .. كان يساري الهوى ولكنه لم يكن ناصرياً بالمعنى المفهوم فقد كان صاحب رأي متوازن في ثورة 1952 رأى أن من خطاياها العظمى كان العمل على تغييب الثورات المصرية منذ عهد محمد علي والحركات الطلابية والعمالية وأيضا إقصاء فترات هامة من التاريخ المصري منها الفتح الإسلامي لمصر والحضارة القبطية القديمة والمرحلة الفرعونية بشموخها وعظمتها .. رأى أيضا أن القضاء على الطبقة الوسطى وضرب مؤسسة الجامعة المصرية عام 54 حين طرد جميع الأساتذة الذين لهم اتجاهات شيوعية أو ديمقراطية كانت من أكبر نقاط الثورة السوداء.. في حين أنه رأى أنها قدمت للأمة المصرية إنجازات عظيمة كتأميم القناة والنهضة الصناعية وبناء السد العالي وبناء القوات المسلحة التي استطاعت أن تتخطى نكسة 1967 رغم قسوتها. وختمت د. فيفيان الندوة بلمحة إنسانية في حياة "أنور عبد الملك" الذي رثى د. أحمد عبد الله زعيم مظاهرات الطلبة في السبعينيات والمُتوفَى في 2006 بمقال مؤثركان عنوانه"أحمد عبد الله – ماذا لو أنصفت مصر أبناءها!!" ليبقى هذا التساؤل قوياً وحاضراً على مر الزمن .. حقاً ماذا لو أنصفت مصر أبناءها!!. جدير بالذكر أن مسيرة انور عبد الملك العلمية بدأت منذ عام 1941 حين صار مدرسا ثم أستاذا للأبحاث بالمركز القومي للبحث العلمي بباريس 1960 ثم مديرا للبحوث عام 1970.. وقد عمل كذلك أستاذا لعلم الاجتماع والسياسة بكلية العلاقات الدولية جامعة ريتسومِيْ كان كيوتو باليابان، ومستشارا خاصا للشئون الآسيوية بالمركز القومي لدراسات الشرق الأوسط بالقاهرة، ومدير أبحاث فخري بالمركز القومي للبحث العلمي بباريس، وهو عضو الإتحاد العالمي لعلم الاجتماع وعضو لجنته التنفيذية، علاوة على تولية منصب نائب رئيس الإتحاد 1970-1978. وهو مدير مشروع بجامعة الأممالمتحدة في الفترة من 1976 إلى 1986، وعضو مراسل بالأكاديمية الأوربية للفنون والعلوم والآداب. عمل أنور عبد الملك صحفى فى روز اليوسف وفى جريدة "لو جورنال دى إيجيبت" وفى جريدة الحقيقة والمساء ومجلة الإذاعة ومجلة المجلة من عام 1950 - 1959.. كما عمل مدير مكتب محمد حسنين هيكل عام 1970 وشغل موقع أستاذ باحث مساعد فى المركز القومى للبحوث ثم مشارك ثم مدير فى الفترة من عام 1960 حتى عام 1990. وقد كان أنور عبد الملك مهتما بهموم وطنه وخاصة السياسية والاجتماعية منها، علاوة على تأكيده على أهمية الخصوصية والهوية والانتماء لتماسك الأمة العربية والإسلامية، مع رفضه لدعاوى العولمة والانفتاح على الغرب من أجل التحديث واللحاق بالركب الحضاري، ودعوته إلى الانفتاح على الشرق. ومنذ بداية الإنتاج الفكري للدكتور أنور عبد الملك برز اهتمامه بالماركسية وصاغ مصطلح المدرسة المصرية في الماركسية مبينا التأثيرات العالمية لهذه المدرسة.. فقد اعتبر أنور عبد الملك أن الماركسية ليست سلاحا فحسب من أجل التحرر الوطني والاقتصادي لبلدان العالم الثالث - وذلك حسب كتابه القومية والاشتراكية - ولكن من أجل التحرر الفكري من الهيمنة الثقافية الغربية كذلك. وفي هذا الإطار جاء الإسهام الفكري لعبد الملك في إطار علم الاجتماع، فقام بمراجعة التعريفات الليبرالية، وكذلك الماركسية الغربية التي تتعلق بمفاهيم الدولة والأمة والقومية وغيرها، وكان إسهامه الفكري يحمل هم إبراز التباين بين الواقع الذي أنتج هذه الأفكار، والمعطيات الجديدة التي فرضها كفاح الشعوب في مواجهة الغرب الاستعماري. وقد رحل عبد الملك عن عالمنا في 17 يونيو من العام الماضى بأحد مستشفيات باريس حيث كان يقيم بها في السنوات الأخيرة.. وقد بذل مثقفون ودبلوماسيون مصريون جهوداً كبيرة لإحضار جثمان المفكر المصري أنور عبد الملك الذي توفي في مستشفى في باريس حيث أقام في السنوات الأخيرة، ومنها كان يرسل مقالته الأسبوعية التي تصدر في صحيفة الأهرام.