تدخل عايدة الربيعي ميدان الخطاب من باب نصوص أدبية نائية بها عن التجنيس المُحدد ذلك أن تدويناتها التي حملت عنوان (أوراق لم تعد سرّاً) تنتقل بين السرد بما يحمل من كينونة القص، والشعر بما يشي من بوح وإفضاء يتراغي في فضاء التحليق الذي تمنحه الشاعريةُ هويةً تسمِه بسِمةِ الشعر لاسيما في شكله المتَّخِذ بمفردات قليلة اسطر قصيرة. وعايدة الربيعي إضافة إلي كونها شاعرة فهي فنانة تشكيلية (خريجة أكاديمية الفنون الجميلة بغداد) تقدمت لتجعل من لوحة غلاف مجموعتها نصاً تشكيلياً يخصّها، ولتدخل ميدان الشعر بنص التشكيل أيضاً، مضيفةً لموهبتها الفنية فنَّ التعبير المفرداتي مُطعِّمةً الصفحات الداخلية بنصوصٍ تشكيلية يترجمها قارئ المجموعة رديفةً لنصوصها التدوينية. يقف عندها. يقرأها، باحثاً عن الشفرات الصورية التي تتوازى والشفرات في النص الكتابي، وصولاً إلى المدلولات المشتركة. والفنانة اتخذت التكعيبية طابعاً لنصوصها الصورية (ص7 12 18 38) باستثناء نص سريالي (ص24). (أوراق لم تعد سرّاً) جاءت مجموعةً تداخلت فيها شفرات الصورة بشفرات التدوين. وغدا الاثنان (الصورة والتدوين) مدّاً من نتاج فني / أدبي يطالعهما المتلقي بقراءة واحدة. يبدأ مفتتح المجموعة ببيان إشهاري أعطته عنوان (افتح لكم قلبي، فادخلوه) ابتدأته برغبة اطلاع المتلقي علي رغبتها في البوح قبل أن ينطفيء سراجها وتلفها الأبدية معلنة أنها ترتع في (نشيد سردي مفعم بالأمنيات العالقة في منافي التحقيق.. ص4) وتجاهر بمسؤوليتها الكبيرة كامرأة أناطت لها الدنيا مهمّة أن لا تكون قطعة أثاث كما أرادت لها الأفكار الصلصالية أن تكون وكما انهمك المثقلون بالديجور من أجل تهميشها وتعطيلها. لذلك نلتقيها علي قارعة الهتاف صريحةً تعلن (بمكابرة أحمل العالم، إن لم يكن كلّه فعلى الأقل الجزء الذي انتمي إليه.. ص4) هذا الانتماء الإنساني الذي سعت أن يكون لكل البشرية لكن المعيقات التي تترجمها مَصدّات لمطامحها الكبيرة تجعل منها خالقة احتمالية تخص عالمها الأنثوي على أقل تقدير، مصمِّمةً على أن (تصنع من إقصائها وجوداً.. ص4) النص لدى صانعة الخطاب يأتي محملاً بمحمولات ثقيلة من الألم والعاطفة. فهي توغل عميقاً في قرارات النفس للمرأة العراقية بوصفها مرموز الثبات العراقي وهوية الصمود في زمن الويلات والحروب والتدمير المبرمج. تؤثر فيها الأحداث اليومية فتتعامل معها على محمل الألم، مفشية كل ما في المكنونات من عاطفة رغم محاولتها الإبقاء على ما تبقى من جَلد في جيوب صبرها الناضب. فلا يمر استشهاد عثمان وهو يتحرك بهمة الشباب العراقي ذي النخوة في إنقاذ أهله الموشكين علي الغرق في حادثة جسر الأئمة المعروفة مرور النسيان أو اللا اكتراث. ولم يمر استشهاد الشاعر رحيم المالكي مرور القراءة العابرة في صحيفة أو خبر في فضائية ؛ لا ولا تغيب بغداد عن ذاكرتها. فهي في حوار دائم معها وإن غمرها الدم وهجر شوارعها المحبون هاربين من الحقد الأسود للغرباء (إني أسألك بالتجلي ؟ إلا زال أصيلك يشيع في النفس نزاعاً ؟.. مهجتي تناجيكِ كصرخة ملهوف.. هل تسمعينني ؟.. ص33) مثلما تؤرخ لزمن الحصار في العقد الأخير من القرن العشرين. الحقبة التي قصّر الكثير من الكتاب في رصدها وتوصيفها وانشغلوا في هموم ذاتية أو كونية لم يكن لها أي أهمية أو تأثير حين ندخلها اليوم لدراستها. والخالقة في باب (مذكرات امرأة.. تدوين في فصول الحصار) ترصد معاناة المرأة العراقية وهي تقود عائلة مرهقة ومتعبة سيق ربّها إلى معسكرات (الجيش الشعبي) سيئة الصيت وقالت لها الأيام احملي أثقال جوع