الحياة مرّت دون أن تلتفت إلى الوراء،النهر الذي يعود للحياة في نور منعكس على صفحات الماء، نفس الوجه مرآة لذاته ، ميت من الظمأ وهبوب متسكع على الضفاف، تركض الريح إلى الخلف ، تقهقرها في عيون المساء ، فترتعش الأضواء. هاتفها رنّ.. صوت يخبرها بقدوم علي بعد غياب سنوات ، حتى كادت الذاكرة تنسى قسمات ملامحه،رسائله البريدية الناذرة وتواصلاته السلكية القليلة، ما كانت لتعوض الغياب، ولا تشفي غليل الأيام، تبدو صورته في غرفة نومها كما طيف غريب ، تمتمت مع نفسها : كم اشتقت للحظات زمان! وعلت رعشة أصابعها وهي تلامس الصورة ، فضمتها لصدرها ، أحاط نسيمة دفء ليحضن لهفتها، ويسري عبق يدغدغ وجدانها ، سحر تحرك بمخدعها ، وتمايلت الأنسام من حولها ، لأول مرة بعد أن غادرها تستنشق بخور الأزهار المنبعثة من حديقة البيت الرائع ، لم تشعر بهذا المنظر الأخاذ ، لم تحس بشموخ تلك الجبالالأطلسية الممتدة من حولها، يا لروعة هذه عالمها! هاهي تستقبل اليوم بألحان العندليب ، وتغريد الحسون ، وهديل الحمام ، والأزهار تبدو بحلة مزركشة بسطت الأرض ديباجا ومرجانا.ياه ! لم أنتبه لهذا الجمال الفاتن! يا لسحره! تضوعت أريج الهواء نقيا منعشا ، ها قد عادت للحياة من جديد! اِنتبهت نسيمة للصورة على صدرها ، فخاطبته : لماذا لم تأخذني معك كما وعدتني؟لماذا هانت عليك العشرة ونسيتني؟ كرهت باريس التي سلبتهك مني، لأبقى والوحدة تقتلني . رغم وجود ابنائها .. لا شيء يعوض شوقها لزوجها. استمرت تهامس الصورة ونيران الغيرة تلتهم كيانها: ألم أعد الحبيبة الفريدة؟ تلك الجوهرة الناذرة ؟ ألست عود خيزران ممشوق أتباهى؟ ألم تطبع شقائق النعمان قبلتها على وجنتي دون سواي؟ ألم يكسوني بياض الياسمين الناصع البهاء ؟ ألست ذاك النجم الساطع بفضائك، لا ينوس أبدا؟؟؟ ياه !! كم مرت من سنين وأنت بعيدا يا عليا!! كيف تذكّرتني؟؟ عفوا تذكرتنا؟؟ قد نسيت حتى أبناءك وآباءك. تبّا للغربة وللقمة العيش! رنّ الهاتف ثانية! نفس الصوت الأول يخبرها بموعد الوصول ! ليس صوت زوجي ! إنه لِغريب ! ألوووو من أنت؟ أنا صديق زوجك. ولماذا لا يتصل هو بنفسه؟ إنه منشغل بترتيب لوازم السفر والتبضع. غدا عند الظهر يكون هناك إن شاء الله ، سأكون معه . نلتقي غدا سلام. أغلق دون أن يترك لها فرصة التساؤل. جلست شاردة والهمزات تتهاطل عليها، دون أن تدري الجواب. ذهبت للمرآة تصالح نفسها ،استغربت : لمَ أرتدي هذه الألوان العاتمة. أكنتُ في حداد؟ أسرعت لدولابها ، فتحته تبحث عن أثواب مزهرة مشبعة بالحيوية والحياة، بريق لمع بعينيها ، لبستها .. تزينت... تعطرت...اكتنفها الألق وصاحبتها فرحة كشعاع الشروق، لامست شفتيها فعلتهما ابتسامة وعلا خديها حمرة حياء. صدحت الموسيقى في أرجاء البيت ، نجاة الصغيرة .. كانا يسمعاها سويا حتى فساتيني التي نسيتها فرحت به....رقصت... ركضت تعانق أبناءها وتغمرهما بالحنان، وعلى غير المعتاد تدفق من جوانحها كما السناء ، عمّ النور المكان. فجأة، ارتبكت وتلاعبت بها الظنون، احترقت الأشواق واختفت تلك البسمة ، أهي الغيرة ؟ أم شعور بغيب في خفاء؟ خمدت الشموع بداخلها. وأشواك الشك تراودها؟ انبلج الفجر ، انشغلت بالاستعدادات ، كل الأهل والأصدقاء والجيران هنا، وهي تقفز كالفراشة من ركن لركن: فاطمة أعدي الحلوى! وأنت سميرة اكنسي البساط ورتبي الوسائد وهيئي صينية الشاي! خديجة أسرعي حضري الأكل للضيوف ، الوقت يداهمنا ! سناء أرجوك ضعي الستائر الجديدة ! وصففي الورود بالمزهريات! اقترب الوقت! ودقات قلبها تتتسارع، كل شيء تمام! عدنان ! عادل ! غيّرا ملابسكما ! سيصل أبوكما الآن! حان الموعد، الكل بالباب يترقب وصوله، العيون تراقب الشارع الطويل ، من هناك سيأتي! سيارة من بعيد تبدو، إنها قادمة نحو الجمع، أكيد هو، تفترب وتقترب...! هاهي الآن تبدو بوضوح، تجمّد الكل في أمكنتهم ! وتسرّبت الكآبة للقلوب.. الفرحة في عيون نسيمة توارت ..تصقع الدم بوريدها.. عرفت سبب ذاك الحزن المميت والحيرة القاتلة التي أحستهما من قبل..إنها سيّارة إسعاف! أهو ميّت ؟ أهو مريض؟ ألهذا ترك الأروبية وأتى؟ ألن أراه أبدا؟ هواجس وأهوال ولا جواب! دموع فقط تنساب تبلّل ومضات، ما فتئت تعلوها حتى خبت إلى الما وراء! وقفت السيارة أمام البيت.. لم يقو على الكلام..كانت تحس به.. يريد أن يقول الكثير.. أن يحضنهم.. فقط أساريره انفرجت بابتسامة ..فكأنه ارتاح بعد طول العناء!