قبل أن يفهمني القارئ على النحو الذي أتجنّب.. فالحديث يتناول الذات قبل أن يتناول الآخر.. وإذا كان الوعظ بادياً في جانب فهو حديث الواعظ لنفسه، همهماته الوجدانية قبل أن تُفهم على أنها حديث موجّه إلى الآخر وعلى نحو خاطئ. هذا لا يعني أنني أعني مَن أعني.. ربّ قارئ إذا ما أسقط بعض الأفكار على نفسه يجد أنه المعني.. وأجد أنني حققت الهدف الذي أردته.. والوعد الذي قطعته.. والسؤال.. كيف للمرء أن يتوغل في دواخله وبين ثنايا ذاته.. يقارعها.. وتقارعه.. يعاتبها وتعاتبه.. يؤنّبها.. وتؤنّبه.. يعاقبها.. وتعاقبه.. حتى يدخل الاثنان حالة البؤس واليأس تمهيداً لحالة التجدّد والتجديد والانطلاقة والميلاد الجديد.. في حزبنا نسميّه النقد والنقد الذاتي.. وبغضّ النظر عن الممارسة الصحيحة أو غير الصحيحة للنقد والنقد الذاتي فإنها ظاهرة جدّية وغنيّة.. وإنسانيّة.. ووجدانيّة في حياة الفرد.. وفي حياة الجماعة أيضاً.. فمن يمتلك هذه الجرأة في نقد الذات.. ومقارعة النفس والبحث عن الحقيقة التي تجسدها لحظات ما في موقف ما.. وظرف وزمان ومكان ما.. فهو إنسان قادر على تحقيق التوازن الذاتي المطلوب.. ولدت تلك الحقيقة لا شك، وعبّرت عن نفسها بومضاتٍ.. أبرقت في سماء الوهم والكذب والخداع والتضليل.. لمعت.. أضاءت.. أشعّت وفرضت نفسها على الواقع الهش.. ثم تبدّدت وهاجرت.. وسلكت مسارب في الاتجاهات المتعاكسة طولاً وعرضاً.. كيف السبيل لالتقاط هذا البريق المهاجر وتلك اللحظة المسافرة على دروب الحياة وروتينها القاتل..؟ كيف السبيل إلى إعادة تجميع الضوء البارق جرّاء احتكاك سحابتين مهاجرتين اصطدمت عناقاً في سماء الله الواسعة..؟ وكيف يمكن تكثيف الحدث الكوني الطبيعي الذي هو من أبجديات النيازك والنجوم في لحظة، وإعادة تصويرها أو تكرارها بنفس الظروف المناخية غير المتكررة على ذات النحو.. كيف يمكن استرجاع الوعي.. واليقظة.. والدهشة التي أحدثَتَهْا اللحظة الكونية إياها والتي لا نمتلك إلا ترقبها ومراقبتها، واستظهارها على نحو يعيد التوازن إلى النفس.. كثيرة هي الطاقات البشرية المعطّلة والمستنزَفَة في إيقاع الحياة، ومن السخافة تصريف الطاقات الكامنة لخدمة اليوميات المعتادة.. المألوفة.. الممجوجة.. الغارقة في بيروقراطية الحياة.. نكرر ذواتنا بلا لمعان.. ولا إبداع.. ولا اختراق للخطوط الحمر الوهمية التي رسمناها لأنفسنا بلا داعٍ ولا ضرورة.. ولكلٍّ منا خُطوطه الحمراء يصارع الذات البشرية ويقارع النفس فيها إذا ما رسَم موطئ قدم أو قلم.. ويتشتت فكره.. وتتيه بصيرته والبصر بحثاً عن الألوان التي اختلطت بين العبور، والتوقف، والمراوحة.. وفجأة يكتشف أنه غاب نهار آخر... وأضاف فجراً جديداً إلى غُربته الإنسانية الممتدة من الميلاد إلى القبر الذي فَغر فاهُ وكشّر عن أنيابه لاستقبال الهامد.. الخارج من برّاد مكتب دفن الموتى.. هي لحظة أردت الدفاع عنها، في عمر تطاولت عليه السنون والعقود فقهرها وقهرته.. وهزمها فهزمته.. لا بل طاردته كالطريدة والصياد.. لحظة البرق الذي لمع في سماء الوادي عند سفوح جبال وطني الخضراء، فأضاء النفس وأشعَّ الذات.. وأنارَ ما تبقّى من دروب الحياة.. لنعترف باللحظة إذاً ولنقم لها مراسم الحدّ على النفس، وجلد الذات كي ترضخ للواقع الرديء.. ولنضئ شمعة أمام محراب الحقيقة التي تولد في حيواتنا كل لحظة إذا ما تأملنا ذاك البريق الساطع، فلنواجه أنفسنا بأنفسنا ولنتحدَّ الأنانية فينا وبعضُها جميل ورائع.. فهل نتوغّل في دواخلنا قليلاً قبل انحسار البرق.. والبريق.. وهل ندرك أبعاد ومرامي وأهداف أبجديات اللحظة ولغتها الخاصة بها..؟ أم أن حديث صراع الدواخل سيستمر.. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.