الأبناء وانسجي من الصبر أوشحة وجدران للتدرّع من عواصف القدر المجنون الذي طبّل له الأخوة والأعداء تاركين العراقيين في مهب السحق والمحق والموت البطيء. في هذه الحقبة استبدلت المرأة العراقية مساحيق التجميل بصفرة البشرة، وتألق العيون بذبول الأجفان متخلية عن كل ما يشي إلى الترف من اجل الحفاظ على الكيان العائلي وصون شرف الأبناء و (استبدلت الزهور بشتلات الكرفس والباذنجان لسد العوز اليومي..) وهو رصد صادق وأمين أدخلت الكاتبة في ميدان التوصيف. وتستحضر الشاعرة مشاهد عديدة غارقة في الألم والأحزان في واحدة من حفنة رسائل.. تستعيد تلك الأحداث التي تكرَّست تاريخاً وحفراً في الذاكرة البشرية يوم منحت المحتل الأمريكي في العام 1991 فسحة للنظام المهزوم كي يستعيد هيبته الممرغة في وحل الانكسار الفظيع فاندفعت العائلات البريئة هاربة من هول الرعب وتخمينات ما سيفعله أزلام النظام المعفَّرة وجوههم بتراب الذل والخنوع في أبناء شعبهم وما سيتقمصون من وجوه ذئبية حاقدة تبغي استعادة هيبة ممزقة من أجل أن يقولوا أننا أقوياء وقادرين على إعادة الهيبة المتهشمة. (وهناك حيث ركضنا خوفاً علي أولادنا من العنقاء بين الجبال لاهثين، دون ذنبٍ سوى أننا ننتمي إلى الحياة شوارع التحدي، ولا مجيب ! ظلت صامتة تلك الجدران ! لا مجيب !) ص21 وإذا كان العام 1991 صار وشماً حفرياً على جبين الوطن يحكي الهزيمة المريعة لنظام عنيف قاسي أرعن مثلما يقص حكاية القتل الشمولي والمقابر الجماعية وعودة النظام لاستهتاره بمقدرات الإنسان العراقي فان العامين 2006 و2007 أرّخا لهمجية الإرهاب القادم من وراء الحدود وانطلاء حقد الأعداء على الطوائف التي كانت متحابة ومتآلفة. عامان كان المثقفون العراقيون مندهشون وحيارى على ما يشهدون من مآسي تحصل لأهلهم بأيدي الكثيرين من أهلهم. إن الذين جاءوا من خارج حديقة العراق الجميل ليقتلوا العطر ويسحقوا الورود بأمّيتهم وتخلفهم.. جاءوا ليقتلوا الموسيقى ويغتالوا المعرفة.. شرعوا يبثون عطن دواخلهم وعفنها في سماء الوطن الرائقة، وهذا فجّر لدى الأديب والمثقف العراقي روح الكتابة والتحدث با للاصمت فراح يكتب ويكتب لتستحي كتابته تأرخة يحكي للأجيال وضاعة وحقد القادم من بعيد وغباء وانخداع الداخل من قريب.. لم تشذ الشاعرة الربيعي عن التأرخة، لم تدر وأنظارها عمّا حصل : (كبّلوا الجدران بمكر.. شنقوا الألحان.. أصبحنا لا نسمع (جارة الوادي) ولا موسيقي (جسر القمر) لفيروز. لأن الجسر يذكر بأمواته، وب (عثمان) وبمواكب الأسى المسموم.. تجبّلت الشوارع بجثثنا.. أصبح الأولاد في الأزقة يحكون الدمار، ويبتاعون الرشاشات في الأعياد. ولا يكتبون (دار.. دور) بل (نار).. (نار.. انفجار))ص26 في (أوراق لم تعد سرّاً) وقد حملت خمسة أسرار تتبدّي ثراء الناصة الربيعي اللغوية وجمال التصوير الذي لا ينأى عن جمال الصورة التي تسكبها على القماشة في اللوحة الزيتية أو المائية. فلدى الربيعي مقدرة تغذيها موهبة مصقولة في التعبير وشعرية قادرة على إيصال المراد بأعذب التلقي وأيسره. جاءت الرسائل لتكشف عن أسرار جمالية لغوية للكاتبة أكثر أهمية من فحوى الأسرار الفعلية التي أرادت أن تكشفها. فاللغة في هذه الرسائل تثير لذاذة المتلقي وتدفعه إلى رغبة إعادة قراءتها. فالسرد عبر الرسائل استطاع أن يخلق مساحة إغراء توقع المتلقي في حبائلها لما تشيعه من أرائج متراغية يستعذبها ويرغب الإطالة في شيوعها. وإذا ارتأينا البحث في خبايا الأسرار / مواضيعها فأننا نقف عن ساردة/ شاعرة تأخذ بيدك إلي بحيرة الصورة المضمخة بألوان الحنين والبوح والترجي واللوعة والاستذكار والهمس بما تريد وما لا تريد البوح به في السر الأول (حلم) تكشف الكاتبة بلسان امرأة مفترضة عن الحنين الذي يأخذها إلى أعوام عَدت وهربت فتروح تبحث في سديم التلاشي عن ذلك الذي غدا طيفاً، راحلة على محفات الأحلام التي تمنحها قدرة استرجاعه : تحلم أنها بصحبة ذلك الطيف الذي تراءى لها في ريعان العمر لا زال معها.. مع نضوج عقدها طيف في سماء مضببة لا زالت تخاف أن ترسمه علانيةً في أوراقها. ص42 وفي السر الثاني (امرأة في عتمة المساء) تعري دواخلها فتنثر ملامح صورة الرجل الذي تسع بينها وبينه هوّة مديدة ومشاعر مريرة، ذلك أنّه لا يفقه أهمية أن يتماهى الرجل بامرأته خصوصاً حين تكون زوجة ينبغي أن تكون مكملة لاتزانه العاطفي.. إن إدراك فهم العلاقة الزوجية المثلى غائبة عنه / بعيد عنها : بلون الانهزام يرمي مفاتيحه يخدر في نوم، يعلوه شخير أحمق ذلك الشخير الذي يعترض صفو أنوثتها المسائية يلقي بجثته التي تترب إلى الرعاية الشخصية فوق مخدعه. ص43 السر الثالث (الملف الوردي لشاعرة).. ملف العلاقة التي حين تسترجع تفاصيلها عبر ملف احتفظت به لتراجع مضمونها تجدها في كل مرة أنها كانت أكثر وفاءً له ؛ هو ذلك الرجل (الذي يذكرها دوماً بأنها أكبر منه في كل شيء.. ص47). والكاتبة تتحدث علي هامش الحديث عن المرأة العاطفية المخلصة عن فحوى المرأة العراقية المُبتلاة بالإرث الثقيل من الأعراف، المُجبرة على تحمّل أوزار المجتمع برمته. مَن يهرب من فحوى بوحها ؟ مَن يقدر على التنصّل ممّا تسبَّبَ به عليها ؟ لذلك تندفع الكاتبة لتجسيد معاناة تلك المرأة المبتلاة بالحزن حتى وإن هاجمها الفرح، لذلك يغدو هذا الحزن كما لو كان لعنة على صفائها، ونقائها، وحرصها : (نحن هنا في بلاد (انكيدو) يختلط فرحنا بالحزن دوما. حتى بتنا لا نهدي الورود في كرنفالاتنا، بل اعتدنا أن نهدي المراثي) ويشير السر الرابع (حسم الأمر) قلق وهواجس / استرجاعات وتداعيات.. المرأة في فضاء مفتوح من اللاوضوح في المعالم. يبقى الرجل كما في أحلامها الثلاثة السابقة رمز المعادلة الأول ومهماز تحركها الشعوري : (كيف اخسره ؟! إنه الأجمل بين ما أمتلك من مقتنياتي الذاتية سأواجه الجميع.. وليسموه ما شاءوا) ص50 السر الخامس (اسمحي لي أن احبك).. سر اللقاء وما جري من تفاصيل، يأتي صوت المرأة المفترضة عالياً هذه المرّة وبصوت الأنا العليم حتى ليعلو على صوت الكاتبة.. إنها تتخلي عن الاتزان. تمزق شرنقة الأعراف !.. تتحلى بقوة رفض جبروتية تزيدها اللغة طاقة هائلة علي التعبير وتمنحها رحيق العبير لتعبر بكل دفائن الروح وعصارة القلب عن مواربة كل أبواب شوقها إليه فتتجلي آخر قول نسمعها توشوش همساً في أذنه أو تهتف صراخاً في عاليات السماء : ((سمعته من شباك ضيق في نفسه : اسمحي لي أن احبك.. أن تكوني لي.. أن احلم معك. إحساس انسلَّ كخيط ووخز وتين قلبي : احلم بلا نهاية.. هاجر بحلمك دوماً وامتلك مهجتي لبعض العمر.. لك أن تحلم.. احذر أن تصحو. انتبه ! فلحظة الحقيقة تحمل أسى مئات السنين من عمرك وعمري.. ولك خياران : إمّا أن لا تحلم.. أو لا تصحو أما أنا، فلن أسمح لك أن تحبني لأنني احبك كثيراً.) وتبقي (أوراق لم تعد سرّاً) رحيلاً أدبياً جمع الشعر بالسرد بالتشكيل وقدّمهما على طبق من استعذاب ودهشة ليطلعنا علي فنانة تشكيلية تماهت مع التدوين المفرداتي فأحسنت، وتمظهرت مع العشق للوطن والحبيب الطيف فأثَّرت، وخرجت لنا على مسرح الأدب متمكنة. تتجلي موهبتها في مقدرة الوصول إلى عمق الذات القارئة والحفر على ذاكرة القارئ.